المستقبل لهذا الدين

ناصر بن محمد الأحمد

2014-11-10 - 1436/01/17
عناصر الخطبة
1/البشارة بالمستقبل الزاهر للإسلام رغم سوء الواقع ومرارته 2/تبشير النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالنصر والتمكين في أحلك الظروف 3/قد يتأخر النصر لأسباب ولكنه حتما سيقع 4/بعض بشائر الكتاب والسنة بانتصار الإسلام 5/بعض بشائر الواقع بانتصار الإسلام 6/كيف يكون المستقبل للإسلام والأعداء قد اجتمعوا عليه والرد على ذلك 7/انتصار الإسلام في ظل تكالب الأعداء

اقتباس

إن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار، وإن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل، ولكنها بفضل الله -جل وعلا- لا تموت، وإن الذي يفصل في الأمر في النهاية ليس هو قوة الباطل، وإنما الذي يفصل في الأمر هو...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

كثيراً ما يرد على أسماع المصلحين، والدعاة، وطلاب العلم: أن المستقبل لهذا الدين، وأن المستقبل للإسلام، وأن النصر قادم -إن شاء الله تعالى-.

 

فيقول القائل في مرارة وحسرة: أيّة بشرى بمستقبل الإسلام والمذابح الوحشية تلاحق المسلمين في كل مكان؟

 

أية بشرى وأيّ أمل وقد بُتر من جسد الأمة القدس الحبيب، أولى القبلتين ومسرى الرسول الأمين -صلى الله عليه وسلم-؟

 

أية بشرى وأي أمل وقد اتفق أعداء الإسلام -على اختلاف مشاربهم، وتعدد دياناتهم- على القضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين؟

 

أية بشرى وأي أمل وقد مات العام الماضي ثلة من علماء الأمة الربانيين والمصلحين المخلصين واحداً تلو الآخر -رحمهم الله تعالى جميعا-؟

 

وبالرغم من كل هذا، بل وأكثر من هذا نقول:

 

لئن عـرف التاريخ أوساً وخزرجا *** فلله أوس قـادمـون وخـزرج

وإن كنوز الغيب تخفـي طلائعـاً *** صـابرةً رغـم المكائـد تخـرج

 

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل، وكان صلوات ربي وسلامه عليه عند تناهي الكرب والشدائد يبشر أصحابه بالنصر والتمكين، كما فعل يوم الأحزاب: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].

 

نعم -أيها المؤمنون- فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار.

 

وإن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل، ولكنها بفضل الله -جل وعلا- لا تموت.

 

وإن الذي يفصل في الأمر في النهاية ليس هو قوة الباطل، وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق.

 

ولا شك أن معنا الحق الذي من أجله خلقت السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل.

 

معنا كما قال سيد قطب -رحمه الله تعالى- رصيد الفطرة، فقال في فصل جميل له بعنوان "رصيد الفطرة": "يوم جاء الإسلام أول مرة وقف في وجهه واقع ضخم، وقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع، ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات، كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع الناس مسافة هائلة سحيقة، ولو أنه قيل لكائن من كان في ذلك الزمان أن هذا الدين الجديد هو الذي سينتصر لما لقي هذا القول إلا السخرية والاستهزاء والاستنكار! ولكن هذا الواقع سرعان ما تزحزح عن مكانه ليخليه للوافد الجديد، فكيف وقع هذا الذي يبدو مستحيلاً، كيف استطاع رجل واحد أن يقف وحده في وجه الدنيا كلها، إنه لم يتملق عقائدهم، ولم يداهن مشاعرهم، ولم يهادن آلهتهم، ولم يوزع الوعود بالمناصب والمغانم لمن يتبعونه، فكيف إذن وقع الذي وقع؟ لقد وقع الذي وقع من غلبة هذا المنهج لأنه تعامل من وراء الواقع الظاهري مع رصيد الفطرة" [انتهى].

 

إذن، معنا رصيد الفطرة، وقبل ذلك كله: معنا الله، ويا لها من معية كريمة جليلة مباركة: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[يوسف:21].

 

إنه وعد الله وكلمته: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ)[الصافات: 171-173].

 

إن هذا الوعد المبارك سنة من سنن الله الكونية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، وإن هذا النصر سنة ماضية كما تمضي الكواكب والنجوم في أفلاكها بدقة وانتظام.

 

أيها المسلمون: قد يبطئ النصر لأسباب كثيرة جداً، ولكنه آت -بإذن الله  تعالى- في نهاية المطاف مهما رصد الباطل وأهله من قوى الحديد والنار، ونحن لا نقول ذلك رجماً بالغيب ولا من باب الأحلام الوردية لتسكين الآلام وتضميد الجراح، كلا، ولكنه القرآن الكريم يتحدث، والرسول الصادق الأمين يبشر، والتاريخ والواقع يشهد.

 

نعم، فمع بشائر القرآن العظيم؛ قال الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[الصف: 9].

 

وقال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[الصف: 8].

 

ووعد الله المؤمنين بالنصر، فقال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم: 47].

 

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد7].

 

ففي هذه الآيات: أخبر الله -سبحانه وتعالى- أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه، وسعوا لذلك.

 

ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان، فهذا لا ينقض القاعدة، وهي: أن النصر لمن ينصر دين الله.

 

ومن البشائر: وعد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55].

 

وقد وعد الله في هذه الآية، وهو الذي لا يخلف الميعاد، وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم، وأيّ أمل للمسلمين فوق وعد الله -عز وجل-؟ وأيّ رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق؟

 

ومن البشائر في كتاب الله: الإشارة إلى ضعف كيد الكافرين، وضلال سعيهم.

 

إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، في حين أن المسلمين غافلون عما يكاد لهم، ويراد بدينهم، وحين يرى المرء ثمرات هذا الكيد تتتابع حينئذٍ يظن أن أيّ محاولة لإعادة مجد المسلمين ستواجه بالحرب الشرسة وتقتل في مهدها.

 

فيا من تفكر في هذا الأمر اسمع لهذه الآيات: قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)[الأنفال: 36].

 

فكم من المليارات أنفقت ولا زالت تنفق بسخاء رهيب للصد عن سبيل الله لتنحية دين الله -عز وجل-، ولكن بموعود الله -عز وجل- فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.

 

نعم، فكم من المليارات أنفقت وبذلت لتنصير المسلمين؟ وكم من المليارات أنفقت لتدمير كيان الأسرة المسلمة؟ وكم من المليارات أنفقت لتقويض صرح الأخلاق بإشاعة الرذيلة عن طريق القنوات الفضائية، وعن طريق الأفلام الداعرة، والمسلسلات الفاجرة، والصور الخليعة الماجنة، والقصص الهابطة؟

 

والآن عن طريق شبكات الإنترنت، يعرض كل هذا وأكثر، ويدخل لا أقول كل بيت، بل كل غرفة بيسر وسهولة ودون رقيب، ولكن ما هي النتيجة، النتيجة -بإذن الله عز وجل- وموعوده: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).

 

وتأمل في قول الله -تعالى-: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)[الطارق: 15-17].

 

وقوله عز وجل: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)[الأنفال: 18].

 

فهما كاد هؤلاء لدين الله، ومهما بذلوا لمحاربته، فالله لهم بالمرصاد، وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين.

 

في وثيقة التنصير الكنسي، صرخ "بابا الفاتيكان" بذعر لكل المنصرين على وجه الأرض، قائلاً: "هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوربا".

 

سبحان الله! إنه دين الله!.

 

تأمل -أخي الحبيب- جهود بسيطة لكنها مباركة تفعل فعلها في نفوس الكافرين، ترعبهم وتزعجهم، إنه دين الله، ووالله الذي لا إله إلا هو، لو بذل الآن للإسلام مثل ما يبذله أعداء الإسلام لأديانهم لم يبق على وجه الأرض إلا الإسلام.

 

وستظل هذه البشائر القرآنية تبعث الأمل في القلوب الحية المطمئنة الواثقة بنصر الله -جل وعلا-، وإن تأخر النصر، وطال الطريق.

 

أيها المسلمون: وتأتي البشائر النبوية الكريمة لتؤكد هذه الحقيقة، اسمع -يا أخي المحب-؛ روى الإمام أحمد في مسنده عن تميم الداري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر".

 

ومن البشائر النبوية: أحاديث الطائفة المنصورة، وقد وردت عن عدد من الصحابة، جاء في حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك".

 

وإن المسلم عندما يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة، وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله، وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقوداً تشعل في نفسه الحماسة، والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله، على منهج الطائفة الناجية، أهل السنة والجماعة.

 

أيها المسلمون: إن البشائر النبوية التي سمعتها لهي بشائر عامة مطلقة، وقد جاءت أحاديث تبشر بانتصار الإسلام في حالات خاصة؛ فمن ذلك مثلاً قتال اليهود: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود".

 

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "بينما نحن جلوس حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مدينة هرقل تفتح أولاً" يعني: القسطنطينية.

 

قال العلامة الألباني -رحمه الله-: وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني كما هو معروف، وذلك بعد ثمانمائة سنة من إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، وسيتحقق الفتح الثاني -بإذن الله تعالى- ولا بد، ولتعلمن نبأه بعد حين.

 

وقد جاءت البشائر النبوية أيضاً بأن للمسلمين صولة وجولة وملاحم عظيمة مع الروم تكون فيها الغلبة للمسلمين والنصر لعباده المؤمنين؛ روى ذلك مسلم في صحيحه في كتاب: "الفتن وأشراط الساعة" وعد صادق وقد خاب من افترى.

 

أيها المسلمون: إن الإسلام قادم، والله الذي لا إله إلا هو؛ لأنه الدين الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)[آل عمران: 19].

 

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا)[المائدة: 3].

 

وهناك بشائر أخرى تعرف من طبيعة هذا الدين، وفطرة الله، وسنته في خلقه، ومن ذلك: أن الدين الإسلامي هو الذي يتوافق مع الفطرة، ويحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة، فالرسالات السماوية قد نسخت وحرف فيها وبدّل، والأنظمة البشرية يكفي في تصور قصورها وفشلها أنها من صنع البشر.

 

فمن طبيعة هذا المنهج الإسلامي نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو منـزّل لأدائه، أراده أعداؤه أم لم يريدوه.

 

ومن البشائر: أن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية، ويتجرع مرارة وويلات هذه النظم التي دمرت الإنسانية، وقضت على كل جوانب الخير لديها.

 

ومن أقرب الشواهد على ذلك: انهيار الأنظمة الشيوعية واحدةً تلو الأخرى، وحقٌ على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه، والدمار قادم -بإذن الله- لمن على شاكلتهم من الكفر والضلال، ومحاربة الإسلام وأهله، وصدق الله العظيم: (وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[الرعد: 31].

 

والعالم اليوم يتطلع إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، ولا منقذ إلا الإسلام.

 

سلام على قلب من الطهر أطهر *** وروح شفيف في رُبى الخلد يَخطُر

وأطياف جنات و أنسام رحمة *** و حبٌ عفيف رائق الذل أخضر

وساعات إسعاد يظل غمامها *** على كل ساحات المحبين يمطر

ترفق بقلبي فالأعاصير تزأر *** وسود الرزايا في الظلام تزمجر

ترفق بقلبي فالجراح كثيرة وذي أسهمٌ شتى عليه تكسّر

ففي أرض شيشان الشهيدة مأتم *** فهل تسمع الدنيا الضجيج وتُبصر

و في الشام أنّاتٌ ووطأة غاشم *** وليل وآهات ودمع و أقبر

و في دار هارون الرشيد زلازل *** وآثار مجدٍ أحرقوه ودمروا

حنانيك يا بغداد صبراً فربما *** يُتاح لهذا الكفر سيل مطهّر

لماذا دموع الحزن لستِ وحيدةً *** وأنتِ على الأيام عزٌ ومفخر

و كل بلاد المسلمين مقابر *** وهم صور الأحجار تنهى وتأمر

تماثيلُ لكن ناطقات وإنما *** بلاء البلاد الناطق المتحجر

جراح بني الإسلام غاب أُساتها *** وأنّاتهم في كل أرض تضّور

تساقيهم الدنيا كؤوس مذلة *** على أنهم عُزّل الأكف وحُسّر

 

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: ومن البشائر: بأن المستقبل لهذا الدين: هذا الذي يلوح في الأفق، ويشرق كالفجر، ويتحرك كالنسيم.

 

إنه أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد كل هذه المؤامرات والضربات المتلاحقة، هذا الحدث الكبير الذي هز كيان العالم كله متمثلاً في هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي نسأل الله أن يبارك فيها، تلك الصحوة الكريمة التي يغذيها كل يوم بل كل ساعة شباب في ريعان الشباب وفتيات في عمر الزهور، ينسابون من كل حدب وصوب، يمشون على الشوك، ويقبضون على الجمر في بعض البلدان تمسكاً بدين الله -عز وجل- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

 

إنه الأمل، إنه هذا الجيل الذي تفتحت عينه على نور الإسلام، وانشرحت بصيرته، لتقبل الحق، ولم يخدع بصره بريق الحضارة الغربية الزائف، الخاطف للأبصار، ولم يؤثر فيه سحرها المغير للعقول والأفكار، فحيثما توجهت بفضل الله -عز وجل- وجدت رجوعاً خاشعاً خاضعاً إلى الله -تعالى-، ووجدت نفوساً متعطشة إلى دين الله، مشتاقة إلى الإسلام، بعد أن أضناها لفح الهاجرة القاتل، والظلام الدامس، وحيثما توجهت سمعت آهات التائبين، ودموع الخشوع تزين الوجوه تردد في خشوع، وتبتل: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون.

 

وبعد ذلك كله، نقول دون شك أو تردد: إن المستقبل لهذا الدين، وإن العزة ستكون لأولياء الله، أوليس الله قد قال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم: 47]؟

 

ومن أصدق من الله قيلا، وهو الذي لا يخلف الميعاد، ولكن السؤال هو: متى يكون هذا؟ اليوم أم غداً أم بعد سنوات؟

 

الجواب: كما قال سيد قطب -رحمه الله-: في ذلك اليوم سيعود الناس إلى الدين سيعودون إلى الإسلام، وتلك قوة أكبر من إرادة البشر؛ لأنها مبنية على السنّة التي أودعها الله في الفطرة، وتركها تعمل في النفوس، وحين يجيء ذلك اليوم فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل من البشر أو أجيال.

 

ليس المهم متى يحدث ذلك، إنما المهم أنه سيحدث بمشيئة الله وعد صادق وخبر يقين، وحين يجيء ذلك اليوم وهو آت -إن شاء الله-.

 

فماذا تساوي كل التضحيات والآلام التي تحملتها أجيال من المسلمين، إنها تضحيات مضمونة في السماء والأرض. انتهى.

 

ولكن هل يتنـزل النصر كما ينـزل المطر، ويمكّن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد، ولم يسلكوا أي سبيل للنصر، لنقرأ الإجابة في قوله عز وجل: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[يوسف: 110].

 

إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير.

 

لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبابه، وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، قال الله -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة: 214].

 

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 142].

 

عن خباب -رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه، فقال: "لقد كان من قبلكم يمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظام أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".

 

ما أحسن الكلمة، وما أروع العبارة؟ لقد كان لها وقع كبير في قلوب المستضعفين في كل زمان ومكان: "ولكنكم تستعجلون

 

استدراك عجيب منه صلى الله عليه وسلم، ليخبر الصالحين والمصلحين أن الصبر هو الوسيلة العظمى، والزاد النافع لهم في طريقهم الطويل الصعب الشاق الوعر.

 

ذاك الطريق: الاستقامة على شرع الله، والدعوة إليها، المليء بالعقبات.

 

وذكّرهم عليه الصلاة والسلام بمن سبقهم من المستضعفين ليكون لهم زاداً في طريقهم الطويل، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم وبشرهم ووعدهم حتى لا ييأسوا من العاقبة: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص:83].

 

وسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير شاهد على ذلك، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لقي ما لقي من الأذى والبلاء، وهو خليل الله وسيد ولد آدم -صلوات الله وسلامه عليه-.

 

نعم، إن من رحمة الله أن جعل طريق النصر محفوفاً بالأشواك والمصائب.

 

وهذا من كمال حكمته وعلمه، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل، وقد أشار الله في كتابه إلى شيء من هذه الحكم؛ فمنها: تمييز الصادقين من غيرهم، واتخاذ الشهداء والأجر والمثوبة من عند الله، والهداية والتوفيق لأنصار دينه، وأن ذلك سبب لهم في دخول الجنة، إلى غير ذلك من الحكم العظيمة.

 

أيها المسلمون: وقد يسأل سائل ويقول: كيف يكون المستقبل للإسلام والأعداء قد اجتمعوا عليه وتكالبوا من كل جهة؟ كيف والأعداء يملكون القنابل النووية والأسلحة الفتاكة، والمسلمون عزّلٌ من السلاح؟.

 

إن هذا السائل لينسى أن الذي ينصر المسلمين، هو: الله لا بجهدهم ولا قوتهم، قال الله -تعالى-: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)[التوبة: 14].

 

فالمسلمون سبب لتحقيق قدر الله وإرادته: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 17].

 

وينسى هذا السائل -ثانياً-: أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض، ومما يسبح له قنابل هؤلاء وأسلحتهم.

 

وينسى -ثالثاً-: أن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون: (وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)[القمر: 50].

 

(وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[يوسف:21].

 

وينسى -رابعاً-: أن الأعداء وصلوا إلى هذه القوة الهائلة، والتمكين بجهدهم البشري، وهو ليس حكراً على أحد، وحركة التاريخ لا تتوقف، قال الله -تعالى-: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[آل عمران: 140].

 

وتلك الأيام نداولها بين الناس؛ فمهما كادوا للإسلام وأهله واجتمعوا لحربه، فإن الله ناصر دينه، ومعلي كلمته.

 

من كان يظن ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قلة مؤمنة في مكة يعذبون ويضطهدون ويحاربون، بل ويطردون من بيوتهم وبلدهم، بل ونال الأذى والبلاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووضع التراب وسلى الجزور على رأسه، وهو ساجد، وفي تلك الحالة يعدهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكنوز كسرى وقيصر.

 

فما هي إلا سنوات قليلة إلا وإذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعود إلى مكة فاتحاً منتصراً، يحيط به عشرة آلاف رجل، ويدخل الحبيب المسجد فتتهلل الكعبة فرحاً بشروق شمس التوحيد، وتتبعثر الأصنام والآلهة المكذوبة في ذل وخزي شديد، ويردد الحبيب قول الله -عز وجل-: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسراء: 81].

 

وبعد فترة يموت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتبرز فتنة الردة بوجهها الكالح حتى ظنّ بعض من في قلبه مرض أنه لن تقوم للإسلام قائمة، فنهض الصديق -رضي الله عنه-، ووقف وقفته الخالدة، وانتهت الفتنة، وازداد الإسلام رفعةً وعزةً.

 

ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد ما استولى الصليبيون على كثير من بلدانهم، ودنسوا المسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمان، حتى حرر الله الأرض، وطهر المسجد الأقصى على يد البطل الكبير "صلاح الدين الأيوبي" في معركة حطين الحاسمة التي سطرها التاريخ.

 

أيها المسلمون: إن المستقبل بل كل المستقبل للإسلام، فلتكن كلك للإسلام دينك لحمك، دينك عرضك، دينك دمك.

 

سر في الزمان وحدث أننا نفرٌ *** شم العرانين يوم الهول نفتقد

عدنا إلى الله في أعماقنا قبس *** من السموات لا يغتالها الأبد

جئنا نعيد إلى الإسلام عزته *** وفوق شم الرواسي تنصب العمد

 

 

 

المرفقات

لهذا الدين (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات