مصطفى محمد ياسين
في لقاء مع صحيفة "إيلاف الإلكترونية" ، في يوم 26/ 11/ 2008، قال د. محمد الرميحي، بعد مشاركته في مؤتمر (الفكر العربي) في القاهرة: "نحن في الثقافة نلوم الآخر، واللغة العربية فيها جزء معطِّل للتنمية؛ لأنها ليست دقيقة(؟!)، والمفاهيم يتداخل بعضها في بعض، وسأعطيك مثالاً: تحدثنا في إحدى ندوات فكر عن الفساد، فالفساد في العربية مفهوم غير دقيق (؟!)؛ لأن لدينا في تراثنا "المفسدين في الأرض"، مع أن المفسدين في الأرض لهم موقف من الدين، أما الفساد الذي نتحدث عنه، فهو الاستخدام غير السليم للوسائل؛ من أجل الوصول إلى الأهداف" ا.هـ.
لم يكن ذلك ما قاله فقط، وإنما قال كلامًا آخر، مثل ما يردِّده غيره من العلمانيين العرب؛ كحسن حنفي، وأدونيس، ونصر أبو زيد، وغيرهم كثيرون، وقد يسعفنا الجهد - إن شاء الله - فنعود إليها بالتعليق والتحليل.
إن تلك المقولات العلمانية عن الإسلام - سواء ما كان منها من بني قومنا، أم من غيرهم - لا تدهشنا ولا تفاجئنا، لقد كانت هذه من النماذج موجودة وحاضرة مع الأوائل من الرسل الذين بعثهم الله -سبحانه وتعالى- لهداية العباد، فرفضوا دعوتهم، ولم يستقيموا على المنهاج الإلهي، وأصرُّوا على ما هم فيه من الجهل والجاهلية، والكيد والتنقض، وحتى عندما ينصر الله رسلَه ومَن آمنوا معهم، يظل المنافقون يعملون، ويتحينون الفرص لهدم الإيمان في نفوس الناس، وجرِّهم بالكيد الشيطاني إلى الكفر والشك.
ولقد كان عذاب الله حاضرًا، فذاقوا وبال كفرهم، ولعذابُ الآخرة أشد وأعظم.
ومن واجبنا أن نقف لأولئك العلمانيين بالمرصاد، نكشف زيفهم، ونفضح تلبيسهم، ونعري تمحلهم الأسباب، وتصنُّعها تصنعًا للإساءة للإسلام، إطاعة لهوى النفس، وإيغالاً في مجاهل الضلال والإضلال، والطلب اللاهث لمنافع الدنيا الزائلة، وهي (أجندة) أصبحت معروفة ولم تعد خافية؛ بل يجهر بها أصحابها في وثائق مكتوبة ومنشورة، ومتاحة للعامة والخاصة!
وما نظرت فيما يُعْلِنه أولئك العلمانيون إلا وجدته فجًّا وخطيرًا، لا منطق له، ولا حجة فيه؛ بل اعتسفت حجَّته اعتسافًا، حتى بان عوارها، ووضح فسادها، وصدق الله العظيم: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
ونعود إلى ما قاله د. الرميحي: "نحن في الثقافة العربية نلوم الآخر"، نعم، نحن نقول هذا، ويقوله معنا كل مخْلص ومنصف ممن ينتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، وحتى لو سلم هو (الرميحي) معنا بذلك الدور المعيق للتنمية من الآخر، فهو يرى "أن للعربية دورًا معطلاً للتنمية"، وهذا ما لا نوافقه عليه.
وهو يرى أسباب ذلك الدور المعيق: "لأنها غير دقيقة، والمفاهيم في ألفاظها متداخلة بعضها في بعض"!
ولن أسمح لنفسي أن تنطلق في وصف هذا الاتهام بما يستحقه، ولكني سأصفه بما يستحقه من المنطق الداحض، ذلك كلام غير صحيح، لا في إجماله، ولا في بسطه، وهو اختلاق وافتراء على العربية، وجهل بخصائصها البنائية والتعبيرية، وتمحُّل الأسباب المنتقضة منها، وهو كلام باطل وساذج، ولم أجد شبيهًا له إلا فيما قاله: "برنامج إصلاح التقاضي الأمريكي"، الذي تنقَّص العربية واتهمها "بأنها تعيق التواصل بين الشعوب"! وأصرَّ "على ضرورة إصلاحها"!
إنهما ينبعان من مَعِين واحد، حاقد على العربية وتراثها.
واللغة - أي لغة - تعبير عما في الضمير، والنفس، والعقلِ، والعربيةُ سيدة اللغات في قدرتها البيانية عما يحتمل في النفس من عواطف، وفي الضمير من حق، وفي العقل من منجزات الإبداع والحضارة.
قال العقاد عن العربية: "لقد ولدت مكملة".
ولقد جاءت العربية بالروائع في الجاهلية، وفي الإسلام، فوسعت كل العلوم التي أنجزها العقل البشري في الحضارات السابقة، وهي علوم طارئة على العربية، ولا شك أن ذلك كان من عبقرية العربية، فكان منها، وفيها، وبها، كلُّ ذلك التراث الذي يملأ خزائن العالم بالنفائس من الذخائر، واللغة طوع اللسان والجنان.
وإلقاء اللوم على اللغة، كالعربية في سموِّها، وبلاغتها، وكمالها - بهتانٌ يُزري بصاحبه.
وقمت مِن فوري أستنجد بما يكتبه د. الشيخ: أحمد الكبيسي في برنامجه "الكلمة وأخواتها"، فأصوِّب من كنانته سهمًا يدلُّهم على دقة الألفاظ في العربية الساحرة وهي تؤدي معانيها، وهذا بعضه:
السكوت: هو عدم الكلام؛ لالتقاط الأنفاس، وهو حركة من قوانين التنفس.
الصمت: وهو عدم الكلام؛ تجنُّبًا، أو ترفعًا عن الرد على كلامٍ ما، أو ترفعًا عن جهل المتكلم.
الكظم: هو السكوت عند الغيظ.
بهت: عندما يأتيك المتكلم بحجة تجعلك تبدو غبيًّا.
الإنصات: وهو السكوت؛ لإعجابك بحديث المتكلم، فتنصت لقوله بتفهم.
ذلك من قدرة الألفاظ في تأدية المعاني.
أما عن "تداخل المفاهيم"، فيقول الرميحي في معنى (الفساد): "الفساد في العربية مفهوم غير دقيق؛ لأن لدينا في تراثنا "المفسدين في الأرض"، مع أن المفسدين في الأرض لهم موقف من الدين(!)، أما الفساد الذي نتحدث عنه، فهو الاستخدام غير السليم للوسائل؛ من أجل الوصول إلى الأهداف".
"وَهْمٌ توهَّمه القائل، باعثُه سوء النية، "المفسدون في الأرض" تعبير قرآني!
والمقابلة بين اللفظين في "المفسدون في الأرض"، و"الفساد الذي يتحدث عنه" - توحي للقارئ أن هناك اتفاقًا في اللفظ، واختلافًا في المعنى، ومن هنا جاء الفهم المتعسف بأن "الفساد في العربية مفهوم غير دقيق"!
وإيراد الكلام في هذه المقابلة توحي بأن "المفسدين في الأرض" لا يدانون كما يدان "المفسدون" الذين يتحدث عنهم، وكأنه يجعل جريمتهم في حق الإسلام - من وجهة نظره - أن لهم موقفًا، وليس لسوء فعلهم، أو كفرهم وضلالهم! وذلك تعريض بالإسلام (تنقُّص وعيب) لا يخفى على كل ناظرٍ في الكلام.
ونعيد القول: إن "المفسدين في الأرض" تعبير قرآني، وقد وردت مادة (ف. س. د) في القرآن الكريم في خمسين موضعًا، "والمفسدون في الأرض" كأمثال:
فرعون الذي كان يعذِّب بني إسرائيل، ويذبِّح أبناءهم، ويدَّعي الألوهية، ويكذب رسول الله، ويرفض الإيمان بالله.
وكمن يكفر بالله، ويعذب المؤمنين، أتباع الرسل، الداعين إلى التزام منهاج الله، المعتصمين به، ككفار قريش، وأمثالهم على مر العصور.
وكمن يقتل الأنبياء، ويكفر بالله، ويغير في كتابه.
وكمن يطفف الكيل والميزان، ويرفض نصح الرسل.
وكمن يأكل أموال الناس بالباطل.
وكثيرون غيرهم.
إذًا؛ "المفسدون في الأرض": اسم جامع لأولئك ولأمثالهم من الضالين، الذين يخونون أماناتهم، ويسرقون أموال الناس ويأكلونها بالباطل؛ أي: إن اللفظ يأخذ في حسبانه أولئك "الذين يستخدمون الوسائل غير السليمة؛ من أجل الوصول إلى أهداف".
وقد اصطنع صاحب الكلام "تداخل المفاهيم"، "وعدم الدقة" في تأدية المعاني اصطناعًا، وأتمم التعبير القرآني تمامًا في هذه المقابلة؛ ليضلل القارئ، ويوهمه أن التعبير القرآني لا يدل على "الفساد" الذي يتحدث عنه ويدينه.
إن مَن وصفهم القرآن الكريم بالمفسدين في الأرض هم على أعلى درجات من الإجرام؛ قال - سبحانه وتعالى -: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58]؛ قوم لوط، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان: 22]؛ قوم فرعون.
وتمعن في قول منكري البعث: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ * فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان: 34 - 37].
قريش، ينكرون البعث، قوم تبع، ومن قبلهم كثمود؛ {أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}.
إن تعبير "الفساد" الذي يصف أصحاب الإدارة والمناصب العامة بأنهم يسيئون استخدام سلطتهم (فقط)، وهم يمارسون تأدية واجباتهم، إنما هو تعبير مراوغ.
وحقيقة "الفساد" الذي يعصف بالمجتمعات الإنسانية اليوم، وتعقد له "الأمم المتحدة" المؤتمرات، وتصدر له قوائم بالدول الفاسدة، ورتبها في ذلك - إنما هو سوء استخدام للمال العام، وبلغة أكثر صدقًا وتعبيرًا عن الجريمة في ذلك السلوك: إنها سرقة الأموال العامة، وتوجيه المصالح العامة لخدمة مجموعة من الأفراد، تحرم الغالبية من الانتفاع بأموالها، وتستولي عليها دون وجه حق، ليس ذلك فحسب؛ بل إنه الاستئثار بالمنافع والوظائف لغير المستحقين، وانتفاء العدل في سياسة الناس، إنها خيانة، وإفساد، وفساد في الأرض.
ولقد نبَّه القرآن الكريم إلى ذلك؛ قال – سبحانه -: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].
وجعل الإسلام قطعَ اليد عقوبةً صارمة لمن يسرق، فكيف من يسرق أموال العامة، ويضمها إليه بالباطل، وهي بالملايين؟! ولو طبقت شريعة الله في مجتمع المسلمين مرة واحدة، لارتعد السراق والنهابون من الخوف، وسلكوا في سيرتهم الوظيفية سلوك الأمناء الراشدين.
ونعود إلى مفهوم الفساد الذي أراده د. الرميحي، ورآه يتباين مع التعبير القرآني، وطرحه لقضية "المفسدين في الأرض" على ما شرحناه في السطور السابقة.
يقول: "أما الفساد الذي نتحدث عنه، فهو الاستخدام غير السليم للوسائل؛ من أجل الوصول إلى الأهداف"!
وأعجب أشد العجب لهذا الوصف (الناعم) لجريمة الفساد، وهي الجريمة التي تثبت لصاحبها خراب الذمة وفسادها، وسرقة المال العام، وبالمنافع له ولمن حوله، وحرمان أصحابها منها، إنها سيرة الظالم، السارق، الذي يفسد في الأرض ولا يصلح.
"الاستخدام غير السليم" إنه الاستخدام الإجرامي، " للوسائل" للسرقة، والتدليس، والظلم، والتزييف؛ "من أجل الوصول إلى الأهداف"، أي أهداف؟ "الإثراء غير المشروع، وخيانة الأمانة، وفساد الذمة، وتجويع الناس، وحرمانهم من حقوقهم"، أذلك يوصف (بالأهداف)؟!
وما يغفله المتقولون على الإسلام، وعلى اللغة العربية، والمتشدقون بفلسفة الحياة الغربية، التي سلكت بالإنسان سبيل البهائم العجماء، أنهم وهم يتحدثون عن الفساد برفق وأناة، لا تخدش شعور الفاسدين، فلا أحد يتحدث عن المفسدين، وهل هناك فساد بدون مفسدين؟!
لماذا لا يسمى الفاسدون؟! ولماذا لا تفضح حساباتهم التي اتخمت بالأموال العامة المسروقة؟! وهم معروفون، وهم يدَّعون البطولة، ويمتهنون الكذب والخداع، ويعصون الله؛ ذلك أن تسمية الفاسدين، تلهب الظهور بالسياط، فلا يجدون إلا أن ينتقضوا الإسلام، وشريعته، ولغته.
والقول الفصل في ذلك كله: انهزم دائمًا الضالون والمضلون، واليوم هي جولة الباطل ورموزه، وتلك هي سنة من سنن الوجود، وهو ابتلاء واختبار؛ ليميز الحق - سبحانه وتعالى - الخبيث من الطيب، وكما قلت في بداية المقال: فإن الذين يرفضون منهاج الله في الأرض، كما جاء به الرسل، والكتب السماوية الحقة، وجاء به القرآن الكريم - كانوا دائمًا موجودين في الأرض، وإن غلبوا في حقب كثيرة من الزمن.
واليوم نشهد هجمة العلمانيين على الإسلام، ونشهد هجمة صليبية شرسة معها، وبها تستخدم كل الوسائل كالضغوط السياسية والاقتصادية، وحتى لغة التهديد والتخويف؛ للخروج من دائرة الانتماء للإسلام، وهي سياسة فاعلة في الجسد العربي، وإن أنكرها المنكرون.
وبين الحين والحين، يطلع علينا طالعون بما يوسوس به إليهم شياطين الإنس والجن، فيعلنون تنقصهم للإسلام ورموزه وعقائده، مداولة أحيانًا، وصراحة أحيانًا أخرى، وهذه رسالة الإسلام، ووصيته للمؤمنين، عليهم الالتزام بها؛ قال - سبحانه وتعالى -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 112 - 116].
ولله الأمر من قبل، ومن بعد.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/literature_language/0/5282/#ixzz678UnMYM4
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم