عناصر الخطبة
1/مكانة الكتاب والسنة ومنزلتهما 2/الأسس الصحيحة في التعامل مع النصوص الشرعيةاقتباس
وعلى منهج التسليم ربَّى الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- الصحابةَ -رضوان الله عليهم-؛ فانقاد جميعهم واستسلموا طوعًا لنصوص الوحيين؛ لأنَّهم يعلمون وجوبَ الأخذ بهما، ويعرفون أنَّه لا خيار لهم غير الانقياد والاستلام...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: إنَّ الله -تعالى- بعث إلينا رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- مرشدًا ومبشرًا ونذيرًا، وأنزل معه كتابًا كريمًا ليكون دستور حياة لنا، ننهل من هديه، ونسير على دربه المستقيم، قال الله -تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)[النساء: 105]، وقال -سبحانه-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[المائدة: 48].
وأكرمنا -عزَّ وجلَّ- بمصدر ثانٍ للتشريع هو ما أوحاه الله -سبحانه تعالى- إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من السنة المطهرة، قال -تعالى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم:3-4]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه المقدام بن معدي كرب الكندي: "ألا إنَّي أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني على أريكته يقول: عليكم بالقران؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه! ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ألا ولا لقطة من مال معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروهم؛ فإن لم يقروهم فلهم أن يعقبوهم بمثل قراهم"(أخرجه أبو داود)؛ فجاءت السنة المطهرة مقررة ومؤكدة لما ورد في القرآن الكريم، ومفصلة لما أجمل، ومخصصة لبعض ما فيه من العام، ومقيدة لبعض ما أطلق فيه، ومفسرة لما أبهم، وفيها بعض التشريعات والأحكام الزائدة على ما في القرآن.
عباد الله: إنَّ المتقرر عند كل مؤمن أنَّ الله -تعالى- لم يرسل رسوله عبثًا، ولم ينزل الكتاب لعبًا ولهوًا، بل لحكمة عظيمة وغاية جليلة، تتلخص في امتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه وزجر، والتعامل مع هذه النصوص كما ينبغي؛ فيجب علينا أن نسلك معها الطريق الأصوب، والسبيل الأقوم، وذلك بأن يكون تعاملنا معها منطلقًا من عدة أسس، أهمها:
أولاً: الإيمان والتسليم المطلق بنصوص الكتاب والسنة الصحيحة؛ بحيث لا نرد منها شيئًا ولا نعارضها بشيء؛ لا بعقل ولا بذوقٍ ولا بمنامٍ ولا بكشفٍ ولا غير ذلك، بل يجب أن نقف حيث تقف النصوص، ملتزمين بقوله الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الحجرات:1].
وعلى منهج التسليم ربَّى الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- الصحابةَ -رضوان الله عليهم-؛ فانقاد جميعهم واستسلموا طوعًا لنصوص الوحيين؛ لأنَّهم يعلمون وجوبَ الأخذ بهما، ويعرفون أنَّه لا خيار لهم غير الانقياد والاستلام؛ امتثالاً لقوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)[الأحزاب:36].
ثانياً: ينبغي علينا أن نؤمن إيمانًا جازمًا بأنَّ الكتاب والسنة اشتملا على جميع أصول الدين ومسائله، وأن نتيقن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيَّن جميع الدين، ووضح أصوله وفروعه، وباطنه وظاهره، وعلمه وعمله؛ فكتاب الله -تعالى- وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- هما العمدة في معرفة الدين القويم.
وهذه هي طريقة الصحابة ومن تبعهم بإحسان؛ فلم يكن أحد منهم يَقبل من أيِّ أحد أن يعارض القران ولا السنة بمعقوله أو بما يدور في خياله، بل يُنظر في جميع أقوال الناس وما يبدونه من آراء، ويُعرض كل ذلك على الكتاب والسنة؛ فيقبل منها ما وافقهما، ويرد من ذلك ما خالفهما، قال -تعالى-: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)[الأنعام:38]، وقال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)[المائدة:3]، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَايْمُ اللَّهِ، لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ"(أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني).
وثالثاً: أن نعتقد أنَّه لا نسخ في الأخبار، ولا في أصول الدين؛ فمسائل العقيدة، وكذلك الأخبار التي تأتي في نصوص الوحيين لا يدخلها أبدًا نسخٌ ولا تعديل.
ومن فوائد الاعتقاد بأنَّ أصول الدين ثابتة، وأنَّه لا يدخلها نسخٌ وتعديل: أنَّ فيه تحقيقُ صفة العلم لله -تعالى-، وفيه أيضًا الاقتداءُ بكل الرسل والأنبياء، وفيه كذلك السلامةُ لمن يعتقد ذلك من أن يوافق أهل الأهواء والابتداع؛ كالرافضة.
رابعاً: أن نرد التنازع إلى الكتاب والسنة وذلك في أصول الدين وفروعه، وهذا مقتضى من مقتضيات الإيمان، قال -تعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء:59]، وقال -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء:65]، وفي الحديث: "فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي".
خامساً: درء التعارض بين نصوص الكتاب والسنة، قال -تعالى-: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)[النساء:82]؛ لهذا كان ممَّا ينبغي ويجب اعتقادُه ضرورة الاتفاق بين نصوص القرآن الكريم والسنَّة، وأن ننفي الاختلاف والتعارض بينها، وأنَّ ما يُظنُّ من أنَّه اختلاف وتعارض بين بعض تلك النصوص فذلك فقط حسبَ الظاهر لا في نفس الأمر.
وما كان من ذلك في الظاهر فإننا نسلك معه هذه الطرق بالترتيب:
أولًا: أن نطلب الجمع بين الدليلين.
ثانيًا: إن لم يتيسر الجمع بينهما فإننا ننظر إلى تاريخ كلٍّ نص منهما؛ لمعرفة النص المتأخر؛ ليكون ناسخًا، والآخر منسوخًا.
ثالثًا: إن تعذَّر علينا العلمُ بالتاريخ فإننا نعمد إلى الترجيح، وله وجوهٌ كثيرة نصَّ عليها العلماء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد النّبي الأمي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
عباد الله: كذلك مما ينبغي اعتقاده في النصوص الشرعية: أنه لا يعارضها شيء البتة من المعقولات الصريحة؛ وذلك لأنَّ الله -تعالى- هو الذي خلق العقل وجعل -تعالى- من وظائفه أن يفهم عنه ويعقل شرعه ودينه؛ فمسائل الشريعة المطهرة ليس فيها أبدًا ما يرده العقل السليم، بل كل شيءٍ أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة، وما يقصر العقل عن فهمه وإدراكه من مسائلها فهذا لعظم شريعة الله؛ فالشريعة المكرمة قد تأتي بما يحير العقول لا تأتي بما تحيله العقول.
ومما يجب علينا تجاه نصوص الشرع: أن نؤمن بالمتشابه، وأن نعمل بالمحكم مما جاءنا في كتاب ربنا -جلَّ وعلا-، قال الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[آل عمران:7]، وقال نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"(رواه البخاري ومسلم).
إخوتي في الله: كذلك يجب علينا أن نأخذ فهم السلف الصالح لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة على أنه هو الحجة لفهمهما؛ فسلفنا الصالح من صحابة نبينا -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- والتابعين وتابعيهم هم أعمق صلة بكلام الله ورسوله، كما أنهم أصح ألسنة، وأطهرُ وأنقى سيرةً، زكاهم الله -تعالى- ومدحهم، ورضي عنهم -جلَّ وعلا-؛ فهم بلا شك خيرُ الأمَّة، كما أنهم أفقه الأمَّة بالقرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة، قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة:100]، وقال -تعالى-: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[التوبة:88]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"(رواه مسلم).
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه؛ فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم