عناصر الخطبة
1/الإيمان أسهل فكرة في الوجود 2/من معاني ودلالات اسم الله الصمد 3/الآثار الإيمانية لاسم الله الصمد 4/وجوب تفويض الأمر لله والالتجاء إليه وحدهاقتباس
ألم ترو إلى البشر إذا أمحلت الأرض، وصار الماء شحيحاً؛ صمدو إلى السماء وقالوا: يا الله أغثنا، وإذا تلاطمت بالسفينة الأمواج، وزعزعت فكرة الموت طمأنينة الحياة؛ صمدوا إلى العلي الأعلى وقالوا: يا الله انقذنا...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ الولي الحميد، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، عظيمٌ في ربوبيتهِ، عظيمٌ في ألوهيتِه، عظيمٌ في أسمائهِ وصفاتهِ، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
أما بعد: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)[البقرة: 255]، ليس أحد إلا وهو محتاج إلى نصر وإعانة، وحفظ وهداية، ولطف ورعاية، ولا يملك النصر والحفظ والهداية والرعاية إلا الله -جل جلاله-؛ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ)[الإخلاص: 1، 2].
شملتْ لطائفهُ الخلائقَ كلها *** ما للخلائقِ كافلٌ إلا هو
فعزيزها وذليلها وغنيها *** وفقيرها لا يرتجونَ سواهُ
ملكٌ تدينُ لهُ الملوكُ ويلتجي *** يومَ القيامةِ فقرهمْ بغناهُ
هوَ أولٌ هوَ آخرٌ هوَ ظاهرٌ ** هوَ باطنٌ ليسَ العيونُ تراهُ
حجبتهُ أسرارُ الجلالِ فدونهُ *** تقفُ الظنونُ وتخرسُ الأفواهُ
صمدٌ بلا كُفءٍ ولا كيفيةِ *** أبداً فما النظراءُ والأشباهُ؟!
في سنن الترمذي أن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ جاء الى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَا حُصَيْنُ، كَمْ تَعْبُدُ اليَوْمَ إِلَهًا؟"، قَالَ حصين: سَبْعَةً، سِتَّةً فِي الأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ، قَالَ: "فَإِذَا أَصَابَكَ الضُّرُّ مَنْ تَدْعُو؟"، قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: "فَإِذَا هَلَكَ الْمَالُ مَنْ تَدْعُو؟"، قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قال: "فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟"، قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: "فَيَسْتَجِيبُ لَكَ وَحْدَهُ، وَتُشْرِكُهُمْ مَعَهُ؟!"، قَالَ: فَأَسْلَمَ حُصَيْنٌ.
الإيمان أسهل فكرة في الوجود، لا تحتاج إلى كتب ولا إلى فلسفة، ولا إلى سبر وتقسيم، هي كلمة قلها بإخلاص، ثم اتركها لتشتت أفكار الزيف، يختصر القرآن ذلك فيقول: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)[الأنعام: 91]، كلمة "الله" كفيلة وحدها بإسكات أكبر أكاذيب الحياة، فالكافر وهو كافر إذا سمع القرآن يخضع، في صحيح البخاري: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قرأ سورة النجم فسَجَدَ، وَسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَالجِنُّ وَالإِنْسُ"، حتى أولئك الذين آذوه وخططوا لاغتياله تفجرت شرايينهم رهبة، فخرّو للأذقان سجداً.
يراود رجل امرأة عن نفسها في خلوة، فيقول: لا يرانا إلا الكوكب، فردت بشموخ: فأين مكوكبها؟! أين الله؟! إنه قلب صامد إلى الله، متيقن أنه عليم خبير سميع بصير محيط؛ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ)[الإخلاص: 1، 2]، صمود إليه بقلبك تماماً كصمود المصلي إلى الكعبة ليصلي إليها، هكذا يجب أن يكون القلب، يوزع رغباته في كل الاتجاهات، لكن الاتجاه الأمامي يجب أن يكون لله فقط.
اللَّهُ الصَّمَدُ، تصمد إليه بقلبك، أي: تلجأ إليه بعقلك وفكرك ودعائك؛ فهو المقصود في الرغائب، المستغاث به عند المصائب، والمفزوع إليه وقت النوائب.
ألم ترو إلى البشر إذا أمحلت الأرض، وصار الماء شحيحاً؛ صمدو إلى السماء وقالوا: يا الله أغثنا، وإذا تلاطمت بالسفينة الأمواج، وزعزعت فكرة الموت طمأنينة الحياة؛ صمدوا إلى العلي الأعلى وقالوا: يا الله انقذنا؛ (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)[الإسراء: 67].
الله الصمد، إن لم ترجع إليه اختياراً رجعت إليه اضطرارا، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "الصمد: هو المستغني عن كل أحد، المحتاجُ إليه كلُّ أَحد"، اللَّهُ الصَّمَدُ اسم بالغ الهيبة، قوي الحروف، شامخ المعنى، قليل الورود والذكر، ذو جلالة ورهبه.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلام بالغ النفاسة في هذا المعنى، فتأمّله بقلبك، ثم اجعله بالقرب من أوجاعك، وكربك، وحاجاتك، يقول -رحمه الله-: "العبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجته، وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة، ثم يكون في أول الأمر قصده حصول ذلك المطلوب، من الرزق والنصر والعافية مطلقا، ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله -عز وجل- ومعرفته ومحبته، والتنعم بذكره ودعائه، ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدراً عنده من تلك الحاجة التي همته، وهذا من رحمة الله بعباده، يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية".
لقد تجلى اسم الصمد عندما تزلزلت الأرض، وتساقط الركام على الأجساد، فسمعت النداءات لله وحده، وصمدت القلوب لعلام الغيوب، وتلاشت كل النداءات إلا المناداة باسمه -سبحانه-؛ (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الأنعام: 63].
عند اعتداءات الصهاينة على المستضعفين ظهر الإيمان، واستغاث الصغير والكبير بالملك الديان، ووحد النداء لذي الجلال والاكرام.
الله الصمد، إن لم تقلها اختياراً، قلتها اضطراراً، وإن لم تذكرها إيماناً ذكرتها قهراً، وإذا لم تكن كلمتك في الرخاء، كانت صرختك في الشدة!.
لماذا ننتظر جائحة تردنا إليه، ومصيبة تذكرنا باسمه، وكارثة نعود بها إلى المسجد؟! ألا يستحق أن نخضع ونلتجئ إليه دون جوائح وكوارث ومصائب؟ عدِّل بوصلة قلبك باتجاهه، ثم سر إليه ولو حبواً على ركبتيك ستصل؛ (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[البقرة: 115].
انظر بأي اتجاه شئت، ولكن اجعل في قلبك عينين لا تنظران إلا إلى عظمته، استمع إلى الجميع، ولكن اصنع في قلبك سمعاً لا يدرك إلا كلامه، امش إلى حيث شئت، ولكن احفر في قلبك خطوات نهايتها عرش الملك؛ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الإخلاص: 1 - 4]، (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)[هود: 90].
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى.
أَمَّا بَعْدُ: إننا بدون معرفة أسماء الله تائهون، تبدد أيامنا دوامة القلق النفسي، والخواطر والأوهام، ومن صمد إلى الله إيماناً ويقيناً، وعبادة وخضوعاً، أورثه ذلك أنساً وسعادة وهناء.
إذا طلبت من غير الله قد لا يجيبك، أو يجيبك ولكن يتأخر في تلبية طلبك، أو يلبيه مع إهانة، وقد لا يهينك ولكن نفسك تنكسر له، أما الله فيعطي بالليل والنهار، ينصرك على الجميع إن كنت مظلوما لا يغلق بابه، يده سحاء الليل والنهار، أكرم الأكرمين؛ لذلك تصمد إليه كل الخلائق، فكل عارض يعرض إنما هو رسالة تقول لك: لديك رب فالتجئ إليه.
اصمد إليه في كل حين، خيالاتك سوداء إذا لم تتذكره، عقلك خراب دون أن يمر اسمه على خطراتك، أحلامك مستنقعات، فإذا جاء ذكر الحي الذي لا يموت صارت أنهاراً وأشجاراً لا يسعها الأفق.
الصمود لله يحولك إلى عظيم، لا يبالي بمُلاك التراب، الدنيا تخصص لا يقبل عليه الصامدون لله، قال أمير لابن تيمية: سمعنا أنك تريد ملكنا يا ابن تيمية!، فرفع ابن تيمية رأسه بشموخ وقال: "والله إن ملكك لا يساوي عندي فلسين!"، رجل يعرّض وجهه لله آناء الليل، كيف يذل لقطعة خزف أطراف النهار؟!.
اللحظة التي تصمد فيها إليه لأجل حاجتك، هي نفسها اللحظة التي تصبح حاجتك ملك يمينك، فاجعل وجهك إليه، وألجئ ظهرك إليه، وفوض أمرك إليه؛ فهو (الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الإخلاص: 2 - 4]، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ)[الأنعام: 46]، (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[غافر: 64، 65].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم