عناصر الخطبة
1/ واقع المسلمين الأليم 2/ مقارنة بين الواقع الأليم والتاريخ المجيد 3/ إطلالة على تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ أثر الإسلام في تحول واقع العرب 5/ جيل الصحابة وكيف انتصر 6/ أسباب انحطاط المسلمين اليوماقتباس
وهنا سوف ينطق التاريخ بخشوع، ويحدّث باقتضاب، ويبين لنا السبب والفرق بيننا وبين القوم الأوائل، وسوف يذكر لنا التاريخ عصارةً تاريخية، ومقارنةً عقلية، نتذاكرها اليوم كمرآةٍ صادقةٍ يرى المسلم فيها وجهه، ويقارن بينه وبين المسلمين الأعزة الفاتحين، ويهتدي إلى منبع القوة ومصدر الحياة ومفتاح النور والشرف بإذن الله تعالى ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن المتأمل في تاريخ العالم الإسلامي الحديث يجد أنه أصيب بنكباتٍ أفزعت المسلمين وأيقظت شيئًا من مشاعرهم، وحركت جزءًا من ركودهم، فلقد نكب المسلمون في أرض فلسطين نكبة عظيمة، عندما اجتمعت سبع دول عربية بجنودها وأسلحتها لتكافح الصهيونية وتدافع عن البلاد المقدسة وعن قبلتها الأولى فلم تغنِ شيئًا، وقامت دولةُ إسرائيل على رغم الدول العربية والإسلامية ومصالحها وإبائها، وجثمت على صدرها، واستولت على أخصب رقعة وأجملها وأوسعها في فلسطين العربية، وعلى طرف الثمام من بلاد الإسلام.
ونُكب المسلمون في أرض العراق وغيرها نكبة لم يحصل مثلُها، وتجرع الجميع ذلَّها، وذلك عندما غزتها دولة الكفر والنصرانية بإرادة منفردة محضة ومعارضة تامة جماعية من جميع الدول الإسلامية، فلم تغنِ هذه الدول الإسلامية في هذا الأمر الجلل، ولم يرفع لها العدو رأسًا، ولم يسمع لها صوتًا.
ونكب المسلمون في بلاد الأفغان، وفي بلاد الصومال، وفي بلاد كوسوفا، وفي كشمير والفلبين وغيرها كثير، ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا في بدايات أمرهم، بينما الذين أسسوا الدولة الإسلامية الكبرى في عصر الصحابة في القرن الأول، ودكوا الإمبراطورية الرومانية، وطردوا الإمبراطورية الفارسية في وقت واحد وهزموهما شر هزيمة، وذابت وتحللت أمامهم أعظمُ قوة في العالم، كانوا أقلَّ عددًا من نفوس بلد صغير من بلاد الدول العربية اليوم.
هنا يتوقف المرء ليتساءل: لماذا هذا الفرق الهائل بين الجيل الجديد والجيل القديم؟! ولماذا كان ينتصر العدد القليلُ وينهزم العدد الكثير؟! ولماذا هذا الجزر العظيم بعد ذلك المد العظيم؟! وما هو منبع القوة وسر الانتصار في التاريخ؟! وإذا استعرنا التعبير العصري فما هو الزر النفسي الذي يرسل التيار الكهربائي في حياة المسلمين ويضيء لهم العالم؟! وما هو مفتاح النور والقوة الذي ضيعه المسلمون منذ قرون؟!
هذا السؤال يهمنا جميعًا بوصفنا مسلمين لنا ما للمسلمين وعلينا ما عليهم، ونريد أن نكون جادين مخلصين في الجواب عن هذا السؤال فلا نَخْدع ولا نُخْدع، ولو بحثنا عن خبير ثقة، شاهد الجيل الأقدم والرعيل الأول من المسلمين، وشاهد الجيل الجديد وساير الركب الإسلامي في سفره الطويل فعرف مقدَّمَه ومؤخَّرَه، وأولَه وآخره، فلن نجد شخصًا يخبرنا بما نريد، ولكننا سنجد التاريخ الإسلامي، فهو الطويل العمر، الذي عاصر الطبقة الأولى من المسلمين، والطبقة الأخيرة، وهو الشاهد العدل الذي لا يكذب، ولا يشهد بالزور، فلو سألناه وقلنا له: حدثنا بالله عليك -أيها التاريخ الأمين- كيف وجدت هؤلاء الذين خرجوا من جزيرة العرب في ثياب مرقعة، ونعال مخصوفة، وعدد ضئيل، فدكوا كل دولة، وكسروا كل شوكة، وهزموا كل جند، وأسسوا أعظم دول العالم؟! وكيف وجدت الذين ورثوا هذه الدولة العظيمة والمجد العظيم وضيعوه، ولم يستطيعوا أن يحافظوا على تراثهم فضلاً عن أن يضيفوا إليه؟! وماذا وجدت الفرق بين هؤلاء وأولئك مع كل شبه في الأجسام والإنسانية والأسماء والأنساب وكثير من المظاهر والأشكال؟!
وهنا سوف ينطق التاريخ بخشوع، ويحدّث باقتضاب، ويبين لنا السبب والفرق بيننا وبين القوم الأوائل، وسوف يذكر لنا التاريخ عصارةً تاريخية، ومقارنةً عقلية، نتذاكرها اليوم كمرآةٍ صادقةٍ يرى المسلم فيها وجهه، ويقارن بينه وبين المسلمين الأعزة الفاتحين، ويهتدي إلى منبع القوة ومصدر الحياة ومفتاح النور والشرف بإذن الله تعالى.
معاشر المسلمين: يقول التاريخ: كانت العرب قبل الإسلام أمةً كادت أن تكون خاملة منعزلة، فصَلَها عن العالم المتحضر المعمور بحارٌ من جوانبَ ثلاثٍ، وصحراءٌ من الجانب الرابع، وكانت من الانحطاط والانقسام بمكان، لم يخطر ببالها في يوم من الأيام أن تكون لها الريادة والسيادة والحضارة وأن تنتصر على الدول المجاورة لها ولو حتى في المنام.
وكانت الريادة والسيادة آنذاك لدولتي فارسَ والروم، وقد أحاطتا بشبه الجزيرة العربية إحاطة السوار بالمعصم، وإنما زهد الفرس والروم في فتح هذه الجزيرة لقلة خيراتها ومواردها من جانب، ووعورتها من جانب آخر، وقد يكلفهم فتح هذه الجزيرة الكثير من الرجال والأموال فاكتفوا بمراقبتهم من بعيد، هكذا كانت هذه الأمة التي ما كانت لتمثل دورًا بارزًا في تاريخ العالم عن قريب، كانت أمة بدوية موهوبة -ولكنها مواهب ضائعة- لا يرفع الناس بأفرادها في العراق والشام ومصر رأسًا، وإذا مروا بهم لا يحسبون لهم حسابًا، ولا يذكرونهم إذا ذكروهم إلا بذلاقة لسانهم وشجاعتهم وجودة خيلهم، إلى غير ذلك مما تعرفه الأمم المتمدنة عن الأمم البدوية.
وإذا أردنا أن نعرف منزلة العرب عند أهل العالم في ذلك الزمان لا بد أن نستعرض بعض الآراء التي أبداها رجال ذلك العصر من أهل البَصَر والمعرفة ووافق عليها العرب وزادوا عليها.
فمما حفظ لنا التاريخ: مقولةُ إمبراطور الفرس لسفراء المسلمين -ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية- قال: فتكلم يزدجرد فقال: إني لا أعلم أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بينٍ منكم، قد كنا نوكِّل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقدموا عليهم، فإن كان عددكم كَثُرَ فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دهاكم فرضنا لكم قوتكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم، فقال المغيرة بن شعبة: "أيها الملك إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أحد أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والعقارب والحيات، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضًا، وأن يبغى بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهى حية، كراهية أن تأكل معه، وكانت حالنا قبل اليوم ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلاً...". إلى آخر كلامه.
وقد ذكر الوليد بن مسلم: أن ماهان طلب خالدًا ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعا في مصلحة، فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعامًا وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها.
هذه هي قيمة ومنزلة العرب عند الروم وغيرهم، ولكن سرعان ما تغيرت الأحوال وانقلبت الحقائق وبطلت التجارب السابقة؛ إذ خرج هؤلاء الأعراب من صحرائهم يفتحون البلاد والأمصار، خرجوا ليُخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَـور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
تدفق هذا السيل من مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإحدى عشرةَ سنةً من الهجرة، فغلب كل شيء اعترضه في الطريق، ولم تكن جيوش فارس والروم ومصر وغيرها المعدودةُ بمئات الآلاف الشائكةُ السلاح، الشديدةُ البطش، التي كانت الأرض تزلزل بها، لم تكن هذه الجنود إلا حشائش في هذا التيار الجارف فلم تُعِق سيره، ولم تغيّر مجراه، حتى فاض في مروج الشام وفلسطين، وسهول العراق وفارس، وربوع مصر والمغرب والأقصى.
جرف هذا التيار المدنيات العتيقة، والحكومات المنظمة، والأمم العريقة في المجد والسلطان، فأصبحت خبرًا بعد حين، وأثرًا بعد عين: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ: 19].
وخرج العرب فاحتكوا بالفرس والروم، وكان العرب يكرهون وجوههم، ويرهبون سطوتهم في ديارهم، ولكن هانوا في هذه المرة، فغزوهم في عقر دارهم فمزقوا جموعهم، ونالوا عروشهم، وفتحوا كنوزهم، واقتسموا أموالهم وتراثهم، ومزقوا رداء فخرهم وعظمتهم وكسروا شوكتهم وهلك كسرى فلا كسرى بعده، وهلك قيصر فلا قيصر بعده: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) [الأعراف: 137]، خرج هؤلاء العرب بثياب مرقعة ونعال مخصوفة يتقلدون سيوفًا بالية الأجفان، رثة المحامل، على خيل بعضها عارية الظهور كانوا بعيدين كل البعد عن المدنية، فما لبثوا أن ملكوا الدنيا وامتلكوا ناصية أمم بعيدة الشأو في المدنية.
انقلب رعاة الشاة والإبل رعاة لأرقى طوائف البشر في العلم والنظام والمدنية، وصاروا أساتذة في العلم والأدب والتهذيب: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين) [القصص: 5].
ما هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي؟! ما هذا النشاط الغريب بعد ذلك الخمود العجيب؟! ما هذا الانتباه السريع بعد ذلك السبات العميق؟!
إنه لغز من ألغاز التاريخ!!
كيف فتحوا مصر وسوريا وفارس وملكوا تركستان الغربية، وانتزعوا إفريقيا من البيزنطيين والبربر وإسبانيا وانتهوا إلى فرنسا؟!
إن العرب أصبحوا بفضل تعليم نبيهم العظيم محمد -صلى الله عليه وسلم- أصحاب دين ورسالة، فُبعثوا بعثًا جديدًا، وخلقوا من جديد، وانقلبوا في أنفسهم فانقلبت لهم الدنيا غير ما كانت، وانقلبوا لها غير ما كانوا.
يقول ابن مسعود: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون عن دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيئ".
لقد ربى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- جيلاً فريدًا من الرجال لم يعرف لهم في تاريخ البشرية الطويل مثيل، لقد ارتقى أصحاب محمد قممًا سامقة، وحازوا قصب السبق في التقوى والورع والإخلاص.
يقول التاريخ: إني لم أشهد رجالاً مثل هؤلاء، عقدوا عزمهم ونواياهم على غاية تناهت في العدالة والسمو، ثم نذروا لها حياتهم، فخرجوا من ديارهم وأموالهم على عقد تناهى في الجسارة والتضحية والبذل، كما شهدت في أوائل الصحب الكرام أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، لقد بعثت عقيدة الإسلام طمأنينة في أنفسهم، وسكينة في قلوبهم، وشجاعة خارقة للعادة، واستهانة بالعدد والعتاد، وعرفوا أنهم يقاتلون بقوة هذا الدين، ويظفرون ويغلبون ببركة هذا الدين، لا يهولهم شيء ولا يعظم في عينهم شيء، ثقةً بنصر الله، واعتمادًا على موعود الله، حتى إنهم خاضوا بخيولهم في دجلة وكأنهم سائرون على الأرض.
لقد بعثت هذه العقيدة طمأنينة في أنفسهم، وعزة في قلوبهم، وشجاعة خارقة للعادة، واستهانة بالعدة والعتاد، فحينما نزل هرقل بمؤاب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة، والمسلمون لا يزيدون عن ثلاثة آلاف، بلغ ذلك المسلمين، فأقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا نكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فشجَّع الناسَ عبدُ الله بن رواحة، وقال: يا قوم: والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهور وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة.
ولذلك كانوا يخاطرون بأنفسهم ويأتون بأعاجيب وأعمال خارقة للعادة، ثقةً بنصر الله، واعتمادًا على موعوده، حتى إنهم خاضوا بخيولهم في نهر دجلة وكانوا يتحدثون مطمئنين كأنهم سائرون على البر، وكان منظرًا غريبًا جعل الفرس يظنونهم من الجن، وكان سعد بن أبي وقاص يقول وهو في الماء بجوار سلمان الفارسي: "حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليَّه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بَغْيٌ أو ذنوب تغلب الحسنات". هكذا فهموا معايير النصر، حتى رد عليه سلمان بقوله: "إن الإسلام جديد، ذُلِّلَتْ لهم -واللهِ- البحور كما ذُلِّل لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه -أي البحر- أفواجًا كما دخلوا أفواجًا". فخرجوا منه كما قال سلمان، لم يغرق منهم أحد ولم يفقدوا شيئًا.
ولما استشار عمر أصحابه في مسيره إلى العراق بموقعة نهاوند، قال له علي بن أبي طالب: "يا أمير المؤمنين: إن هذا الأمر لم يكن نصرُه ولا خذلانُه بكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أعزه وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجز وعده وناصر جنده".
لقد أورثتهم عقيدة التوحيد قوة إيمان ملأت قلوبهم، فأثمرت علمًا نقيًا أورثهم خشية لله وإخباتًا، وأثمرت يقينًا صادقًا جازمًا، فأورثهم توكلاً مطلقًا على الله وحده، أثمرت صبرًا عظيمًا في مواطن البلاء، وشكرًا حميدًا في مواطن السراء، أثمرت حبًّا للقاء الله العظيم، فأورثهم زهدًا في الدنيا، وإيثارًا للآخرة.
اللهم ارضَ عن أصحاب نبيك وأرضهم، اللهم اجعلنا فيمن تولاهم وعادى من عاداهم، واحشرنا في زمرتهم، وارزقنا التأسي بهم.
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: ولما طال على المسلمين الأمد، ونسوا تعاليم نبيهم لهم، قست قلوبهم، وصاروا يعيشون حياة لاهية، حياة من لا يعرف نبيًّا، ولا يؤمن برسالة، ولا يرجو حسابًا ولا يخشى معادًا، وأشبهوا الأمم التي كانوا يقاتلونها بالأمس، لا هَمّ لهم ولا شغل إلا الأكل والشرب والتناسل، أصبحوا كرعاع الناس ليس لهم فرقان ولا نور يمشون به بين الناس، حياتهم تحاسد، حياتهم بغضاء، حياتهم تنافس على السلطة وتكالب على حطام الدنيا وإعراض عن الآخرة، وسفك للدماء، وهتك للأعراض، وهضم للحقوق، وغدر بالعهود، وتعدٍّ على حدود الله، فهانوا على الله مع أسمائهم الإسلامية، ومع وجود الصالحين فيهم، فأوكلهم الله إلى أنفسهم كما زهدوا في التوكل عليه، ومازالوا على تلك الحالة من الغفلة واللهو والظلم، وغشيتهم الفتن، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وتبدلت أسباب القوة التي أحرزت الانتصارات والفتوحات بأسباب الضعف التي يصعب حصرها.
لقد فتش أعداء الإسلام عن منابع القوة الكامنة في نفوس المسلمين وقلوبهم، فوجدوا أنها تنبعث من الإيمان، فهو مصدر قوتهم ومصدر حياتهم ومصدر عزهم، فسلطوا على المسلمين عدوين هما أفتك بهم من المغول والتتار ومن الوباء الفتاك:
الأول: الشك وضعف اليقين، الذي لا شيء أضعف للإنسان منه، ولا أدعى للجبن والتخاذل منه.
الثاني: ما يعبر عنه بالذل النفسي والهوان، فصاروا يشعرون بالذل والهوان، ويؤمنون بفضل الغرب في كل شيء، وإذا تمكن هذا الذل من نفوس أمة فكبِّر عليها أربعًا، وإن كنت تراها تغدو وتروح وتأكل وتعيش.
إن الحضارة المادية الغربية التي غزت بلاد المسلمين أخرجت جيلاً من المسلمين متنورَ الذهن ولكنه مظلمُ الروح، أجوفُ القلب، ضعيفُ اليقين، قليلُ الدين، قليلُ الصبر والجلد، ضعيفُ الإرادة، مخنث العزم يبيع دينه بدنياه، وآجله بعاجله، يبيع أمته وبلاده بعرض من الدنيا قليل، هؤلاء صاروا مع الأسف كُتَّابًا وأدباء، وقادة وزعماء، ومسؤولين ومربين، فنشروا في المسلمين الجُبْنَ والوهَن، وصرفوا المسلمين عن الاتكال على الله إلى الاعتماد على أنفسهم، ثم إلى الاعتماد على غيرهم، وأطفؤوا في قلوبهم شعلة الغيرة والحمية للدين.
ولقد ثبت أن المد والجزر في تاريخ الإسلام والمسلمين مرتبطان بالمد والجزر في الإيمان، وقوة معنويات المسلمين التي تنبثق من قوة الدين في نفوسهم، والذي هو منبع قوة هذه الأمة.
وهنا يوقع التاريخ بكلمته الخالدة قائلاً: "لن يصلح آخر هذه الآمة إلا بما صلح بها أولها"، فإذا أردنا القدوة والأسوة، إذا أردنا السيادة والريادة، إذا أردنا العزة والقوة، إذا أردنا نشر دعوة الحق والنور والعدل، فهؤلاء الذين سبقونا بالإيمان، هؤلاء خير جيل عرفته البشرية، هؤلاء أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، فليكونوا لنا أسوة وقدوة.
فإلى هؤلاء نسير، وبهم نحتفي، وعلى أيديهم نتعلم، إلى هذه الحديقة الغنَّاء نطوف بين رياضها العطرة التي تفوح أريجها معطرة بشذا الجنان الفيحاء، نتنقل في هذه الحديقة، التي حوت من الأزهار أجملها، ومن الرياحين أطيبها، ومن المياه أعذبها، لنتعرف على رجال تربوا على مائدة القرآن، نتعرف على رجال معلمهم إمام الأنبياء وسيد المرسلين، نرى إيمانهم، نرى ثباتهم، بطولتهم، ولاءهم لله ولرسوله، نرى البذل الذي بذلوه، والهول الذي تحملوه، والفوز الذي أحرزوه.
هؤلاء هم القدوة، هم الأسوة، هم الأساتذة، هم المربون، فمن كان متأسيًا فليتأسَّ بهم، فإنهم أبر الناس قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالاً.
راجين الله أن تفيق هذه الأمة من غفلتها، وأن تصحو من سباتها، وأن تعود للريادة والسيادة، فتقود العالم للخير والفلاح والرشاد.
اللهم إن بالمسلمين من البلاء واللأواء وإراقة الدماء ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم اكشف ما بالمسلمين من ذل وهوان وعجز وفتور، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ دينهم وأعراضهم.
اللهم صل على محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم