عناصر الخطبة
1/ داء النميمة 2/ المقصود بالنميمة 3/ صفات النمام 4/ مخاطر النميمة ومفاسدها 5/ الحذر من النماماقتباس
حديثنا اليوم عن داء خطير، وجُرْم كبير، يُوَلد أعظم الشرور، ويُنتِجُ أشدّ المفاسد، كمْ أدْمِيَتْ به من أفئدة، وقرحَتْ من أكباد، وقطعتْ به من أرحام، وقتلَ به من أبرياء، وعُذبَ به من مظلومين، وانتهكتْ به أعراض، وتفككتْ به من أسَر، وهُدمتْ به من بيوت؛ بل كم قد أوقِدَتْ به مِن فتن، وأثيرتْ من نعَرات، ووقعت من خصومات ونزاعات. أتدرون ما هو هذا الداء الخطير؟ إنه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
حديثنا اليوم عن داء خطير، وجُرْم كبير، يُوَلد أعظم الشرور، ويُنتِجُ أشدّ المفاسد، كمْ أدْمِيَتْ به من أفئدة، وقرحَتْ من أكباد، وقطعتْ به من أرحام، وقتلَ به من أبرياء، وعُذبَ به من مظلومين، وانتهكتْ به أعراض، وتفككتْ به من أسَر، وهُدمتْ به من بيوت؛ بل كم قد أوقِدَتْ به مِن فتن، وأثيرتْ من نعَرات، ووقعت من خصومات ونزاعات. أتدرون ما هو هذا الداء الخطير؟ إنه مرض النميمة؛ وما أدراك ما النميمة؛ مرض خطير، وشر مستطير، وسم قاتل، وخنجر مسموم.
وقانا الله وإياكم من شره، وحفظ الله مجتمعاتنا من عواقبه.
النميمة -يا عباد الله- نَقْلُ كلام الناس من قومٍ إلى قوم، على جهة الإفْسادِ والشَّرِّ.
النميمة كشفُ ما يُكره كشفه من الأقوال والأعمال.
النميمة إفشاء السر، وهتك الستر عما يكره كشفه.
النميمة تحريش بين الناس، وسعي بينهم بالإفساد.
والنمام هو الذي ينقلُ الأخبارَ بين الناس، يأتي إلى رجل أو امرأة فيقول: فلان يقول فيك كذا وكذا. ثم يرجع إلى الآخر مثل ذلك، بدافع من الحقد والكراهية، أو إرادة التقرب للمحكيّ له، أو رغبة في التفريق بين الأحبة، وإثارة الفتن، وزرع البغضاء في قلوب الناس.
النميمة كبيرة من قبائح الذنوب وفواحش العيوب، تدلّ على نفسٍ سقيمةٍ، وطبيعةٍ لئيمةٍ، مشغوفةٍ بهتك الأستار وكشف الأسرار.
النميمة جريمة تذكي نارَ العداوة بين المتآلفين، وهي عنوان الدّناءة والجبن والضّعف والدّسّ والكيد والملق والنّفاق.
النميمة داء يحمل على التجسس وتتبع أخبار الآخرين، وسرطان يفرق ويمزق المجتمعات الملتئمة.
والنمام كذاب أشِر؛ لا يستحق أن يُسمع لقوله، ولا أن يُلتفتَ إلى كلامه، لا يُطاع ولا يُؤخذ بنصيحته، قال الله -تعالى-: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم: 10 - 13] صفات متواليات، ونعوت متتابعات، كل خصلة أشد من الأخرى قبحا وفحشا، "حلاف" كثير الحلف؛ لأنه يعلم من نفسه عدمَ صدقِه وشكَّ الناس فيه وانتزاعَ الثقة منه. "مَهين" حقيرٌ ولو بدا جميلَ الهيئة بهيّ الطلعة؛ لأنه لم يكرم نفسه في داخله، ولم يُقدّرْ غيره من الناس. "همّاز" غمّاز باللحظ واللفظ والإشارة والحضور والغيبة. "مناع للخير" عن نفسه وعن غيره. "معتد" متجاوز للحق والعدل والإنصاف. "أثيم" واقع في المحرمات، والغ في المعاصي والمنكرات. "عتلّ" فظ قاس مكروه، ولو بدا فيه لطف متصنع ورِقة متكلفة. "زنيم" شرّير يحب الإيذاء، ويستمتع ببذل الشرّ وزرع الأحقاد.
فإياك أن تسمع أو تطيع مَنْ هذه صفاته؛ فإنه سيقودُك إلى الهلاك والخسران، حتى ولو ألبس نفسه ثوب الناصح المحب، يقول الحسن -رحمه الله-: "من نمّ إليك نمّ عليك" أي من نقل إليك كلام غيرك، فاعلم أنه سينقل كلامك إلى غيرك، فلا تطعه ولا تسترسلْ معه في الكلام.
النمام إنسان نسيَ نفسه، واشتغل بعيوب غيره، إن علم خيرا أخفاه، وإن اطلع على شر أفشاه، وإن لم يعلم هذا ولا ذاك امتطى مطية الكذب والافتراء.
النميمة شر وخبث ونفاق؛ فالنمام ذو وجهين؛ يقابل هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه، يتلوّن حسب المواقف والمصالح الدنيئة الحقيرة، فتراه يُثنِي على الواحد في وجهه، ويَذمّهُ عند الآخر.
إنه شرّ الناس بشهادة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلمَ-؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "إن شر الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه".
وعن أسماء بنت يزيد أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "ألا أخبركم بخياركم؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الذين إذا رؤوا ذكِرَ الله –تعالى-" ثم قال: "ألا أخبركم بشراركم؟ المشاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت».
النميمة سبب في تأجيج الصراعات، ووقوع النزاعات، وانتشار العداوات؛ فإذا وقعت النميمة بين الأسر والأزواج، أضْرِمت النارَ في البيوت العامِرة، ونشرت الفرقة في الأسَر الكريمة، وأوغرت الصدور، وتقطعت بسببها الأرْحام... وإذا وقعت بين الجيران والأصحاب، انقلبت الصداقة إلى عداوة، والمحبة إلى بغضاء.
وإذا وقعت بين الموظفين والمسؤولين وأصحاب الأعمال، أدت إلى مفاسد كثيرة وشرور عديدة؛ فتحرَم بسببها حقوق وتضيع مستحقات مالية ووظيفية.
إذا حلت النميمة في منزل دمّرته، أو في مؤسسة أفسدتها، أو في مجتمع أهلكته.
يقول حماد بن سلمة -رحمه الله-: "باع رجل عبدًا، وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة. قال: رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أيامًا ثم قال لزوجة مولاه: إن سيدي لا يحبك، وهو يريد أن يتزوج عليك، فخذي الموسى واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسْحَرَه عليها فيُحبك. ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلاً وترى أن تقتلك، فتناوَمْ لها حتى تعرف ذلك، فتناوَمَ لها فجاءت المرأة بالموسى فظن أنها تريد قتله، فقام إليها فقتلها، فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين".
تنحّ عن النميمة واجتنبها *** فإن النمّ يُحبط كل أجر
يثير أخو النميمة كل شرّ *** ويكشف للخلائق كل سرّ
ويقتل نفسه وسواه ظلماً *** وليس النّمّ من أفعال حُرّ
النميمة بريد الشيطان؛ منها يدخل الشيطان لإيقاع الناس في الشر والفتنة، جاء رجل إلى وهب بن منبه -رحمه الله- فقال: إن فلانا يقول فيك كذا وكذا، فقال: "أما وجدَ الشيطان بريدا غيرَك؟!".
فالنمام جند من جنود إبليس، يفرق بين المرء وزوجه، وهذا هو أحب الأعمال إلى الشيطان؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئا. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. -قال- فيدنيه منه، ويقول: نِعْمَ أنت" قال الأعمش أراه قال: "فيلتزمه".
النميمة سبب في عذاب القبر؛ فعن ابن عباس -رَضي الله عنهما- قال: مرّ النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بقبرين، فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، قالوا: يا رسول الله، لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" (متفق عَلَيْهِ، واللفظ للبخاري).
النميمة منكر من القول والفعل، من عواقبها الحِرْمانُ من الجنة، والعذابُ في النار؛ ففي الصحيحين عن حذيفة -رَضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله --صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "لا يدخل الجنة نمام"، وفي لفظ البخاري: "لا يدل الجنة قتات" (والقتات هو النمام).
وعن عمار بن ياسر -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "من كان له وجهان في الدنيا، كان له يوم القيامة لسانان من نار" (أخرجه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
لا تكن نماماً، ولا تطع النمامين؛ فإذا حُمِلتْ إليك نميمة فلا تتسرّع في تصديقها، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6]، بل عليك أن تنهى النمام وتنصحه، ولا تظن بالغائب سوءا، ولا يحملك ذلك على التجسس عليه.
جاء رجل إلى علي -رَضي الله عنه- فجعل يحدثه عن رجل آخر، فقال: يا هذا؛ نحن نسأل عما قلت، فإن كنت صادقًا مقتناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك. فقال: أقلنا يا أمير المؤمنين.
وقال رجل لعمرو بن عبيد: "إنّ الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال عمرو: يا هذا؛ ما رعيتَ حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلِمْهُ أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والله -تعالى- يحكم بيننا وهو خير الحاكمين".
إياك أن تقع فريسة للنميمة فهي لا تترك وحدة إلا فرقتها، ولا مودة إلا أفسدتها، ولا ضغينة إلا أشعلتها، ولا عداوة إلا جددتها.
ومَنْ يُطِعِ الواشِينَ لا يترُكُوا له *** صَديقًا وإن كانَ الحبيبَ المقرَّبَا
فاتق الله -يا عبد الله-؛ واعلم أن إخوانكَ مَن إذا فارقتهم حَفِظوك، وإذا غبتَ عنهم لم يَعيبوك، ومُبلغك الشرَّ كباغيه لك، ومن أطاع الواشي أضاع الصديق، ومن نم لك نم عليك، ومن بلغك السبّ فقد سبك.
اتقوا الله -عبادَ الله- وحافظوا على أخوّة الإسلام ورابطة الإيمان، فمن أراد أن يَسلمَ من الإثم ويبقى له ودّ الإخوان والأصحاب فلا يقبلْ قولَ أحدٍ في أحد.
فاللهم احفظ ألسنتنا من النميمة، واحفظ مجتمعاتنا من شر النميمة والنمامين، يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا إخوانا متحابين، على الخير متعاونين، واحفظنا واحفظ بلادنا من شر النمامين والماكرين والحاقدين، ومن كل عدوان وظلم وسوء يا رب العالمين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين أجمعين.
اللهم كن للمستضعفين المضطهدين من المسلمين في كل مكان، اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وأزل همهم، وأصلح أحوالهم، واحقن دماءهم.
اللهم احفظهم في أبدانهم، واحفظهم في أبنائهم، واحفظهم في أعراضهم، واحفظهم في ديارهم، واحفظهم في أوطانهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى زوجاته أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الأئمة الحنفاء المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم