عناصر الخطبة
1/العقل السليم نعمة عظيمة 2/من أعظم أعمال العقل 3/صحة الفهم مطلب عظيم 4/أسس بناء الفهم الصحيح وتكوينه 5/مساوئ سوء الفهم وانحراف الفكر.اقتباس
إن المسلم إذا رُزِقَ الفهم السليم، والتصور المستقيم عن دينه وواقعه، وعمن حوله من أصدقاء وأعداء، وعن أعمال الناس من خير وشر، وصار من أهل صحة الفهم، ومعرفة الأمور على ما هي عليه؛ فإنه سينفع نفسه وغيره ممن...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: إن العقل السليم نعمة عظيمة، ومنَّة جسيمة؛ فهو نور نستطيع به أن نعرف صواب الأمور من خطئها، وصحيحها من فاسدها، غير أن العقل لا يكتمل إشراقه، ولا يتم ضياؤه حتى يستنير بنور الوحي، فإذا حصل له ذلك فهو العقل التام، والحجا المستقيم.
ألا وإن من أعظم أعمال العقل في العمر: الفهم للحياة والأحياء، وفهم ما ينفع الإنسان وما يضره في عاجل أمره وآجله، وتمييز الخير من الشر، والصديق من العدو، والحق من الباطل. فيكون عند الإنسان بعد ذلك تصور صحيح العاقبة لا يهدِّده شك ولا تراجع، ولا حيرة ولا اضطراب، حتى يصبح فهمه كنور الصباح الذي يشرق على الحياة فيُري الناظرين الأشياء التي أخفاها عنهم ظلام الليل الدامس.
عباد الله: إن صحة الفهم مطلب عظيم، وهدف كبير لا بد لكل من أراد السلامة في دنياه وآخرته أن يسعى إليه، ويحرص عليه؛ لأنه القائد الذي يستطيع به المرء أن يصل إلى حقائق الأشياء، وسلوك السبيل الهادية إلى خير الدنيا والآخرة. قال ابن القيم -رحمه الله-: "صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى".
أيها المسلمون: إن عدو الله إبليس لا يحب للإنسان أن يصل إلى الفهم الصحيح، والتصور السليم في المنافع والمضار؛ فلذلك سعى إلى تزيين الباطل وأهله، وتشويه الحق وحَملته، ثم جند لهذه المهمة جنوداً من بني آدم وظيفتهم ركوب صهوة الكلمة المسموعة أو المقروءة، والانطلاقُ عليها لبثّ الظلام في طريق الحق، حتى يثنوا الناس عن الوصول إليه، ونشر التحسين والتزيين للباطل حتى يقبل الناس عليه.
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ)[الأنعام:137]، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه لا يوجد عصر من العصور على مر الدهور حُورِبَ فيه الفهم الصحيح كهذا العصر، الذي ظهر فيه أهل سوء الفهم، وآل إليهم زمام الكلمة والإعلام المتنوع، فراحوا يبثون سمومهم في العقول والتصورات، فألبسوا على الناس دينهم، وأبعدوا كثيراً منهم عن مصالح دنياهم وآخرتهم.
فلما كان الأمر كذلك وجب على المسلم أن يحرص على الفهم الصحيح في أمر دينه أكثر من حرصه على طعامه وشرابه، وأن يحذر كل الحذر من أن تتسلل إليه طلائع سوء الفهم فتصيبه في مقتل، فيصير الحق أو بعض مفرداته في ذهنه باطلاً، أو يصبح الباطل أو بعض مظاهره لديه حقًا وصوابًا.
أيها الأحباب الكرام: إن صحة الفهم بناء يحتاج إلى منطلقات وقواعد يقوم عليها، ثم يكون الشروع بعد ذلك في تشييده وتحسينه، وإيجاد ما يحميه ويدفع عنه عاديات الهدم والاضطراب والتشويه. وبناء الفهم الصحيح أهم من بناء المساكن والأجسام وسائر مصالح الدنيا الفانية؛ لأن صلاح الفهم واستقامته طريق صلاح الدنيا والدين.
فنقول: إن حسن الفهم يقوم على دين متين، وعقل رزين؛ فصاحب الدين المتين ينشد الحق الموافق لكتاب الله وسُنة رسوله أينما كان، ولا يجعل شهواته ورغبه ورهبه حائلاً عن الأخذ بذلك الحق.
وصاحب العقل الرزين لا يقبل كل ما يسمع أو يقرأ حتى يعرضه على كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- إن كان له بهما علم، فإن وافقهما قبله، وإن خالفهما تركه، فليس عظم مصدر الكلمة، ولا الدرجة العلمية، ولا المكانة السامية في النفس لقائل ما تجعل الإنسان يسلم بكل ما يقول ذلك، فالحق أحق أن يتبع، وإن لم يكن قائله في تلك المراتب.
قال تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 17، 18]؛ قال ابن عباس، في معنى: (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)[الزمر: 18] قال: "هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن، وينكف عن القبيح، فلا يتحدث به".
وقال بعض المفسرين: "وقد دل ثناء الله على عباده المؤمنين الكُمَّل بأنهم أحرزوا صفة اتباع أحسن القول الذي يسمعونه، على شرف النظر والاستدلال للتفرقة بين الحق والباطل، وللتفرقة بين الصواب والخطأ، ولغلق المجال في وجه الشبهة ونفي تلبس السفسطة. وهذا منه ما هو واجب على الأعيان وهو ما يكتسب به الاعتقاد الصحيح على قدر قريحة الناظر، ومنه واجب على الكفاية وهو فضيلة وكمال في الأعيان وهو النظر والاستدلال في شرائع الإسلام وإدراك دلائل ذلك، والفقه في ذلك والفهم فيه والتهمم برعاية مقاصده في شرائع العبادات والمعاملات، وآداب المعاشرة لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أصدق وجه وأكمله، وإلجام الخائضين في ذلك بعماية وغرور، وإلقام المتنطعين والملحدين".
عباد الله: إن من منطلقات الفهم الصحيح أن يكون الإنسان مخلصًا لله -تعالى-، طالبًا لرضاه، فإذا كان كذلك حرص كل الحرص على فهم الأمور على حقيقتها حتى يعبد الله وحده على بصيرة. ولابد عليه كذلك من أن يكون من أهل المراقبة الصادقة لله -عز وجل-، فهي النور الكاشف الذي يريه ما يصلح تصوره، والعمل به، وما لا يصلح، فإن كان مراقبًا لربه فسيبحث عن الحق ليعمل به.
ويُبْنَى الفهم الصحيح كذلك على حب الله -تعالى- وصدق العبودية له؛ فإن من كان محبًّا لله صادقًا في عبوديته فسيبني فهمه على الحقائق الثابتة والتصورات التي لا يخالطها غبش ولا حيرة.
ويبنى الفهم الصحيح أيضًا بالعلم النافع، وتتبع المعلومات الصادقة عن الشيء الذي يراد بناء تصور صحيح عنه، والرجوع إلى الموثوق بهم علمًا وديانة. فيكون عند المرء وعي جمعي نتج عن تراكم معلومات وحقائق، وليس وعيًا لحظيًا جاء نتيجة موقف معين فحسب.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله، (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون: 60]؛ أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: "لا، يا بنت أبي بكر، أو يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي، وهو يخاف أن لا يتقبل منه"(رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح).
ويبنى الفهم الصحيح كذلك على تحري الحق من مصادره الأصلية من غير سماع من أعدائه، أو غير المتثبتين عنه، وفي قصة الطُفَيْل بن عمرو الدَّوْسي ما يدل على هذا؛ فقد قدم مكة في السنة الحادية عشرة من النبوة فحذَّره المشركون من سماع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، متهمين نبي الله بالسحر؛ ليصرفوا الطفيل عنه. قال الطفيل: "فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئًا، ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفًا؛ فرقًا من أن يبلغني شيء من قوله". ثم راجع الطفيل نفسه حتى استمع لرسول الله فعرض عليه الإسلام، وتلا عليه القرآن، فقال الطفيل: "فوالله ما سمعت قولًا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق". أرأيتم كيف وصل إلى الحقيقة حينما ترك الوسائط ووصل إلى المصدر الأصلي؟
عباد الله: ويبنى الفهم الصحيح على التثبت والنظر والتأني الذي لا يأخذ بالإشاعة والكلمات الطائرة التي لا زمام لها ولا خطام. قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6].
ويبنى الفهم الصحيح أيضًا على تمسك الإنسان بالعدل والإنصاف، الذي يجعل صاحبه يضع الأمور في مواضعها، والأوصاف على موصوفيها، والأسماء على مسمياتها حقًا. لا كما سمع أو قرأ، ولا انتصاراً لنفسه أو لحزبه أو جماعته أو من ينتمي إليه. قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة: 8].
ويُبْنَى الفهم الصحيح كذلك على استعداد صادق لصحة الفهم، واستقامة التصور، ولو كان في ذلك مخالفة لأهوائه وشهواته. أما من لم يكن عنده استعداد وتهيؤ لذلك فإنه قد يقبل ما يصل إليه، ويوافق ما هو عليه من غير أن يبحث ويتحرى الحقيقة؛ ليعرف الحق من الباطل والصدق من الكذب.
أيها الإخوة الفضلاء: إن المسلم إذا رُزِقَ الفهم السليم، والتصور المستقيم عن دينه وواقعه، وعمن حوله من أصدقاء وأعداء، وعن أعمال الناس من خير وشر، وصار من أهل صحة الفهم، ومعرفة الأمور على ما هي عليه؛ فإنه سينفع نفسه وغيره ممن سيصلهم قوله أو فعله.
فصحة الفهم تورث صاحبها سلامة المعتقد والفكر، فيبني عقيدته وأفكاره على ما وافق وحي السماء، دون أن يتشرب عقله وقلبه الانحرافات والتأويلات والتشكيكات والتمويهات التي يبثها ذوو الفهم العقيم.
وصحة الفهم تُهدي صاحبها صدق العبادة والمسارعة إلى مرضاة الله -تعالى-، والبعد عن معصيته.
وبصحة الفهم يحسن التعامل مع الخلق، وبذل الأخلاق الطيبة بينهم.
وفي صحة الفهم يتخذ المرء الموقف المناسب مع الأولياء والأعداء الذي دعا إليه الوحي، فالولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين، والتواضع مع أهل الإيمان، والعزة مع أهل الكفران.
وصحة الفهم تجعل صاحبها عادلاً في أحكامه على الناس فلا يحيد عن الحق في شعوره من حب أو بغض، ولا في أقواله من مدح أو ذم، بل يضع شعوره وأقواله وأوصافه في مواضعها اللائقة بها.
وصحة الفهم تقود إلى النجاة في الدنيا والآخرة، فمن سلم فهمه عمل في دنياه ما يرضي الله ويعينه على الحياة حتى يلقى ربه. ومن سلم فهمه سعى سعيًا حثيثًا للعمل للآخرة، فأقبل على الطاعات واجبها ومستحبها فعملها، وعلى المعاصي فتركها وأبعد نفسه عنها. من غير غلو ولا تقصير، ولا ابتداع ولا خروج عن منهج الحق الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه أهل الهدى.
أما بعد: أيها الأحباب الكرام، وفي مقابل الفهم السليم يوجد الفهم العقيم، أو الفهم الخاطئ، أو المنحرف، أو المظلم، أو السطحي، أو غير ذلك من الأسماء المترادفة.
إن سوء الفهم للدين للحياة والأحياء من المصائب الحالَّة في مجتمعاتنا. والكارثة أنها لا تقتصر على عموم الناس، بل صارت ظاهرة بارزة على بعض الناس من النخب والمثقفين والموجهين للناس من أصحاب الكلمة المسموعة أو المقروءة.
والسبب أن هناك ضعف إيمان، وقلة مراقبة وتقوى، وحرصٍ على الحق والصواب، وهناك ضعف وعي للماضي والحاضر والمستقبل، وهناك قراءات خاطئة من بعض الناس لدين الله -تعالى- تخالف ما أراد الله -تعالى- أن يكون عليه عباده. وهناك نظرة قاصرة أو مشوهة عن تاريخ الإسلام وأهله منذ بزوغ فجره إلى اليوم. وهناك تبجيل للحضارة الغربية، والمتأثرين بها الذين تنصلوا عن الحضارة الإسلامية، وهناك انجراف نحو التنازل عن الثوابت. وهناك تسليم كامل في الفهم لشخصيات أو جهات ولو كانت النتائج الفهمية مخالفة للشريعة الإسلامية!!.
وهناك فهم جزئي للدين في جانب معين يعتقد أنه هو الدين كله، دون أن يكون هناك فهم شمولي لمعنى دين الله -تعالى-.
أيها المسلمون: إن هذه المظاهر وغيرها دعت إليها أسباب أدَّت إليها؛ فبعض الناس قد ينحدر إلى سوء الفهم للحقائق والأمور بسبب جهله للحق في تلك القضايا، والمطلوب من المصاب بهذا الداء: أن يتعلم ويبحث عن الحق في مظانه قبل أن تنطبع في ذهنه المفاهيم الخاطئة فيصعب حينها تغييرها.
ومما لا يشك فيه أيضًا أن البيئة الفاسدة التي يعيش فيها الإنسان لها دور كبير في الوصول إلى سقم الفهم، سواء البيئة الخاصة وهي الأسرة والأقارب، أم البيئة العامة وهي المجتمع الذي يعيش فيه المرء.
ومن العلاج لهذه المشكلة: التعلم النافع الذي يستطيع به الإنسان التمييز بين الحق والباطل، فيوافق أهل بيئته في الحق، ويفارقهم في الباطل.
ويأتي التعصب المقيت والتقليد الأعمى لشخصية أو لحزب أو لجماعة أو لفكرة ما، ليعمي صاحبه عن الفهم الصحيح بحيث يصير فهمه أسير تلك الجهات، فما صدر عنها فهو الحق الذي لا باطل معه، من غير أن يعرض ذلك على ميزان الوحي المعصوم، ليعرف أذلك موافق للحق أم لا؟
وهذه مصيبة كبيرة بلي بها المجتمع المسلم اليوم، حتى أدى ذلك إلى شيطنة الملائكة، وأمْلَكَة الشياطين، وتخوين الأمناء، وائتمان الخائنين، وتصديق الكاذبين وتكذيب الصادقين!!
والعلاج لهذه المصيبة: أن يعلم المرء أن هؤلاء الناس الذين يسلم عقله وفهمه لهم أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وليسوا معصومين من الخطأ والهوى والزلل.
أيها الإخوة الأفاضل: ولا ننسى أن شهوات الدنيا من حرص على المال، أو الشهرة، أو الوظائف والمناصب، والحفاظ على المكانة والرئاسات الدنيوية على الناس تمثل سببًا رئيسًا لسوء الأفهام أيضًا. فكم من إنسان أظلم فهمه حينما أغرته أعراض الدنيا الفانية، فباع دينه وأخلاقه الحميدة متجهًا نحوها!
فأين تقوى الله -تعالى-، والخوف منه، واليقين بأن ما عنده لأهل طاعته خير من الدنيا وما فيها، وما تساوي الدنيا أمام جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، ولم تعد للذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل؟
عباد الله: ومع كل هذه الأسباب المؤدية إلى اسوداد الأفهام وانحرافها؛ فإن هناك سببًا آخر انفرد به عصرنا يفوق ما تقدمه من الأسباب، هذا السبب هو الإعلام السيئ على اختلاف وسائله: المرئية والمسموعة والمقروءة. فكم أحدث إعلام الباطل من زلازل ذهنية، وكوارث فهمية في عقول بعض المسلمين، حتى أصبحوا أرقّاء لتلك الوسائل التي صارت توجههم إلى أي فهم سيئ تريد، وهم يقبلون ما جاء فيها من غير رفض ولا غربلة. ولم يعد خافيًا أن أكثر وسائل الإعلام وأعظمها تأثيراً بين الناس هي بأيدي أعداء الحق والفضيلة.
إخواني الفضلاء: إن سوء الفهم مصيبة قد تؤدي إلى ترك الطاعات، وارتكاب السيئات، وقد يوصل بعض الناس إلى الخروج عن الإسلام بما ثقل به من الشبهات والأفكار المخالفة لثوابت الإسلام وأصوله الراسخة.
وسوء الفهم يؤدي إلى الشك والحيرة في الأمور اليقينيات، فيصبح الإنسان مضطرب الحال، متموج البال.
وسوء الفهم ساق بعض الناس إلى عد المعاصي طاعات وقربات، وجعل الطاعات تهمًا وسيئات عظيمات.
وسوء الفهم أدى في المجتمع المسلم إلى التهاجر والقطيعة والتراشق بالألقاب والاتهامات والتبديع والتفسيق والتكفير من غير برهان من الله ورسوله.
فيا عباد الله: الحرصَ الحرص على جلاء الأفهام، وتصحيحها وتلقيحها بالإخلاص والتقوى والإنصاف، وبالعلوم والمعارف التي توصل إلى مرضاة الله، والتثبت قبل إصدار الأحكام على القائلين والأقوال.
والبعد كل البعد عن وسائل الإعلام التي تزين الباطل وأهله، وتشوه الحق وذويه، وتصرف العقول عن سلم الوصول إلى نيل المأمول من معرفة الحقائق، وكشف زيف معوجِّ الطرائق.
هذا وصلوا وسلموا على النبي الكريم....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم