عناصر الخطبة
1/ واقعنا التربوي 2/ضعف المعايشة خلل تربوي 3/النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعايشته لأصحابه 4/مفهوم المعايشة 5/فوائد المعايشة 6/توجيهات للمربيناقتباس
هكذا يجب على كل مربي أن يكون، وأن يتأسى في تربيته لمن تحته برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجب عليه أن يجالس من يربيهم، ويستقبلهم، ويشعرهم بالاستعداد التام لهم، وتوفر الوقت والمكان لديه لمعالجة قضاياهم وحل مشكلاتهم، والخروج معهم في نشاطاتهم ورحلاتهم وزياراتهم، وتيسير سبل الاتصال بهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، هدى البشر إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على رسوله المجتبى الأمين، الذي تربّى على تعاليم القرآن الكريم، وتخلّق بما جاء فيه من الهدي القويم، وربى أصحابه وعايشهم فكانوا خير جيل، صلى الله عليه وعلى آله، ورضي الله عن صحابته وأتباعه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إن الناظر في أحوال كثير من المربين اليوم سواء من الآباء أو المدرسين, يجد أن هناك بون شاسع, وفرق واسع, بين ما يربونهم عليه من أخلاقيات وسلوكيات وبين السلوك الذي هم عليه في الواقع.
والسبب الرئيسي في ذلك هو أن هؤلاء المربين لا يعايشون من يربونهم، ولا يتابعونهم، ولا يتتبعون سلوكياتهم، وإنما هي دروس تلقى، أو حصص تعطى، دون متابعة ومعايشة.
إن موضوع المعايشة التربوية، وأهمية هذا الموضوع لنا كآباء وأولياء أمور ومربين وموجهين، لأن العملية التربوية الجادة التي يرجى منها الخير وينتظر منها الثمرة هي عملية صعبة وتحتاج إلى معايشة مستمرة ومتابعة دقيقة.
إن الطالب أو الابن لن يتربى بمجرد نصيحة عابرة، أو كلمات خاطفة، أو حصص مختصرة، أو محاضرات بسيطة، أو دروس مجردة، أو جلسات عامة، وإنما يتربى بالمعايشة التربوية والمتابعة الجادة.
لو نظرنا في سيرة أعظم مربي -صلى الله عليه وسلم- لوجدنا أنه كان يربي أصحابه الكرام -رضي الله عنهم- بالعيش المستمر معهم، والوقوف على كل أحوالهم، وخالطتهم في معظم أوقاتهم، فكان يعايشهم ويخالطهم، ويستقبلهم ويودعهم، ويكلفهم ويتحمل أخطاءهم، حتى قالوا عنه -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أنس-رضي الله عنه-: "إِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟" [ البخاري (6129)].
فأنس -رضي الله عنه- يؤكد مصاحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم في كل أحوالهم، ومعايشته لهم دائماً حتى في أوقات الهزل والدعابة، فكان يمازح أخاه بقوله: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟" لطائر كان مع هذا الولد الصغير يسمى النغير.
ويؤكد صحابي آخر هذه المعايشة التربوية النبوية لهم، فيقول سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ: "قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ كُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ نَعَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَيَتَحَدَّثُ أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ حَدِيثَ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُنْشِدُونَ الشِّعْرَ وَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ -صلى الله عليه وسلم" [النسائي ( 1357) ].
هكذا يجب على كل مربي أن يكون، وأن يتأسى في تربيته لمن تحته برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجب عليه أن يجالس من يربيهم، ويستقبلهم، ويشعرهم بالاستعداد التام لهم، وتوفر الوقت والمكان لديه لمعالجة قضاياهم وحل مشكلاتهم، والخروج معهم في نشاطاتهم ورحلاتهم وزياراتهم، وتيسير سبل الاتصال بهم، والاستعداد لتذليل صعابهم، وغير ذلك من الأمور التي تشعرهم بقربه منهم، والعناية الخاصة بهم، والعيش معهم على كل أحوالهم.
ربما يقول البعض إن معنى هذا أن تهدر أوقاتك معهم، وتضيع بينهم، وتسحق شخصيتك في أوساطهم!!، وهذا لا شك معنى مغلوط وقاصر لمفهوم المعايشة التربوية، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ، أَوْ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"[ أبوداود (1988)].
لقد كان للنبي-صلى الله عليه وسلم- أوفر الحظ والنصيب من أوقاته المباركة مع أصحابه، فيجدونه في المسجد، فإن لم يكن ففي السوق أو الطريق، فإن لم يجدوه ذهبوا إلى بيته، فكان يستقبلهم ويعلمهم ويجيب عن أسئلتهم في أي مكان كان، ولم يكن من عادته الاحتجاب عن الناس أو ردهم، بل كان يستقبلهم ويبتسم لهم دائماً بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-.
بل كان يعرف كل المعلومات عنهم، فهو يعرف أسماءهم، وبعض خصائصهم، وأسماء قبائلهم وأنسابهم، وبلدانهم، وتواريخهم، ويعرف مستوياتهم الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وغيرها.
هذا فيما يتعلق بالأبعدين منهم، أما أصحابه ومن هم حوله والمقربون منه ، فإنه -صلى الله عليه وسلم- يعرف تقريباً كل شيء عنهم حتى حاجتَهم وصحتهم ومرضهم، وإقامتهم وسفرهم ، ويعرف مستوياتهم الإيمانية والعقلية والنفسية ، ويعرف قدراتهم وحظوظهم في كل المجالات التربوية والقيادية والمالية والدعوية، ويتحدث مع كل واحد منهم بما يناسبه، ويكلف كلاً منهم وفق خصائصه وقدراته.
فعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَشَدُّهُمْ حَيَاءً أَوْ أَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ". [ أبو داود (2210)]. ويقول جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ البجلي -رضي الله عنه-: "مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ" [ مسلم (2475)].
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : 128].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ،وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
أيها المسلمون: إن للمعايشة التربوية فوائد كثيرة على المتربي، من أجلِّها أنها تُحسّن تربية المتربي، وتهذب أخلاقه، وتقّوم سلوكه، وتربيه على القدوة والملاحظة.
كما أنها تكشف الطاقات الموجودة لدى المتربي، وتظهر قدراته ومؤهلاته، والجوانب الايجابية لديه، وجوانب القصور والضعف عنده، ومن خلال هذا يستطيع المربي أن يُقوم المتربي، ويصقل تربيته، فيدفعه نحو الأحسن، ويقّوم الجوانب الإيجابية فيه إلى الأفضل، ويعالج جوانب القصور والضعف لديه.
لقد استطاع النبي-صلى الله عليه وسلم- بمعايشته لأصحابه أن يعرف نقاط القوة لديهم ونقاط الضعف أيضاً، فأثنى على نقاط القوة خيراً، وحذر ونصح في نقاط الضعف من أجل تجاوزها وتلافيها.
يقول عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما-: "كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِذَا رَأَى رُؤْيَا، قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا أَقُصُّهَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا عَزَبًا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ كَقَرْنَيِ الْبِئْرِ، وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، قَالَ فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ، عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ، بَعْدَ ذَلِكَ، لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا" [ البخاري ( 1121) مسلم (2479)].
كما أن المعايشة التربوية والقرب من المتربي تجعل المربي يتعرف على الجوانب النفسية لدى الطالب أو الابن، وهذا جانب مهم جداً للمربي أن يتعرف على الجانب النفسي حتى يعرف طباع المتربي، ويفهم نفسيته، ويدرك خصائصه وماهيته، ويستطيع حل إشكالياته ومشكلاته، ولن يكون ذلك إلا بالمعايشة والمخالطة مع المتربين.
أيها الناس: إن كل ما قلناه من كلام سابق ينطبق على الشخص المربي فعلاً، الجاد في تربيته، والمجد في التقويم والضبط وإحداث التغيير والتربية لدى المتربي، لذا يجب على الآباء وأولياء الأمور أن يختاروا لأبنائهم وطلابهم المربي الناصح الأمين، والجاد الحريص.
وعلى المربين أن يحذروا من تحول أمر المتابعة إلى المبالغة في تتبع المربين، وشدة التعلق بهم، وحب الاحتكاك بهم والقرب منهم، حتى يظهر للآخرين وكأنها نوع من التعلق المذموم وليس من المتابعة التربوية الجادة.
ولهذا فإن على كل مدرس أو مربي أن يحرص على التربية الجماعية، والمعايشة العامة، والمتابعة على الكل أكثر من التربية الفردية، والمتابعة الذاتية والتعلق بأشخاص معينين.
كما يجب عليه أن يحافظ على شخصيته من الذوبان بينهم، والامتزاج المذموم معهم، بحيث يصبح فاقد الشخصية، عديم الهيبة، ضعيف التقدير والاحترام، ساقط من أعينهم، غير مؤثر فيهم.
كما أنه ينبغي له أن لا ينسى نفسه على حسابهم، ويهمل تربية نفسه من أجلهم، فتراه مضيعاً لبعض الواجبات، مقصراً في كثير من المستحبات، بحجة انشغاله بتربية هؤلاء ومتابعتهم، فهذا ما هو إلا كالشمعة التي تحرق نفسها من أجل أن تضيء للآخرين. (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة 44: 45].
وفي الأخير أوصي نفسي وإخواني وكل أب وكل مربي أن يهتم بهذا الموضوع -موضوع المعايشة التربوية- وأن يحسنه ويتقنه، ويقوم بواجبه تجاهه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلاَّ أَتَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَغْلُولاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ أَوَّلُهَا مَلاَمَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا خِزْىٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [أحمد (22731)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على خير مربي وأعظم قائد، من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ, كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ, وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ, كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللهم أعنا على تربية من تحت أيدينا، وأعنا على الأخذ بأيديهم ومعايشتهم، والقيام بهم على الوجه الذي ترضى به عنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم