عناصر الخطبة
1/حقيقة الفتور ومعناه 2/النشاط والكسل طبيعة النفس 3/أعراض ومظاهر الفتور 4/أسباب الفتور 5/علاج الفتوراقتباس
وهناك مرض خطير من أمراض القلوب ينتشر بين أهل الإيمان والطاعة, ذلك هو مرض الفتور أو الملل والسآمة, والفتور له معنيان: الأول: الكسل والتراخي، والتباطؤ بعد النشاط، والثاني: ترك العمل والانقطاع بعد الاستمرار. وطبيعة النفس أن تنشط ثم يصيبها شيء من الفتور, والفتور العارض يشعر به الإنسان بين حين وآخر، ولكنه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن النفس البشرية ضعيفة, وقلب الإنسان يتقلب؛ فتارة يملؤه الإيمان, فينشط للعبادة, وتارة يضعف ويتكدر, وربما تسلل إليه حال ضعفه مرض من أمراض القلوب فتمكن منه وهو لا يشعر, ولذا ينبغي الحذر والتيقظ.
مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ *** فَاحْذَرْ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ
وهناك مرض خطير من أمراض القلوب ينتشر بين أهل الإيمان والطاعة, ذلك هو مرض الفتور أو الملل والسآمة, والفتور له معنيان: الأول: الكسل والتراخي، والتباطؤ بعد النشاط، والثاني: ترك العمل والانقطاع بعد الاستمرار.
وطبيعة النفس أن تنشط ثم يصيبها شيء من الفتور, والفتور العارض يشعر به الإنسان بين حين وآخر، ولكنه لا يستمر معه، ولا تطول مدته، ولا يوقع في معصية، وهذا لا يسلم منه أحد، إلا أن الناس يتفاوتون فيه أيضا، وسببه أمر عارض؛ كتعب أو انشغال أو مرض ونحوها.
وهذا النوع هو الذي يذكره الصحابة -رضي الله عنهم- فعن حنظلة الأسيدي، قال: لقيني أبو بكر فقال: "كيف أنت يا حنظلة؟" قال: قلت: "نافق حنظلة"، قال: "سبحان الله! ما تقول؟" قال: قلت: "نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرا", قال أبو بكر: "فوالله إنا لنلقى مثل هذا".
فانطلقا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فقال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة: ساعة وساعة" (مسلم).
وإنما الخطر أن يكون هذا الفتور مستمراً يسترسل معه الإنسان؛ ويصبح داءً يتناقص معه الإيمان حتى يتردى حال صاحبه فيذهب إلى ما هو أبعد من ذلك, فيترك فرضًا أو يرتكب إثمًا, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ" (ابن حبان وصححه الألباني), قوله: " فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ" أي: إن فترات الكسل والخمول يجب أن تظل في حدود السنة, وألا تتجاوزها لفعل المنكرات والمعاصي.
ولخطورة الفتور كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ منه، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل..." (البخاري ومسلم).
أيها الناس: والمصاب بالفتور تظهر على سلوكه أعراضٌ تدل على إصابته به, فمنها:
التكاسل عن الواجبات والفرائض والتثاقل عنها: فقد عاتب الله المؤمنين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ)[التوبة:38], وذم المنافقين لتثاقلهم عن الصلاة، وهذه أسوأ أنواع الفتور, قال -سبحانه-: (وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى)[التوبة:54] وقال: (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء:142].
ويدخل في هذا الضعفُ عن نوافل العبادات كقيام الليل وصلاة الوتر وأداء السنن، ومن ذلك الغفلة عن قراءة القرآن وعن الذكر عموما إذ يجد ثقلا في فعل ذلك، وانصرافا عنه.
ومن أعراض الفتور: عدم الحزن على فوات الطاعة ومواسم الخير: فتفوته مواسم العبادة ولا يبالي، ويتأخر عن الجمع والجماعات ولا يحزن، وإن أدى الطاعة فعلى عجلةٍ خالية من الروح, فالصلاة بلا خشوع، وقرآءة القرآن بلا تدبر...
ومن الأعراض: قسوة القلب: فالقلب لا يتأثر بالقرآن والمواعظ ولا برؤية أهل البلاء، وربما دخل المقابر وحمل إليها الأموات وكأنه لم يرَ شيئًا، حاله كما قال الله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)[البقرة:74].
ومنها: البعد عن مجالسة الصالحين: وقد يصل الأمر إلى الوحشة، ومن ثم التهرب والصدود, فيميل الإنسان إلى العزلة عن إخوانه الطيبين، ويصاحب آخرين ممن يزيده كسلاً وفتورا وبعدا عن الطاعة وانغماساً في المعصية.
ومن أعراضه: ضياع الوقت فيما لا فائدة منه: حيث يمضي الوقت في اللهو واللعب, وتذهب بركته، فتمضي عليه الأيام لا ينجز فيها شيئا يذكر, إلا تبديده في ما لا يفيد.
أيها المؤمنون: وإذا أراد الواحد منا معالجة نفسه من هذا المرض إذا تسلل إليه؛ فلا بد من معرفة أسبابه, والتي منها:
ضعف الإيمان؛ فالإيمان حصنك وهدايتك للطاعات, قال -جل وعلا-: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)[التغابن:11], فهداية القلب ثمرة للإيمان، ولو هدى الله قلبك استقامت جوارحك كلها على الطاعة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (متفق عليه).
ومن ذلك: ضعف الإرادة والهمة: قال ابن القيم: "اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله تعالى بقلبه وهمته لا ببدنه", قال -تعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)[الإسراء:18-19], ولذا تتفاوت همم الناس؛ فمن الناس من تنشط همته في الدنيا لجمع المال, أو الشهرة أو المنصب، ومنهم من همته في حمل هموم دينه وأمته.
ومن يتهيب صعود الجبال*** يعش أبد الدهر بين الحفر
ومن الأسباب: الاستهانة بصغائر الذنوب: وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه"(متفقٌ عليه), فكل معصية تفعلها تبعدك عن طاعة, وإذا ازدادت المعاصي زاحمت الطاعات حتى أخرجتها من القلب, فيصير فعلها ثقيل على النفس.
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها
ومن الأسباب: عدم الترويح على النفس بالمباح: وهو سبب قد لا يلتفت إليه كثير من الناس, وفي الحديث: "إنَّ لربِّكَ عليك حقًّا، وإنَّ لِنَفسكَ عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ" (البخاري).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها الأحبة: عرفنا أعراض الفتور وأسبابه؛ فهل لهذا الداء من علاج؟ والجواب: نعم؛ فلكل داء دواء, ومن أفضل العلاج لأي مرض أن يتجنب الإنسان أسبابه, فإذا تجنبت أسباب الفتور التي ذكرناها سابقاً؛ ضعف الداء حتى يزول -بإذن الله- إذا أضيف إلى ذلك أموراً منها:
الدعاء والتضرع لله: فإنك لن توفق للطاعة إلا بتوفيق الله لك، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله" قيل : كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: "يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه", والمؤمن في كل ركعة من صلاته يدعو ربه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة:6].
ومن العلاج: القصد والاعتدال في الطاعات بلا إفراط ولا تفريط، فخير الأمور الوسط, فلا ينبغي للإنسان أن يكلف نفسه من الطاعة فوق طاقتها فتمل وتسأم, قال -عليه الصلاة والسلام-: "سددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" (البخاري ومسلم) وفي الصحيحين أن النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل المسجد يوما فوجد حبلا مربوطا بين ساريتين فقال: "هذا؟" قالوا: حبل لزينب إذا فترت تعلقت به, قال: "حلوه حلوه" ثم قال : "ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد".
ومن العلاج: صحبة الأخيار والصالحين ففي الصحيحين أن النبي-عليه الصلاة والسلام- قال: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير", وأكثر الانتكاسات إنما كانت بسبب الصحبة السيئة, قال -صلى الله عليه وسلم-: "المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل" (رواه أحمد).
ومن العلاج: المداومة على عمل اليوم والليلة: من الأذكار والصلوات والقرآن والذكر والاستغفار إلى غير ذلك ، فليحافظ المرء على الصلوات في جماعة، وليكن له ورد اليومي من القرآن، فما تقرب عبد إلى الله -جل وعلا- بأحب مما أفترض الله -تعالى- عليه كما في الحديث القدسي: "وما تقرب إلى عبد بشيء أحب إلى مما افترضته عليه, ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه" (البخاري).
ومن علاج الفتور: ذكر الآخرة: فإن ذكرت الموت استعددت له بالعمل الصالح, وإن ذكرت الجنة اشتقت إليها وسارعت بالطاعة, وإن ذكرت النار خفت وهربت من كل معصية، قال -جل وعلا-: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)[الذاريات:50].
ومن العلاج: المحافظة على مجلس من مجالس العلم؛ فإنها من أعظم البيئات التي يتقوى فيها إيمانك, وتزداد معرفتك بالله وتعظيمه، وتحصل فيه على الأجر والسكينة والعلم بالحلال والحرام, قال -جل وعلا-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة:11].
وأخيراً: فإن الذي يتأمل في كثير من مظاهر الفتور وأسبابه يجد أن كل واحد منها يمثل ذنبا ومعصية, والنجاة من ذلك إما أن يكون إقلاعاً من ذنب, أو مسارعة إلى خير, ولذا ندب الله عباده لذلك, فأمرهم بالتوبة, قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا)[التحريم:8], وأثنى على المؤمنين الذين يسارعون في الخيرات، قال -سبحانه-: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آلعمران:133] وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ)[المؤمنون:61].
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم