الوصية

سليمان الحربي

2021-11-26 - 1443/04/21 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ضابط شرعي في مقدار الوصية 2/حكم الوصية بالمال 3/أخطاء في الوصية بالأموال 4/عدل الشريعة وكمالها.

اقتباس

إِنَّ هَذَا الخَطَأَ الكَبِيرَ وَالتَّصَوُّرَ الخَاطِئَ بِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ وَصِيَّةً مَالِيَّةً دُونَ الالْتِفَاتِ إِلَى حَالِ وَرَثَتِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَزَوْجِهِ أَوْقَعَ النَّاسَ فِي حَرَجٍ كَبِيرٍ، فَتَجِدُ الرَّجُلَ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

 

أَحِبَّتِي فِي اللهِ: رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: "لَا"، فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: "لَا"، ثُمَّ قَالَ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلْثُ كَبِيرٌ -أَوْ كَثِيرٌ- إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ"(أخرجه البخاري 1295، ومسلم 1628).

 

هَذَا الحَدِيثُ العَظِيمُ أَصْلٌ فِي ضَابِطِ مِقْدَارِ الوَصِيَّةِ بِالمَالِ، وَإِلَّا فَالوَصِيَّةُ مَشْرُوعَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ بِإِجْمَاعِ العُلَمَاءِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ أَوْ وَدَائِعُ أَوْ أَمَانَاتٍ وَنَحْوِهَا، فَهَذَا الحَدِيثُ بَيَّنَ أَنَّ المَشْرُوعَ فِي الوَصِيَّةِ فِي المَالِ هُوَ مُرَاعَاةُ الوَرَثَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ"، وَالْعَالَةُ: هُمُ الْفُقَرَاءُ. وَقَوْلُهُ: "يَتَكَفَّفُونَ" أَيْ: يَسْأَلُونَ النَّاسَ فِي أَكُفِّهِمْ.

 

فَتَأَمَّلَ وَتَمَعَّنَ فِي قَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ"؛ فَالرَّسُولُ يُوَجِّهَكَ أَنْ تَتْتُرَكَ لَهُمْ مَا يَجْعَلُهُمْ أَغْنِياءَ خَيْرٌ مِنَ الوَصِيَّةِ الَّتِي تُنْقِصُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَفَهَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الوَصِيَّةَ بِالمَالِ مُسْتَحَبَّةٌ مُطْلَقًا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَخِلَافُ قَوْلِ عَامَّةِ الفُقَهَاءِ، بَلِ المَرَدُّ فِي ذَلِكَ إِلَى حَالِ الوَرَثَةِ، بَلْ قَالَ العُلَمَاءُ: "إِنَّ أَكْثَرَ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُوصُوا وَصِيَّةً مَالِيَّةً، وَلَمْ يُنْقَلْ لِذَلِكَ نَكِيرٌ".

 

وَلِهَذَا تَأَمَّلُوا الآيَةَ العَظِيمَةَ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:180، 181]. فقوله: (تَرَكَ خَيْرًا) أَيْ: مَالاً، وَهُوَ المَالُ الكَثِيرُ عُرْفًا. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الاسْمُ فِي القُرْآنِ كِنَايَةً عَنِ المَالِ الكَثِيرِ وَالغِنَى، فَقَالَ اللهُ: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)[العاديات:8]. قِيلَ لِأَبِي مِجْلَزٍ -كَمَا عِنْدَ الطَّبَرِيِّ-: الوَصِيَّةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَاجِبَةٌ؟ قَالَ: "عَلَى مَنْ تَرَكَ خَيْرًا"( تفسير الطبري 3/387).

 

وَقَالَ شُعَيْبُ لِقَوْمِهِ: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ)[هود: 84]، يَعْنِي: الغِنَي.

 

وَدَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ مَرِيضٌ، فَذَكَرَ لَهُ الوَصِيَّةَ، فَقَالَ: "لَا تُوصِ، إِنَّمَا قَالَ اللهُ: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًاوَأَنْتَ لَمْ تَتْرُكْ خَيْرًا". وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ وَلَهُ وَلَدٌ كَثِيرٌ، وَتَرَكَ أَرْبَعَمِئة دِينَارٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "مَا أَرَى فِيهِ فَضْلاً".

 

وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -أَحَدِ الفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ- وَلَهُ سَبْعُمِئة دِرْهَمٍ، أَوْ سِتُّمِئة دِرْهَمٍ، فَقَالَ: أَلَا أُوصِي؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا قَالَ اللهُ: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا)، وَلَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ(أخرجه الطبري في تفسيره 3/395).

 

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: (وَأَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ مُحْتَاجُونَ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ؛ لِأَنَّ اللهَ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا). وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِسَعْدٍ: "إنَّك أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ". وَقَالَ: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ"(أخرجه البخاري، ومسلم).. وَالَّذِي يَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ مَتَى كَانَ المَتْرُوكُ لَا يَفْضُلُ عَنْ غِنَى الوَرَثَةِ فَلَا تُسْتَحَبُّ الوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَّلَ المَنْعَ مِنَ الوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: "إِنَّكَ أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً"، وَلِأَنَّ إِعْطَاءَ القَرِيبِ المُحْتَاجِ خَيْرٌ مِنْ إِعْطَاءِ الأَجْنَبِيِّ، فَمَتَى لَمْ يَبْلُغِ المِيرَاثُ غِنَاهُمْ كَانَ تَرْكُهُ لَهُمْ كَعَطِيَّتِهِمْ إِيَّاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنَ الوَصِيَّةِ بِهِ لِغَيْرِهِمْ، فَعِنْدَ هَذَا يَخْتَلِفُ الحَالُ بِاخْتِلَافِ الوَرَثَةِ فِي كَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ، وَغِنَاهِمْ وَحَاجَتِهِمْ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَدْرٍ مِنَ المَالِ، وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ: "مَا مِنْ مَالٍ أَعْظَمُ أَجْرًا، مِنْ مَالٍ يَتْرُكُهُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ، يُغْنِيهِمْ بِهِ عَنْ النَّاسِ".

 

وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ بَازٍ: "إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُوصِي بِالثُّلُثِ فَأَقَل، أَمَّا إِذَا كَانَ مَالُهُ قَلِيلاً فَالأَحْسَنُ عَدَمُ الوَصِيَّةِ بِالمَالِ، يَتْرُكُهُ لِلْوَرَثَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَالُهُ فِيهِ خَيْرٌ، وَفِيهِ بَرَكَةٌ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِي بِالثُّلُثِ أَوْ بِالرُّبْعِ أَوْ بِالخُمسِ فِي وُجُوهِ الخَيْرِ".

 

وَالعَجِيبُ أَيْضًا أَنَّهُ مَعَ فَقْرِهِ يُوصِي بِالثُّلُثِ، وَالرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلْثُ كَثِيرٌ"، فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ خِلَافُ الأَوْلَى، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ؛ لأَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : "الثُّلُثُ، وَالثُّلْثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ"(أخرجه البخاري، ومسلم).

 

وَقَدْ حَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمنِ السَّلَمِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَالثُّلْثُ كَثِيرٌ". وَأَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَوْصَى بِخُمُسِ مَالِهِ. (أخرجه البيهقي).

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[البقرة:180].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلى جَنَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: إِنَّ هَذَا الخَطَأَ الكَبِيرَ وَالتَّصَوُّرَ الخَاطِئَ بِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ وَصِيَّةً مَالِيَّةً دُونَ الالْتِفَاتِ إِلَى حَالِ وَرَثَتِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَزَوْجِهِ أَوْقَعَ النَّاسَ فِي حَرَجٍ كَبِيرٍ، فَتَجِدُ الرَّجُلَ لَا يِمْلِكُ إِلَّا بَيْتَهُ الَّذِي يَسْكُنُهُ الوَرَثَةُ، وَسَيَّارَتَهُ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ، فَيَتَحَرَّجُ النَّاسُ فِي حَقِّ المَيِّتِ، وَيَبْدَأُ الأَوْلَادُ إِمَّا بِالاقْتِرَاضِ، أَوْ بِبَيْعِ بَيْتِهِمْ وَسَيَّارَتَهُمْ لإِخْرَاجِ حَقِّ المَيِّتِ، مَعَ أَنَّ اليَقِينَ وَالمَجْزُومَ بِهِ أَنَّكَ لَا تُرُيدُ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ؛ فَلِمَاذَا إِذًا تُحْرِجُهُمْ وَتُوقِعُهُمْ فِي الحَرَجِ؟!

 

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي بَيْتِهِ، وَيَشْتَرِطُهُ لِمَنِ احْتَاجَهُ مِنَ الوَرَثَةِ، وَبِهَذَا تَنْدَفِعُ المُشْكِلَةُ. وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَقَدْ يَحْتَاجُ الوَرَثَةُ إِلَى تَغْييرِ بَيْتِهِمْ لِأَيِّ عَارِضٍ، إِمَّا بِسَبَبِ تَرْكِ النَّاسُ لِلْحَيِّ، أَوْ وُقُوعِ مُشْكِلَةٍ فِيهِ، أَوْ تَهَالُكِ المَبْنَى، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَهُمْ فُقَرَاءٌ وَلَيْسُوا بِأَغْنِياءٍ.

 

عِبَادَ اللهِ: شَرْعُ اللهِ كَامِلٌ لَا يَمُكْنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِمَا هُوَ خَيْرٌ لِلنَّاسِ، وَلِذَا وَجَّهَنَا اللهُ إِلَى هَذَا التَّشْرِيعِ العَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّ الأَفْضَلَ لِمَنْ مَالُهُ قَلِيلٌ أَلَّا يُوصِي وَصِيَّةً مَالِيَةً، وَأَنَّكَ إِذَا لَمْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنَياءَ فَلَا تُوصِ وَصِيَّةً مَالِيَّةً، وَاتْرُكْهَا لَهُمْ.

 

 وَالعَجِيبُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ المَالَ الَّذِي يُوَرِّثُهُ لأَوْلَادِهِ لِيْسَ فِيهِ أَجْرٌ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي تُثَابُ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنَ البَعِيدِ؛ فَهَذَا المَالُ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَى الوَرَثَةِ المُحْتَاجِينَ جَمَعَ بَيْنَ كَوْنِهِ صَدَقَةً وَكَوْنِهِ عَلَى الأَقَارِبِ، وَهَذَهِ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ بِاتِّفَاقٍ؛ حَيْثُ جَمَعْتَ بَيْنَ إِعْطَائِهَا لِلْفَقِيرِ وَبَيْنَ إِعْطَائِهَا لِلْقَرْيبِ، بَلِ الأَقْرَبِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: "مَا مِنْ مَالٍ أَعْظَمُ أَجْرًا، مِنْ مَالٍ يَتْرُكُهُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ، يُغْنِيهِمْ بِهِ عَنْ النَّاسِ"(أخرجه سعيد بن منصور في سننه).

 

وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمينِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "كَوْنُكَ تُبْقِي المَالَ وَلَا تُوصِ بِهِ حَتَّى إِذَا مِتَّ وَوَرِثَهُ الوَرَثَةُ صَارُوا أَغْنِياءً بِهِ، هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً لَا تَتْرُكُ لَهُمْ شَيْئًا يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، أَيْ: يَسْأَلُونَ النَّاسَ بِأَكُفِّهِمْ؛ أَعْطُونَا أَعْطُونَا".

 

فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المَيِّتَ إِذَا خَلَّفَ مَالًا لِلْوَرَثَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ، فَلَا يَظُنُّ الإِنْسَانُ أَنَّهُ إِذَا خَلَّفَ المَالَ وَوُرِثَ مِنْهُ قَهْرًا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ فِي ذَلِكَ، لَا بَلْ لَهُ أَجْرٌ؛ حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ: "خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً"؛ لِأَنَّكَ إِذَا تَرَكْتَ المَالَ لِلْوَرَثَةِ انْتَفَعُوا بِهِ وَهُمْ أَقَارِبُ، وَإِنْ تَصَدَّقْتَ بِهِ انْتَفَعَ بِهِ الأَبَاعِدُ. وَالصَّدَقَةُ عَلَى القَرِيبِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَى البَعَيدِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى القَرِيبِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ. قال -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الْقَرَابَةِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ"(أخرجه الترمذي 658، والنسائي 2582، وابن ماجه 1844).

 

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ الهُدَى وَإِمَامِ الوَرَى، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-:  (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ المَهْدِيينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلَيٍّ وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وَكَرَمِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِين.

 

 اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِكِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِكَ وَعَدُوهِمْ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِاليَهُودِ المُعْتَدِينَ وَالنَّصَارَى المُحَارِبِينَ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَكَ، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أُمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا يُرْضِيكَ، وَجَنِّبْهُمْ مَعَاصِيكَ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَى التَّائِبِينَ، وَاهْدِ ضَالَّ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ رُدَّهُمْ إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، اللَّهُمَّ ارْفَعْ مَا نَزَلَ مِنَ الفِتَنِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا.

 

عِبَادَ اللهِ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90]، فَاذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ العَظِيمَ يَذْكُرُكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

الوصية.doc

الوصية.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات