عناصر الخطبة
1/الشديد من يملك نفسه عند الغضب 2/من نماذج حلم النبي صلى الله عليه وسلم 3/ علاج الغضب 4/من المواقف التي يحمد فيها الغضباقتباس
الغضب يهجم على النفس وقد لا يستطيع العبد رده ولقد دلنا المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- على العلاج وكيفية التغلب على الغضب...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله.....
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل اتقوه واعبدوه وراقبوه في خلواتكم وجلواتكم اعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
عباد الله: إن الناس في هذه الدنيا تمر بهم الحوادث والنكبات، وتستهويهم التغيرات والشهوات، ولربما حدى بهم ذلك الداعي إلى تنكب طريق البشرية والسير في الأخلاق البهيمية عافانا الله وإياكم من ذلك، ولهذا كله تكاثرت النصوص المحذرة من تلك الأخلاق التي من اطلع عليها نفرت نفسه من كل الأسباب المفضية إليها أو المقربة نحوها.
ومن أعظم الأسباب التي تقود الناس إلى تلك الأخلاق المشينة الغضب وعدم التحلي بالحلم والأناة.
فالنبي المجتبى عليه من ربه -أفضل الصلاة والسلام- بين أن الغضب ليس بدلالة على الشدة وإنما هو دلالة على الخفة والطيش، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
فالحليم هو الشديد؛ لأنه استطاع أن يتغلب على نفسه، وفي هذا إشارةٌ إلى أن من لم يملك نفسه فلن يقدر على ملك غيره.
معاشر المسلمين: إذا ذكر عرش الحلم وحبس الغضب، فلا يسبق إلى الذهن أن يتربع عليه أحد من البشر سوى المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-، كيف لا وهو الذي من رآه هابه ومن جلس معه اطمأن إليه وأحبه، وما دعا الناس إلى الدخول في الإسلام كخلقه العظيم في الصفح والعفو، ولا يذهب الذهن بعيدا عن قصة فتح مكة، قوم آذوا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأخرجوه من بلده وهي أحب البلاد إليه، وآذوه بكل أنواع الأذى من السب والشتم، والرمي بالعظائم كالجنون والمرض والسحر والكهانة، ثم تحذير الناس من متابعته وصدهم عن سبيل الله كثيرا.
وأعظم من ذلك سعيهم الحثيث في قتله، ثم ها هو الحليم الكريم يدخل مكة فاتحا وقومه الذين صنعوا ما صنعوا قد نكسوا رؤوسهم فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، قد مر بأذهانهم كلُ أنواع الانتقام الذي سيقع عليهم وهم له أهل من جراء غلبة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عليهم، فإذا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يخطب الناس ثم يوجه الكلام إلى قومه الذين صنعوا ما صنعوا "ما تظنون أني فاعل بكم: فيقولون مشفقين عله أن يخفف عنهم العقوبة خيرا: أخ كريم وابن أخ كريم فيقول المصطفي عليه الصلاة والسلام: "أذهبوا فأنتم الطلقاء".
فلا يملكون إلا أن يدخلوا في دين الله أفواجا.
فيسلم حينها العظماء ويتوبون كأمثال هندَ بنتِ عتبة وعكرمةَ بنِ أبي جهل ويؤوب الشعراء ويعتذرون إليه كابن الزبعرى وكعب بن زهير فلا ينال الجميع منه إلا العفو والتغاضي
كيف لا وقد مدحه ربه، ممتنا بنعمته عليه و حاثا له على الثبات على ذلك (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آلِ عِمْرَانَ: 159].
وانظر إلى عظيم العفو والمسامحة في هذه القصة التي أخرجها البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى اللهم عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
وانظر إليه وقد فعل رجل من الأعراب ما يوجب تأديبه بالضرب ونحوه ولكنه -صلى الله عليه وآله وسلم- نظر بنظره البعيد إلى المصلحة في تألف قلبه وثباته على الدين، أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
وانظر إلى الحكمة الظاهرة في فعاله -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الحديث وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث معاوية ابن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكْلَ أمياه ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
لم يكن هذا الخلق مع الناس فقط بل كان دائما في كل وقت حتى مع أهل بيته، كما أخرج البخاري في صحيحه من حديث أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ فَجَمَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ: "غَارَتْ أُمُّكُمْ" ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ.
هكذا فليكن الحلم والأناة.
وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجسام
اللهم ارزقنا الحكمة والأناة في جميع شئوننا يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ...
أما بعد: فيأيها المؤمنون:
لقد حذر الرب سبحانه من الغضب ومتى ما وقع فعلى المرء المسلم أن لا ينقاد له (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى: 37]، ويقول سبحانه: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)[آل عمران: 134]. وكما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طبق الحلم والأناة على نفسه فلقد حث عليهما كثيرا وأبان فضلهما وحذر من مغبة مخالفتهما.
فها هو يثني على من تخلق بهما، ليقتدِ به الآخرون، أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال للأشج أشجِ عبدِ القيس رضى الله عنه: "إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة".
ولقد كانت وصاياه ونصائحه في ذلك كذلك أخرج البخاري في صحيحه من أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أوصني قال: "لا تغضب" فردد مرارا قال: "لا تغضب". وأخرج الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء".
وأخرج الترمذي من حديث ِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ".
أخرج الدار قطني من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يوقه".
عباد الله: الغضب يهجم على النفس وقد لا يستطيع العبد رده ولقد دلنا المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- على العلاج وكيفية التغلب على الغضب؛ فمن ذلك ما أخرجه أبو داود في سننه من حديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَنَا: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ".
وأخرج البخاري من حديث سليمان بن صرد -رضى الله عنه- قال: كنت جالسا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد" فقالوا له: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: تعوذ بالله من الشيطان فقال وهل بي جنون.
ألا فليتق الله كل امرئ منا وليكظم غيظه وليدرب نفسه على الحلم، ولا يكن ضيق العطن سريع الغضب إلا فيما يحمد الغضب فيه، فإن الغضب يحمد في مواقف منها الغضب غيرة على حرمات الله، كما كان -صلى الله عليه وآله وسلم- فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها.
ومنها كذلك: الغضب على العرض؛ فمن لم يغضب لعرضه أن يدنس وصف بالدياثة، بل عُدّ المقتول ُ في دفاعه عن عرضه شهيدا كما أخرج الترمذي من حديث سعيد بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قاتل دون أهله فهو شهيد".
معاشر المسلمين: لقد ابتلى الله تعالى بعضنا ببعض لينظر من يصبر ومن يطغى قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)[الفرقان:20].
ولكن ليحذر المسلم من أن يكون ممن يغضب لأدنى سبب، وإذا غضب نسى دينه وخلقه وقيمه فإن هذه هي صفة المنافق، "إذا خاصم فجر".
أيها المؤمنون: ليتعلم كل منا الحلم والتحلم، فإن النفس تعتاد بسرعة، ولنحذر من السفهاء أن يخرجونا من دائرة العقل والرزانة إلى دائرة الحماقة، ولنكن كما قال الأول:
يزيد سفاهة فأزيد حلما *** كعود زاده الإحراق طيبا
وقول الآخر:
إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخير من إجابته السكوت
اللهم وفقنا لهداك واجعل... اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق.... اللهم اغفر لنا جدنا وخطأنا وعمدنا وهزلنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم