عناصر الخطبة
1/الغنى الحقيقي 2/المقصود بالقناعة 3/أهمية القناعة وفضلها 4/من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في القناعة 5/نماذج رائعة في القناعة 6/علاج الجشع ووسائل كسب القناعةاقتباس
القناعة -يا عباد الله- هي الرضا بما قسم الله من أسباب العيش، والأخذ بما تيسر من أمور المعاش، في مأكل ومشرب ومسكن وملبس، لا يرى أحداً أفضل منه في ذلك. وإن القناعة نعمة من الله تمتلئ بها النفوس الموفقة، وتخالط القلوب السليمة التي عقلت معنى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله جعل الغنى والفقر، وأمر بالصلاة والصبر، فاضل بين عباده في حظوظ الدنيا، وحظوظ الآخرة، وأعظم الأجر.
وأشهد أن لا إله إلا الله ذو العظمة والقدر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رفع الله ذكره، وشرح له الصدر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما سجى ليل وانبثق من بعده الفجر.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن الغنى الحقيقي أن تستغني بقلبك، وترى فضل الله في نفسك وأهلك ومالك، في صباحك ومساءك، فلا يزال حالك ومقالك يلهج بما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بقوله: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَمِنْكَ وَحْدَكَ، لا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ، وَلَكَ الشُّكْرُ، من قال ذلك، فقد أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ الْيَوْم" [حديث حسن، رواه أبو داود، وحسنه ابن القيم].
وإن مما فقده كثير من المسلمين، وخلت منه ديارهم، وأفلست منه أنفسهم، هو الرضا بما أعطاه الله، والقناعة بما قسمه له مولاه.
فتطلعت إلى المزيد من حظوظ الدنيا، مغترة بزهرتها، غافلة عن حقيقتها، وما هذا إلا ثمرة ونتيجة عن بعدها عن دينها، وعدم قبولها تعاليم ربها.
فالقناعة -يا عباد الله- هي الرضا بما قسم الله من أسباب العيش، والأخذ بما تيسر من أمور المعاش، في مأكل ومشرب ومسكن وملبس، لا يرى أحداً أفضل منه في ذلك.
وإن القناعة نعمة من الله تمتلئ بها النفوس الموفقة، وتخالط القلوب السليمة التي عقلت معنى قوله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى: 16-17].
حينها يصبح الإنسان غنيا وإن قلَّ ماله، ثريا مع خلو يده؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" [متفق عليه].
ولقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة بوصية جامعة، ليتنا نتفطن لها، فقال: يا أبا هريرة: "كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قانعاً تكن أشكر الناس"[إسناده حسن، رواه ابن ماجة].
وفي صحيح مسلم: أن رجلاً أتى إلى عبد الله بن عمرو بن العاص كأنه يشكو فقره، فقال هذا الرجل: " ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله بن عمرو: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك".
وإن ما قاله عبد الله بن عمرو لهذا الرجل لمنطلق من مشكاة النبوة؛ فقد روى الترمذي عن عبد الله بن محصن -وهو حديث حسن- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
هكذا تكون القناعة من هذه الدنيا الفانية، فمن حصل له الأمن في سربه، يعني في نفسه، وقيل: في قومه، ليس به مرض يقلقه، ولا عاهة تعيقه، فهو معافى في جسده.
عنده القوت الذي يكفيه ليومه الحاضر، أما يومه المستقبل فإن قدَّر مجيئه وأنت حيي فسوف يأتي معه رزقه!.
فمن كانت هذه حاله فكأنما حيزت، أي جمعت له الدنيا كلها.
وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً أصحابه، فقال: "عرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً؟ قلت: لا، يا رب، ولكن أشيع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جُعت تضرعت إليك، وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك" [رواه الترمذي بإسناد حسن].
هذا قليل من هديه صلى الله عليه وسلم القولي في القناعة، فاسمع -يا رعاك الله- إلى شيء من هديه الفعلي، وكيف كان تقلله من الدنيا، وهو الذي يدعو عليه الصلاة والسلام ربه فيقول: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً" أي: ما يكفي الحاجة بلا زيادة.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إنا لننظر الهلال والهلالين، وما أوقد في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار! فقيل: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء".
ودخل عمر -رضي الله عنه- يوماً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجده مضطجعاً على حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الحصير في جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال عمر: فرفعت بصري في بيته، فو الله ما رأيت في بيته شيئاً يرد البصر، ونظرت في خزانته فإذا بقبضة من شعير نحو الصاع، قال عمر: فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، ادع الله فليوسع على أمتك؟ فجلس النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة، وإن أولئك قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا".
فهذه إشارات تغني عن كثير من العبارات، تبين لك صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في سَيره إلى الله، وقناعته في مأكله ومسكنه.
فطوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً وقنِع.
لقد سار على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الموفقون من أتباعه، المستنون بسنته، فرضوا بالقليل من الدنيا، أخذوا ما قسم الله لهم، ولم يتأسفوا على ما فاتهم، فضربوا بذلك أروع الأمثلة، وأصدق الاتباع.
فهذا عمر -رضي الله عنه- الخليفة الراشد صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي حدث بما سمعت عن رسول الله، قال عنه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: " كنا عند عمر -رضي الله عنه- فقرأ: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس: 31] ثم سأل عن تفسيرها، قال أنس: وفي ظهر قميصه أربع رقاع.
وأما ابنه عبد الله، ويقال: الولد سر أبيه، أي: على شاكلته، ويأخذ من دينه وخلقه، فقال عن نفسه: "لقد رأيتني زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- بنيت بيدي بيتاً يكنني من المطر، ويظلني من الشمس، ما أعانني عليه أحد من خلق الله" [رواه البخاري].
فلله درهم، وفروا دنياهم، ليستكملوا أجور آخرتهم، قنعوا من الدنيا بالقليل، واستعدوا لما بعد يوم الرحيل.
نسأل الله أن يهدينا لاتباع آثارهم، والاقتداء بسنتهم، إنه على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها الإخوة: قد يغفل الإنسان، فتغيب عنه النعم التي بين يديه، ولا يزال مستحسناً النعم عند الآخرين، ساخطاً أو مستقلا للنعم التي عنده.
فإلى هذه النفوس هذا الحديث العجيب، والدواء القاطع للأطماع الحاضرة والمتجددة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تَزْدروا نعمة الله عليكم"[متفق عليه].
يا لها من وصية نافعة، وكلمة شافية وافية.
فمتى لا حظ الإنسان من دونه في العقل والصحة والمال والوظيفة والمسكن، فإنه سوف يلحظ نعمة الله عليه، ويرى تفضيل الله له.
وسوف يرى خلقا كثيرا ممن سلبوا عقولهم، فيحمد ربه على كمال العقل، ويشاهد عالماً كثيراً ليس لهم قوت مدخر، ولا مساكن يأوون إليها، وهو مطمئن في مسكنه، موسع عليه رزقه.
ويرى خلقاً كثيراً قد ابتُلُوا بأنواع الأمراض، وأصناف الأسقام وهو مُعافى من ذلك، مُسَرْبل بالعافية.
ويشاهد خلقاً كثيراً قد ابتُلوا ببلاء أفظع من ذلك، بانحراف الدين، والوقوع في قاذورات المعاصي، والله قد حفظه منها، وهو على توبة مما زلت قدمه فيها.
ويتأمل أناساً كثيرين قد استولى عليهم الهم، وملكهم الحزن والوساوس، وضيق الصدر، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء، ومنة الله عليه براحة القلب.
وفي هذا الحديث غنية عظيمة لما يستدرج إليه كثير من الناس، وخاصة الشباب، ومن يستقبل حياته حينما يغرون بالقروض الميسرة زعموها، والتمويلات المالية طويلة الأجل بحجة تحسين الأوضاع المعيشية، وتأمين المستقبل.
فهذه الدعاوى والتسهيلات إن سلمت من الربا وغباره، فإنه لا تسلم من هم الدين، وتحميل الذمم ما تعجز عن الفكاك منه.
وقد كانت أمور كثير من هؤلاء المنجرفين المسارعين في قبول هذه الدعوات متمشية على الهون والتيسير، حتى ركبوا من أمرهم الدين العسير.
اللهم إنا نسألك الرضا بما قسمت لنا، والقناعة بما أعطيتنا.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
أيها الإخوة: بين أيديكم يوم عظم الله شأنه، يوم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فيه فرعون وقومه، وهو اليوم العاشر من محرم، فصامه النبي -صلى الله عليه وسلم- شكرا لله، وأمر بصيامه فصوموه، وحثوا أولادكم وأهل بيتكم، وزملاءكم على صيامه.
ويوافق هذه السنة حسب الإعلان الشرعي الرسمي، هو يوم الخميس القادم، والسنة أن يسبقه الإنسان بيوم قبله، فيصوم يوم الأربعاء.
وبين عليه السلام أن صيامه يكفر السنة الماضية.
اللهم أعنا على ذكرك...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم