المفهوم الخلقي في الإسلام

ناصر بن محمد الأحمد

2014-03-13 - 1435/05/12
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/اهتمام الإسلام بالأخلاق وعنايته بها 2/فضائل الأخلاق الحسنة في الإسلام 3/بعض مظاهر الأخلاق الحسنة 4/مواطن امتحان الأخلاق ومعرفتها 5/الارتباط بين العقيدة والأخلاق 6/بعض أخلاق اليهود 7/بعض أخلاق الرأسمالية 8/بعض أخلاق النصارى 9/بعض أخلاق الفرق الضالة 10/شمولية الأخلاق في الإسلام 11/مظاهر شمولية الأخلاق في الإسلام 12/قصص رائعة في تخلق المسملين بالأخلاق الراقية 13/اتصاف عمل الحيوانات والملائكة بصفة واحدة بخلاف عمل الإنسان

اقتباس

أيها المسلمون: ترتبط الأخلاق بالعقيدة ارتباطاً وثيقاً يفوق حد التلاحم والتمازج، ويستحيل معه تصور انفكاك إحداهما عن الأخرى بحيث يمتنع تخيل أخلاق مجردة عن العقيدة، أو عقيدة مجردة عن الأخلاق، مما يجعلنا نوقن أن كل الخصائص الأخلاقية المنحرفة هي لا محالة إفراز عقائد منحرفة، بينما الأخلاق النبيلة تظل دليلاً ساطعاً على انبثاقها وانبعاثها من وحي عقيدة نقية نائية عن التحريف وإيحاءات القصور البشري. وفي الوقت ذاته: توقن أن...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: لقد عُني الإسلام عناية بالغة بالأخلاق؛ حتى جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- المقصد من بعثته حيث قال: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" [رواه الإمام أحمد بسند صحيح].

 

وكانت الآيات التي تتنزل في مكة تحث على الإيمان، والتحلي بالأخلاق الفاضلة قبل أن يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وكان مما نزل منها قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون)[الأنعام: 151-153].

 

بل بلغت عناية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأخلاق: أن جعل يفكر وهو على فراش الموت في الخدم الضعفاء خشيةَ أن تُهدَر حقوقهم، فجعل ذلك من عامة وصيته: "الصلاةَ وما ملكت أيمانكم"[رواه أبو داود وابن ماجة وهو صحيح].

 

بالخلق الحسن مع الإيمان: يحصل الوئام والتآلف في المجتمع، يقول الله -تعالى-: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].

 

بالخلق الحسن مع الإيمان: يتمكن المرء من إصلاح ذات البين، والله -تعالى- يقول: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].

 

بالخلق الحسن مع الإيمان: تعمر الديار وتزيد الأعمار؛ ففي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "حُسْنُ الخلق، وحُسْنُ الجوار؛ يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار" [رواه الإمام أحمد بسند صحيح].

 

بالخلق الحسن مع الإيمان: تُصد هجمات الأعداء، فالعدو إنما يتسلل ويبث سمومه في الأمة المنهارة في أخلاقها، وأما الأمة التي تتمتع بالأخلاق الفاضلة؛ ففي حصانة ومَنَعة من كيده.

 

والملائكة قريبة من المؤمنين ذوي الأخلاق الحسنة، والشياطين بعيدة منهم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رجلاً شتم أبا بكر -رضي الله عنه- والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يتبسم، فلما أكثر رد عليه أبو بكر بعض قوله، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام، فلحق به أبو بكر، فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟ قال: "إنه كان معك مَلَك يرد عنك، فلما رددتَ عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان" [رواه أبو داود بسند صحيح].

 

فتأمَّل كيف جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الأخلاق الحسنة عواصم من كيد الشيطان.

والله -تعالى- يقول: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) [الشعراء: 222- 223].

 

فالشياطين إنما تقترن بمن يشابهها ويشاكلها.

 

أيها المسلمون: والمرء لا يكمل إيمانه إلا بحسن الخلق؛ ففي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا" [رواه الترمذي وهو صحيح].

 

فمن حُسن الخلق: التأدب مع الله بالإيمان به، وطاعته وعبادته دون أحد سواه، بل هو أَوْلَى ما دخل في حسن الخلق، فكل من كان حَسَن الخلق مع الخَلْق لكنه لا يعبد الخالق، فهو سيِّئ الخُلق؛ لأنه لم يحقق سيد الخُلق ألا وهو التأدب مع الخالق المحسن البَر الرحيم، بل لا يُقبل منه شيء من أخلاقه؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟ قال: "لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" [رواه مسلم].

 

سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: من أحب عباد الله إلى الله؟ فقال: "أحسنهم خلقا" [رواه الطبراني في الكبير].

 

المؤمن الحسنُ الأخلاق: محبوب عند رسول الله قريب من مجلسه يوم القيامة؛ ففي الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا"[رواه الترمذي بسند صحيح].

 

"ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق"[رواه أبو داود وهو صحيح].

 

بالأخلاق الحسنة مع الإيمان تُرفع الدرجات: ففي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم" [رواه أبو داود وهو صحيح].

 

وصاحب الخلق الحسن بإيمانه في أعلى الجنة: ففي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة -أي أدناها- لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه" [رواه أبو داود بسند صحيح].

 

والخلق الحسن مأمور ببذله حتى للحيوان البهيم: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- جَمَلاً فحنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذفراه -أي مؤخرة رأسه- فسكت، فقال: "مَنْ ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟" فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله! فقال: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتُدئبه أي تتعبه"[رواه أبو داود بسند صحيح].

 

وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" [رواه مسلم].

 

أيها المسلمون: والمرء إنما تُعرف أخلاقه في بيته مع أهله؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" [رواه الترمذي وابن ماجة وهو صحيح].

 

لأن الإنسان قد يصطنع خارج بيته خلقاً حسناً ويتصبر عليه؛ لأن وجوده مع الناس قصير المدى، فإذا لقي أهله كان أسوأ الناس خلقاً وأشحهم نفساً وأقلهم خيراً.

 

ولا شك أن من كان كذلك فهو محروم التوفيق؛ ففي البيت يُكتشف لين المرء من فظاظته، وكرمُه من بخله، وأناتُه من عجلته، ومَن ملَك نفسه عند أهله ظهرت خيريته، ومن لم يحسن تدبير بيته فكيف يحسن تدبير غيره؟.

 

وبالسفر والجوار والبيع والشراء تُعرف أخلاق الرجال؛ شهد رجل عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولم يكن يعرفه، فقال: ائت بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، قال: بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل، فقال: هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فعاملك بالدينار والدرهم اللذَيْن يُستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يُستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك.

 

أيها المسلمون: ترتبط الأخلاق بالعقيدة ارتباطاً وثيقاً يفوق حد التلاحم والتمازج، ويستحيل معه تصور انفكاك إحداهما عن الأخرى بحيث يمتنع تخيل أخلاق مجردة عن العقيدة، أو عقيدة مجردة عن الأخلاق، مما يجعلنا نوقن أن كل الخصائص الأخلاقية المنحرفة هي لا محالة إفراز عقائد منحرفة، بينما الأخلاق النبيلة تظل دليلاً ساطعاً على انبثاقها وانبعاثها من وحي عقيدة نقية نائية عن التحريف وإيحاءات القصور البشري.

 

وفي الوقت ذاته: توقن أن الأخلاق المنحرفة برهان على وجود الأخلاق المستقيمة؛ كالنقود المزيفة تكون دليلاً على وجود النقود الصحيحة.

 

والشرك في حد ذاته صفة أخلاقية تستجمع كل الشرور، وتتولد عنها كل الأخلاقيات الهابطة، وكل السلوكيات المنحرفة؛ لأنه منهج استكباري يستنكف صاحبه أن يكون عبداً لله، وقد كان أول سلوك من هذا القبيل ما جاهر به إبليس أمام الله -تعالى-: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 34].

 

والتزييف اليهودي للتوراة كان وراء تشبع الروح اليهودية بسفاسف الأخلاق التي نالت من قداسة الأنبياء وطهارتهم حين رمتهم بسلوكيات لا تليق بهم، متهمة نوحاً -عليه السلام- بالسكر ومضاجعة بناته، ومتهمة داود -عليه السلام- بالافتتان بزوجة أحد قواده والتآمر عليه، والتحريف اليهودي للتوراة كان وراء العقلية اليهودية في تأصيل أخلاقيات التزوير، وطمس الحقائق، وكتمانها: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 146].

 

والأخلاق الرأسمالية، هي نتاج طبيعي للواقع العقدي المنحرف، ولذا جاءت هذه الأخلاق أشد فتكاً بالإنسان وأكثر تهديداً له، وإنها مهما بدت ملاذاً آمناً فلن تكون حلاً للمعضلة الأخلاقية التي تلوي اليوم عنق أوروبا وأمريكا، والانهيار الاقتصادي وإفلاس مئات البنوك ما هو إلا أثر من آثار الانحراف العقدي الأخلاقي الذي يبيح الربا لنهب ثروات الآخرين.

 

ذكر أحد الدعاة: أنه أثناء زيارته لأمريكا كان ذات مرة جالساً في حديقة فاقترب منه رجل أبيض، وسأله: من أين أنت؟ فأجاب: من مصر، فرد عليه قائلاً: إذن أنت مسلم؟ قال: نعم، قال: إذن حدثني عن الإسلام؟ فأخذ يحدثه عن الإسلام، والرجل منصت باهتمام حتى أنهى حديثه، عندها قال الرجل: جميل ما قُلته، ولكن الدولار هو الإله الوحيد الذي أعرفه!.

 

هكذا حولت الرأسمالية الإنسان إلى عبادة إله جديد هو الدولار، فزادته تعاسة على تعاسة، قال صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار".

 

ولقد ديست كل المكارم الأخلاقية، فاختفت عن الوجود الفعلي بقايا الأخلاق الربانية المتناثرة في صفحات الإنجيل المحرف مغمورة بما يعرف بأخلاق النتائج، وأصبح الرأسمالي لا يرى حرجاً من إبادة شعوب وأمم بأكملها؛ كما فعل بالهنود الحمر بحثاً عن الذهب الأصفر، وكما فعل مع سكان مستعمراته في إفريقيا حيث اقتاد منهم الألوف بعد أن نهب خيرات أوطانهم مكبلين بالأغلال في الأعناق، والأيدي والأقدام، استغلالاً لسواعدهم، وقوة أجسامهم في استثمار اقتصادي لا يعود نفعه إلا إلى الرأسمالي ذاته.

 

أيها المسلمون: ذكرنا قوة ارتباط الأخلاق بالعقيدة، وأن أي انحراف في العقيدة ينتج عنه انحراف أخلاقي.

 

ولهذا كان من أخلاقيات النفاق؛ كما ورد في السنة: الكذب في الحديث، والإخلاف في الوعد، والخيانة في الأمانة، والغدر في العهد، والفجور في الخصومة.

 

كما أن الفِرَق المبتدعة التي انحرفت عن مسار أهل السنة والجماعة تنفرج عندها زاوية الانحراف الأخلاقي بقدر انحرافها عن منهج العقيدة الصحيحة، ففي التصوف المنحرف نجد الوله بالمردان، والافتراء على الله ورسوله.

 

وفي منهج الرفض يتضخم التدين بازدراء الصحابة، ويتبوأ التخلّق بأخلاقيات الكذب باسم التقية مكاناً علياً، كما أن أكل أموال الناس بزعم استحقاق الخمس يعد من صميم المعتقد عندهم.

 

وعلى قسط من هذه الأخلاقيات ينطوي التوجه الخارجي القائم على قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان.

 

نسأل الله السلامة والعافية...

 

بارك الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: المفهوم الخلقي في الإسلام يشمل نشاط الإنسان كله، فالسياسة لها أخلاقها، ومنبثقة من قاعدة أخلاقية، والاقتصاد له أخلاقياته، ومنبثق من القاعدة الأخلاقية العامة للإسلام، والنشاط الجنسي، والنشاط الفني، والنشاط الفكري، والنشاط العلمي، لا شيء على الإطلاق مما يبذله الإنسان في الأرض من نشاط يمكن أن تكون له قوانين قائمة بذاتها؛ كما يقول العَالَم الغربي، في الإسلام لا شيء يخرج عن قاعدة الأخلاق.

 

الإسلام يقول: إن هناك سياسة تسوس أمور الناس، هذه السياسة تقوم على الحق والعدل، وهي مقاييس أخلاقية في الوقت التي هي مقاييس عقدية أيضاً؛ لأن السياسة جزء من العقيدة مبنية على الأصل العقدي الذي يشمل كل النشاط البشري، ومصطبغة بالصبغة الأخلاقية، فالسياسة لها أخلاقياتها، خذ هذا المثال من تاريخنا الإسلامي الذي نبغي اليوم أن نعود إليه مرة أخرى:

 

حين قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "اسمعوا وأطيعوا".

 

تصدى له سلمان الفارسي -رضي الله عنه- يقول: "لا سمع لك علينا ولا طاعة حتى تبين لنا هذا البرد الذي ائتزرت به من أين لك هو؟".

 

هذا هو المقياس الخلقي للسياسة، هو تعامل سياسي بين الحاكم والمحكوم، قائم على القاعدة العقدية، ومتسم بالسمة الأخلاقية.

 

وحين لم يغضب عمر لهذه القولة واستجاب، وقال: "لِمَ؟".

 

وحين أفهمه سلمان أنه يتساءل عن البرد، فرد عمر، وقال: "يا عبد الله بن عمر ينادي ابنه عبد الله ناشدتك الله، هذا البرد الذي ائتزرت به أهو بردك؟" قال: "نعم".

 

ثم التفت إلى المسلمين، يقول: "إن أبي نال برداً واحداً كما ناله بقية المسلمين، ولكنه رجل طويل لا يكفيه برد واحد، فتركت له بردي".

 

هذا هو مقياس أخلاقي في الوقت الذي هو مقياس عقدي، وفي الوقت الذي هو القاعدة التي تقوم عليها السياسة في الإسلام.

 

مثال آخر من فجر التاريخ الإسلامي المضيء بكل شفافية: حين يجيء على بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيجد درعه مسروقاً عند واحد من اليهود، فيقول له: هذه درعي، فيقول: لا ليست درعك، فيقول له: تعال إلى القاضي.

 

هذه هي الصورة الإسلامية العقدية الأخلاقية؛ يذهب به إلى القاضي ليشكوه، ويقول: الدرع درعي ولم أبِع ولم أهِب، فيلتفت القاضي إلى اليهودي، لا يحكم في القضية ابتداءً، وهو يعلم صدق علي -رضي الله عنه-، ويعلم القاضي علم اليقين أنه صادق في دعواه، فلا يحكم بعلمه، إنما يقول لليهودي: يا يهودي، ما تقول في قول أمير المؤمنين؟ فيقول قولة ملتوية: الدرع درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب كلمة كما ترونها على طريقة اليهود في الالتواء والخداع فيلتفت القاضي إلى أمير المؤمنين ويقول له: يا أمير المؤمنين هل من بيّنة؟.

 

هذه قمة الأخلاقيات السياسية الإسلامية، والقمة الأخرى: يبتسم عليّ -رضي الله عنه- ويقول: صدق شريح وهو القاضي ما لي بينة، فيحكم القاضي وتلك هي القمة الثالثة فيحكم القاضي بالدرع لليهودي وهو يعلم أنها لعلي أمير المؤمنين، ولكن تنفيذاً للشريعة الربانية: "البينة على من ادعى".

 

وعلي -رضي الله عنه- مُدَّعٍ، أي هو رافع الدعوى على اليهودي: "البينة على من ادعى".

 

هل لك بينة؟ ما عندي بينة! انتهى الأمر!.

 

إذا كنتم تريدون بقية القصة فهي معروفة: ينطلق اليهودي بالدرع بضع خطوات، ثم يعود فيقول: أمير المؤمنين يشكوني إلى قاضيه فيقضي عليه!.

 

إن هذه لأخلاق أنبياء! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيقول علي -رضي الله عنه-: أما وقد أسلمت فهي لك.

 

أيها المسلمون: هذا نموذج من الأخلاق الأساسية الإسلامية مبنية على قاعدة أخلاقية، فلا شيء في الإسلام منفصل عن الأخلاق، هكذا تكون السياسة في الإسلام على قاعدتها العقدية مبنية على قاعدة أخلاقية هي الصورة التنفيذية للعقيدة الربانية.

 

الاقتصاد هكذا، والاجتماع هكذا، وعلاقات الأسرة هكذا، وعلاقة المعلم بتلاميذه والتلميذ بأستاذه هي هكذا، منبثقة من عقيدة وذات طابع أخلاقي.

 

لا يوجد في التصور الإسلامي ذلك الانفصام بين النشاط البشري وبين قاعدته الخلقية.

 

لا يكون الإنسان بلا أخلاق، أو لا يكون عمل الإنسان بعيداً عن الميزان الخلقي إلا إذا كان الإنسان ذا طبيعة واحدة، مثل الحيوان، أو الملَك.

 

الحيوان ذو طبيعة واحدة، مفروض عليه سلوكه، لا اختيار له في السلوك، ومن هنا ليس هناك ميزان خلقي للحيوان؛ لأن الميزان الخلقي يستدعي حرية الإنسان في أن يعمل أحد عملين.

 

ومن هنا يصير أحد العملين أخلاقياً، والآخر غير أخلاقي، أما إذا كان الطريق واحداً ومفروضاً، فهنا لا يوجد ميزان خلقي.

 

الحيوان لا يوجد ميزان خلقي لأعماله.

 

والملَك كذلك لا يوجد ميزان خلقي لأعماله؛ لأنه لا يملك إلا طريقاً واحداً هو طريق العبادة، روح تعبد الله، ولا تملك المعصية: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].

 

هذه طبيعة الملَك، ومن هنا لا نقول: إن الملَك فاضل، ولا نوازن بين ملَك وملَك على أساس خلقي، لكن الإنسان: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:7-10].

 

(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: 10].

 

(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان: 3].

 

ما دام له طريقان، وما دامت له القدرة على الاختيار بين أحد طريقين، فالحكم الأخلاقي ملازم لأعماله، ولا يمكن أبداً في أية لحظة: أن ينفصل العمل الإنساني عن الميزان الخلقي.

 

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

 

اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأعمال والأدواء...

 

 

 

 

المرفقات

الخلقي في الإسلام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات