عناصر الخطبة
1/ تأملات في سيرة أسد الله حمزة 2/ نشأة حمزة وإسلامه 3/ أثر إسلام حمزة على الصحابة 4/ جهود حمزة في نصرة الإسلام والمسلمين 5/ استشهاد حمزة ووفاته 6/ أهم الدروس والعبر المستفادة من قصة حمزة بن عبد المطلب.اقتباس
وقوفنا اليوم مع صحابي جليل من صحابة رسولنا الكريم، وعلَم من أعلام الإسلام، كريم له في الإسلام سابقة، وعند رسول الله مكانة ووزارة ومنزلة، وعند ربه فضل وشهادة، سيفه نصرة على الأعداء، ويده تضرب بكل قوة على الألداء. أسلم فكان لإسلامه شأن عظيم، وآمن فكان لإيمانه ترحيب كبير، فرح به المسلمون؛ لأن الله أعز به الدين، وفرح به رسولنا الكريم؛ لأنه من الأقربين، عزيز في قومه مهاب في قريته، أسد من الأسود، وبطل من الأبطال المعلَّم بريش النعامة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العظيم في قدره، العزيز في أمره، القوي في قهره، العالم بحال العباد في سرّه وجهره، الجائد على المجاهد بفضله ونصره، وعلى المتواضع من أجله برفعه، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، أحمده على القضاء حلوه ومره، أحمده وحده لا شريك له إقامةً لذكره.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالبر إلى الخلق في بره وبحره صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، ما جاد السحاب بقبره، والشجر بظله، والماء ونهره.
عباد الله: اتقوا الله في أمره ونهيه، وحافظوا على دينكم وسلامة قلوبكم كل مؤمن في سره وجهره (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُوا وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].
تَخَفَّف مِنَ الدُنيا لَعَلَّكَ أَن تَنجو *** فَفي البِرِّ وَالتَقوى لَكَ المَسلَكُ
عباد الله: وقوفنا اليوم مع صحابي جليل من صحابة رسولنا الكريم، وعلَم من أعلام الإسلام، كريم له في الإسلام سابقة، وعند رسول الله مكانة ووزارة ومنزلة، وعند ربه فضل وشهادة، سيفه نصرة على الأعداء، ويده تضرب بكل قوة على الألداء.
أسلم فكان لإسلامه شأن عظيم، وآمن فكان لإيمانه ترحيب كبير، فرح به المسلمون؛ لأن الله أعز به الدين، وفرح به رسولنا الكريم؛ لأنه من الأقربين، عزيز في قومه مهاب في قريته، أسد من الأسود، وبطل من الأبطال المعلَّم بريش النعامة.
كان في جاهليته فتى شجاعًا كريمًا سخيًّا، كان أشد فتى في قريش، وأعزهم شكيمة، أسلم في السنة الثانية من مبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسلم فتفاجئت قريش، وعلمت أن نبي الله محمد قد عز وامتنع، وأن هذا الصحابي الكريم سيمنعه، فكفُّوا عنه كثيرًا من نيلهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من قرأ قصته كأنما يقرأ عن عمر -رضي الله عنه- لكنه ليس عمر، وكلاهما جليل القدر عظيم الصحبة عالي الشأن.
آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينه يوم هاجر وبين زيد بن حارثة عقد أول لواء فكان اللواء لوائه؛ إنه الفارس العظيم والشهيد المفضال، والمجاهد المنضال، سيد الشهداء، أبو عمارة عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنه حمزة بن عبدالمطلب -رضي الله عنه وأرضاه، ورفع في الفردوس مثواه، وجمعنا في الجنة عند مولانا ومولاه-.
مهما وصفت الشجاعة فلن توفيها حقها، ولكن مثل بالشجاعة حمزة تفي بأركانها، إسلامه شجاعة، وحياته شجاعة، وشجاعته لا سبيل فيها، وحياته لا سبيل في قلبه مع هذا الضعف والرخاوة، بطل من أبطال الدين الكبار، وشهم من الأفاضل مغوار.
ولإسلامه قصة مليئة بالبطولة، وقبل أن نعرف قصته دعونا نعيش شيئًا من حياته في جاهليته؛ حيث تربى في كنف والده عبدالمطلب بن هشام سيد قريش وسيد بني هاشم، فماذا عسى أن يكون هذا الولد!!
ومع أنه عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه أخوه من الرضاعة أيضًا، عاشا معًا ينهلان الشمائل والقيم العربية الأصيلة؛ بطولةً وشجاعةً وكرمًا وخبرةً، فارتبطت بينهم لا عمومة، ولكن صداقة متينة ووثيقة العرى.
كان حمزة -رضي الله عنه وأرضاه- أشد فتًى في قريش، شاهد حرب التجار بين كنانة ومنهم قريش وقبيلة قيس عيلان، وكانت أول تدريب لهذا البطل الكريم، وأول عمل شجاعي له، تحمل فيها أعباء القتال وبث الحرب.
وعودًا على بدءٍ ما سبب إسلام هذا الصحابي البطل عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ذلك أن أبا جهل -عليه من الله ما يستحق- اعترض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند جبل الصفا فأذاه وشتمه، ونال منه ما يكره؛ من العيب لدينه، والتضعيف له، فما كلمه -صلى الله عليه وسلم- وأعرض عن الجاهلين (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63].
ما كلم -عليه الصلاة والسلام-، ولا اشتكى رسول الله لأحد، لكن قضاء الله وقدره اقتضى أن تشهد الحادثة مولاة لعبد الله بن جدعان القرشي من مسكنها فوق الصفا، سمعت ما حدث، انصرف أبو جهل، فعمد لناد لقريش عند الكعبة، فجلس معهم لم يلبث أبو عمارة أن أقبل متوشحًا قوسه راجعًا من قنصٍ له يهجو كما يهجو الشجعان.
وكان من عادته المرور على أندية قريش، والوقوف عندها، والسلام عليهم، وكان أعز فتى فيهم كما سبق، كان يومئذ مشركا على دين قومه.
مرت المولاة فقالت له: "يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم آنفًا؛ وجده ها هنا فآذاه وشتمه، وبلغ ما يكره، ثم انصرف عنه"، فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، ولم يكلم محمدًا.
فاحتمل حمزة الغضب -لما أراد الله من كرامته- فخرج سريعًا لا يقف على أحد، كما كان يصنع يريد الطواف بالبيت متعمدًا لأبي جهل أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس، فضربه على رأسه ضربة فشجَّه شجة منكرة، ثم قال: "أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول"! فردَّ ذلك عليَّ إن استطعت.
وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقالوا: ما نراك يا حمزة إلا صبأت، فقال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي أمره ذلك منه، أنا أشهد أنه رسول الله، وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين، فقال أبو جهل: "دعوا أبا عمارة، لقد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا".
كانت -عباد الله- تلك هي بداية إسلام الصحابي والبطل عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وروي عنه أنه قال:
حمدتُ اللهَ حين هدى فُؤادي *** إلى الإسلامِ والدينِ الحنيف
لدينٍ جاءَ من ربٍّ عزيزٍ *** خبيرٍ بالعباد بهم لطيف
إذا تُليت رسائله علينا *** تحدَّر دمع ذي اللّب الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها *** بآياتٍ مبيّنات الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاعٌ *** فلا تغشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلّمه لقوم *** ولما نقض فيهم بالسيوف
ونترك منهم قتلى بقاعٍ *** عليها الطير كالورد العكوف
بعد إسلام هذا البطل قويت شوكة المسلمين أخذ حمزة يعلن دينه؛ لأنه لا يعرف الضعف، يعلنه في كل زمان ومكان، ويتحدى أبطال قريش ومنهم عمر بن الخطاب لأنه لم يسلم بعد.
واسمع إلى هذه الصورة من صور بطولة هذا الشاب، وهذا الصحابي الجليل، هذا عمر -رضي الله عنه- أراد أن يسلم، وعمر كان مؤذيًا لصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل إسلامه، أراد أن يسلم، فقال لخباب بن الأرت: دُلني يا خباب على محمد لآتيه فأسلم، قال: هو في بيتٍ عند الصفا، معه نفر من أصحابه.
فأخذ عمره سيفه متوشحه فعمد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه صحابته، فطرق عليهم الباب، قام رجل من الصحابة فنظر من خلل الباب، فعرف أنه عمر، وأنه متوشح سيفه، فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! هذا عمر بن الخطاب متوشحًا سيفه فانظر ماذا نفعل؟
قال حمزة -رضي الله عنه- وانظروا إلى هذين الشجاعين يتقابلان الآن، قال: "ائذن له فإن كان يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرًّا قتلناه بسيفه"، فقال عليه الصلاة والسلام: "ائذن له"، فأذن له الرجل، ودخل عمر -رضي الله عنه-، ونهض إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حجزته، أو بمجمع ردائه، ثم جبذه جبذة شديدة، وقال : ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله فيك قارعة؟ فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله؛ قال: فكبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكانهم، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينتصفون بهما من عدوهم.
وبعد إسلام عمر خرج المسلمون إلى شوارع مكة جهارًا نهارًا في صفين؛ أحدهما يتقدمه عمر، والثاني يتقدمه حمزة، فانظروا -رحمكم الله- على قوة عمر وبطشه، وشدته إلا أن حمزة قال بحقه: "وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه"، فلله درك يا أبا عمارة!!
هاجر -رضي الله عنه- قبل هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوقت قصير بدأ جهاد حمزة -رضي الله عنه- إذ بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سرية فيها ثلاثون راكبًا، حتى قيل إن لواءه أول لواء عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقيل أنه قال:
ألا يا لقومي للتحلم والجهل *** وللنقص من رأي الرجال وللعقل
وللراكبينا بالمظالم لم نطأ *** لهم حرمات من سوام ولا أهل
كأنا تبلناهم ولا تبل عندنا *** لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل
وأمر بإسلام فلا يقبلونه *** وينزل منهم مثل منزلة الهزل
فما برحوا حتى انتدبت لغارة لهم *** حيث حلوا ابتغى راحة الفضل
بأمر رسول الله، أول خافق *** عليه لواء لم يكن لاح من قبلي
هكذا قال -رضي الله عنه وأرضاه-، وقد شهد بدرًا، وأبلى فيها بلاء عظيما مشهودا عرفه الجميع، وهو من ابتدأ قتال المشركين في ذلك؛ ذلك أن الأسود بن عبد الأسود وهذه من صور شجاعته -رضي الله عنه- أخذ عهدًا على نفسه أن يدخل في ماء المسلمين وحوضهم، وحلف على ذلك فخرج إليه حمزة فضربه فبتر قدمه وهو دون الحياض، فوقع على ظهره أمام قومه تشخُب رِجْلُه دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تُبَرَّ يمينُه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
وردّاً على ذلك، خرج من قريش ثلاثة رجال هم: عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار وهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث (وأمهما عفراء) وعبد الله بن رواحة، ولكن الرسول أرجعهم؛ لأنه أحب أن يبارزهم بعض أهله وذوي قرباه، وقيل إن رجال قريش هم من رفضوا مبارزة هؤلاء الأنصار، فقالوا لهم: «من أنتم؟»، قالوا: «رهط من الأنصار»، قالوا: «أكفاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا»، ثم نادى مناديهم: «يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا»، فقال الرسول محمد: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي»، وبارز حمزة شيبة فقتله، وبارز علي الوليد وقتله، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة فضرب كل واحد منهما الآخر بضربة موجعة، فكرَّ حمزة وعلي على عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة وأتيا به إلى الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ومن شجاعته -رضي الله عنه- أن قاتل في بدر بسيفين، ما يقاتل بسيف واحدة، بل بسيفين بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واسمع ماذا قال أمية بن خلف كلمة سجلها التاريخ، وكان حمزة يعلَّم بريش نعامة في الحرب، فلما اقتاد أمية بن خلف أسيرًا وابنه معه فقال: يا عبد الإله وما كانوا يسمون عبد الرحمن، بل كانوا يقولون عبد الإله لا يؤمنون بالرحمن، قال يا عبد الإله من ذاك المعلَّم بريش نعامة؟ قال: ذاك حمزة بن عبدالمطلب، قال ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل، وقد قتل منهم حمزة يومئذ صناديدهم، ورمَّل نساءهم، ويتَّم أطفالهم؛ لكفرهم.
ألم تر أمرا كان من عجب الدهر *** وللحين أسباب مبينة الأمر
وما ذاك إلا أن قوما أفادهم *** فحانوا تواصوا بالعقوق وبالكفر
عشية راحوا نحو بدر بجمعهم *** فكانوا رهونا للركية من بدر
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
اللهم ألحقنا بصحابة نبيك -صلى الله عليه وسلم- واجمعنا بهم إنك على كل شيء قدير، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وتسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا، والصلاة والسلام على النبي المصطفى صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
عباد الله: هذه هي صور الأبطال شهد حمزة أحد وقتل من المشركين واحد وثلاثين نفسًا، وكان يوم أحد بعد أن كرَّ المشركون على رسول الله وصحبه كان بين رسول الله وبين المشركين فارس عجيب، وهنا وصل قدر الأجل؛ لأن الله -جل وعلا- قضى المنية على الأحياء كلهم، ولو كانوا شجعانًا أبطالاً، وصل قدر الأجل وحانت ساعة السعادة لينتقل من ألم الدنيا إلى نعيم الآخرة، هذا البطل الشهم الأبي إذ نالته يد الغدر، ما استطاع أحد أن يواجهه وجهًا لوجه، وأن يقتله، ما استطاع أحد يفعل ذلك إلا بالتحايل والغدر، لم يكن أحد يستطاع أن يواجه هذا الجبل فيقتله.
فخططوا له منذ أن كانوا في مكة، خططوا لحمزة بدأ التخطيط دعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيًّا يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.
خرج وحشي وهو يرى أن حربته تمتلك مفاتيح الحرية بعد أن كان عبدًا، خرج بها ليس له هدف إلا حمزة؛ كما صرح بذلك وحشي -رضي الله عنه وأرضاه- بعد إسلامه وكان حمزة يومئذ يقاتل بسيفين، وكان وحشي يترصد له ويترقب مواقعه لم يواجهه خشية من أن يقتله، قال: كنت أتخبأ وراء شجرة خشية من حمزة.
وبينما حمزة يقاتل ويقاتل بسيفين اثنين عثر فوقع على ظهره فانكشف الدرع قليلاً عن بطنه فضربه وحشي بحربته فقتله.
كان المشركون ينتظرون هذه اللحظة من صحابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يريدون أن يدفعون الثمن الغالي الكبير لو لم يخرجوا من أُحد إلا بهذا الشجاع البطل لكفى لأنه قتل صناديدهم.
وجاءت هند لتقضي وتشفي ما في صدرها، فلما رأت حمزة وقد قتل أباها وعمها وأخاها، فبقرت بطنه، وأخرجت كبده، وأخذت تلوكها إلا أنها ما استطاعت أن تبلعها فلفظتها. قال -صلى الله عليه وسلم-: "لو دخلت إلى بطنها لما مستها النار".
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتلمس عمه ورضيعه وصاحبه، فوجده ببطن الوادي، لكنه وجد قد بُقر بطنه ومُثِّل به، ولكن أيها الشجاع المغوار لا يضر الشاةَ سلخُاها بعد ذبحها.
حزن -صلى الله عليه وسلم- حزنًا عظيمًا على هذا الأسد وهذا البطل، وحلف في تلك الأثناء في غضبه ليمثل بثلاثين من رجال قريش، ولما رآه المسلمين يحلف حلفوا أن يمثلوا برجلات قريش، لكن الله لا يريد إلا العدل والإحسان فأنزل قوله (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل: 126- 127].
فعفا رسول الله وصبر، ونهى عن المثلة، وهذا هو الانقياد لأمر الله.
وقف -صلى الله عليه وسلم- على عمه البطل، وقال في حزن شديد: "لن أُصاب بمثلك أبداً، ما وقفت موقفا قط أغيظ عليَّ من هذا"، وقال: "جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع حمزة بن عبدالمطلب أسد الله، وأسد رسول الله".
وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حمزة وقد مُثل به فلم ير منظرًا كان أوجع لقلبه -صلى الله عليه وسلم- منه، فقال: "رحمك الله أي عم؛ فلقد كنت وَصولاً للرحم فَعولاً للخيرات".
وقال جابر -رضي الله عنه-: "لما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمزة لما رآه قتيلا بكى ولما رأى المثلة به شهق"، وقيل لما رآه قتيلاً شهق ولما رآه مُثِّل به صعق.
وأقبلت صفية -رضي الله عنها- وهي أخته لتنظر إلى هذا المشهد، فقال -صلى الله عليه وسلم- لابنها الزبير: "القها وأرجعها ألا ترى ما بأخيها"، فقال لها الزبير ذلك قال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك بالرجوع"، قالت: ولِمَ؟ وقد بلغني أن قد مُثِّل بأخي، وذلك في الله، فلأرضى بما كان من الله ولأصبرن، وأحتسبن إن شاء الله".
فلما جاء الزبير إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أخبره بذلك، قال: "خلوا سبيلها" أتت صفية ونظرت إليه، فصلت عليه، ودعت له، واسترجعت واستغفرت له، ثم أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدفن.
ذلك البطل الشهيد حمزة -رضي الله عنه وأرضاه- رحل مترجلاً إلى منازل الشهداء في دار الأتقياء، ما رضي بالهوان ولا الخنا ولا الدون، بل كان بطلاً همامًا شجاعًا قويًّا في دينه قويًّا في شكيمته، رضي الله عنك أبا عمارة وأرضاك، وجمعنا بك محبين لك في الفردوس الأعلى عند مولانا ومولاك.
وفي الخاتمة عباد الله، أسأل الله تعالى لي ولكم حسنها، هذه سيرة المعلم بريش النعامة الشهيد الهمام رسالة لأبطالنا على الحدود وهم يناضلون الأعداء، سيرة سيد الشهداء مضرب مثل للآباء في تربية الأبناء، سيرة أسد الله رسالة لكل والد كتب على ولده أن يحتسبه عند الله، سيرة أسد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحديث أخته صفية رسالة لكل أسرة وأم ولكل أخت أن تحتسب ما وقع بأهلها عند الله، وهكذا يكون الأبطال وعلى مثل ذلك يربى الأبناء فلا نامت أعين الجبناء والضعفاء.
اللهم أحببنا رسولك وما رأيناه وأحببنا أصحابه خدمة الدين وما رأيناهم، وإنا في شوق لهم، فاجعل حبنا لك وحبنا لرسولك وصحابة رسولك حجابا لنا من النار، يا عزيز يا غفار.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم