الغيرة المرضية وأثرها في طلاق الزوجين

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

اقتباس

الغيرة المرضية وأثرها في طلاق الزوجين

 

 

د. عبدالعزيز شاكر حمدان الكبيسي

 

من الآفات التي تنعكس سلبًا على حياة الزوجين، وتؤدي في نهاية المطاف في كثير من الأحيان إلى وقوع الطلاق بين الأزواج: الغيرة الزائدة، أو ما يُعرف بالغيرة المَرَضِية، وسأتحدث في هذا المقال عما يأتي:

 

أولًا - مفهوم الغيرة:

 

الغيرة حميَّة تشتعل في النفس؛ لمزاحمة الآخرين لها في شيء تحبه، وتحمل صاحبها على ما لا يَليق من الأقوال والأعمال.

 

والغيرة: عاطفة تَحدث لأي إنسان في وقتٍ ما من حياته، ومثل هذه الغيرة العادية يمكن أن تمتدَّ إلى حب التملُّك الشديد للشريك.

 

ويمكن أن تصل في بعض الأحيان إلى غيرة مرَضية أو ما تسمى بـ(الغيرة الذهانية الضلالية).

 

وفي هذه الحالة يعتقد المصاب بالغيرة اعتقادًا راسخًا - ليس مبنيًّا على أي دليل معقول، ولا متماشيًا مع المنطق وتسلسل الأحداث - أن شريكه أو شريكته يخونه مع إنسان آخر، وتصبح الفكرة الأساسية الطاغية على تفكير المريض هي الانشغالَ التامَّ بخيانة شريكه، ويصاحب ذلك كربٌ وضيق شديد، ثم يتطور الأمر ويبدأ المريض في جمع الأدلة التي تؤيد اعتقاده وشكوكه؛ فالأحداث اليومية وهفَوات اللسان ومقابلة شخص... وغيرُها تكون لها معانٍ أخرى في عقل المريض، فإذا عاد إلى المنزل ووجد زوجته سعيدة فلا بد أنها تلقَّت مكالمة من حبيبها المجهول، وإذا وجدها حزينة فلأنَّ ضميرها يؤنِّبها على ما فعلَته في غياب الزوج، وتتَّسع أوهام المريض فيظن أن زوجته تضع له السم في طعامه، أو أنها تخونه أثناء نومه!

 

ويتحول الزوج إلى كُتلة متحركة من الشكوك، فيبدأ في جنون البحث عن دليلٍ لإدانة زوجته، فيفتش في ملابسها وحقيبتها وأوراقها، ويقوم باستجوابها كمتهمة، وقد يؤدي ضغطه على الزوجة البريئة البائسة إلى تحريضها على الاعتراف الكاذب، فيؤكد لها أن هذا هو السبيل الوحيد لراحته، وإذا استسلمَت واعترفت اعترافًا كاذبًا فذلك يفجِّر لديه براكينَ الغضب والعنف والانتقام!

 

الإفراط في الغيرة من أكبر أسباب الطلاق؛ نظرًا لما يترتب عليه من انعدام الثقة بين الزوجين، ولذلك قال عبدالله بن جعفر رحمه الله تعالى وهو يوصي ابنتَه التي كانت تتهيَّأ لدخول حياتها الزوجية: "إياكِ والغيرة؛ فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب؛ فإنه يورث البغضاء".

 

وقد وقفتُ على دراسة للدكتور فهد ثابت بعنوان "المرأة والطلاق في المجتمع الكويتي"، وقد تضمنَت فصلًا بعنوان "أسباب الطلاق" اشتمل على استبيان وُزِّع على المطلقات، وقد أظهر هذا الاستبيان الأسباب التي أدت إلى الطلاق؛ إذ بلغَت (145) سببًا، وتم تصنيفها في ثماني مجموعات؛ هي:

 

1- سوء المعاملة والفساد.

 

2- عدم توفر السكن المستقل، والخلافات مع أهل الزوج.

 

3- المشاكل الجنسية.

 

4- التفاعل بين الزوجين.

 

5- مشكلات تعدد الزوجات.

 

6- المشكلات المالية.

 

7- مشكلات النفور وعدم الاقتناع بالزوج أو الزوجة.

 

8- مشكلات المرض النفسي والجسدي والغيرة والشك والسحر.

 

وبينَت الاستبانة أن 37.5% ممن أُجريت عليهن قد طلِّقن بسبب مشكلات المرض النفسي والجسدي، والغيرة والشك. وأن 13.6% طُلقن بسبب المشكلات المالية؛ ومنها الشح والبخل!

 

ثانيًا - أنواع الغيرة:

 

المعروف أن الغيرة في الإنسان غزيرة بشرية، تكون في الرجال والنساء على حد سواء، وتلك الغيرة نوعان:

 

1 - غيرة فطرية سوية معتدلة، تعين على حماية العِرض، وصيانته من الابتذال، وهي بذلك تكون خُلقًا محمود، وصفةً كريمة، وخصلة نبيلة، دعا إليها الإسلام وحث على التحلِّي بها.

 

وتلك الغيرة المحمودة تكون في البعد عن مواطن الرِّيبة، وتكون في عدم رضا الزوج عن تبرج زوجته واختلاطها بالأجانب، ومنعها من ذلك، وحراسة بيته من المنكرات التي تعجُّ بها وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها.

 

والذي لا غيرة له على عرضه وأهله محرومٌ من الجنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا يدخل الجنة ديُّوث))[1].

 

2 - غيرة مرَضية مسرفة محظورة، تعذِّب النفس، وترمي التهم بالباطل، وهي تلك الغيرة التي تكون في غير ريبة، وتقوم على إساءة الظن وتتبُّع عورة زوجته والتجسس عليها.

 

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذين النوعين من الغيرة فقال: ((مِن الغيرة ما يحبُّ الله، ومنها ما يُبغِض الله؛ فأما التي يحبُّها الله فالغيرة في الرِّيبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير رِيبة))[2].

 

ومن خلال الإحصائيات التي اطَّلعت عليها تبيَّن أن كثيرًا من حالات الطلاق بين الزوجين تعود إلى ذلك النوع من الغيرة المرَضية التي لم تُضبَط بالضوابط الشرعية، أُطلِق لها العِنان، وراحت تُلقي التهم، وتصيب البريء بما هو منه بَراء.

 

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم أشدَّ الناس غيرة على محارمهم، وأكثرَهم حفظًا لأعراضهم، ويمثل ذلك أصدقَ تمثيل ما قاله الصحابيُّ الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه عندما نزل قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾ [النور: 4]، قال سعد: أهكذا نزلَت يا رسول الله؟ فقال رسول الله: ((يا معشر الأنصار، أتسمعون ما يقول سيدكم؟)) قالوا: يا رسول الله لا تَلُمه؛ فإنَّه رجلٌ غَيور، والله ما تزوج امرأةً قط إلا بِكرًا، ولا طلق امرأة قط فاجترَأ أحد منا أن يتزوجها من شدة غيرته! قال سعد: يا رسول الله، إني لأعلم أنَّها حق، وأنَّها من الله، ولكني قد تعجبتُ أن لو وجدتُ لَكاعًا، قد تفخَّذَها رجل، لم يكن لي أن أُهيجه، ولا أحرِّكه حتى آتيَ بأربعة شهداء! فو الله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته، وفي رواية: فقال: يا رسول الله، إن وجدتُ على بطن امرأتي رجلًا أضربه بسيفي؟!

 

ومن الغيرة المحمودة أيضًا: الغيرة على مَحارم الله تعالى؛ تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهَك حرمة الله"[3].

 

ولله دَرُّ القائل:

ما أحسنَ الغَيْرة في حينِها

وأقبحَ الغيرةَ في غير حينْ

من لم يزَل متهِمًا عِرسَه

متبِعًا فيها لقولِ الظنونْ

يوشِكُ أن يُغريَها بالذي

يَخافُ أن تُبرزَه للعيونْ

حَسبُك من تَحصينها وضعُها

منك إلى عِرضٍ صحيحٍ ودينْ

لا تطَّلِعْ منك على ريبةٍ

فيَتْبع المقرونُ حبلَ القرينْ

 

ثالثًا - أسباب الغيرة:

 

يعتقد كثير من الناس أن الغيرة هي دليل الحرص على المحبوب؛ فحيثما وُجدت الغيرة وُجد الحب، وينعدم الحب بانعدامها، ولكن في حقيقة الأمر نقول: إن للغيرة عدةَ أسباب؛ هي:

 

1- الغلو في الحب.

 

2- الأنانية الزائدة عن الحد المعقول الذي يُعطي للحياة الزوجية دفئَها، ويضفي عليها شيئًا من الخصوصية.

 

3- ذكر محاسن الضرَّة عند ضرتها الأخرى.

 

4- عدم العدل بين الزوجات.

 

5- وجود مزاحمة على المحبوب؛ كالزوج بالنسبة للزوجة، تزاحمها عليه ضرةٌ أو أم.

 

وتؤكد الدراسات العلمية أن الغيرة عاطفة يمكن أن تنشأ عندما يشعر المصاب بها بالاعتقاد أو بالشك أو بالخوف بأن الشخص الذي يحبه ويحتاج إليه ويرغبه لنفسه قد أُخذ - أو على وشك أن يُؤخذ - منه بواسطة شخصٍ آخر.

 

رابعًا - علاج الغيرة المرضية:

 

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يتجنب الزوجان خطر الغيرة؟

 

وللإجابة عن هذا التساؤل نقول: إن الخطوات الآتية كفيلة بعلاج آفة الغيرة المرضية، وهي:

 

1- ألا يتبع الزوجُ ظنونه وشكوكه، فيدفعه الشك تِلْو الشك إلى عواقبَ وخيمة، وإنما عليه أن يطرد تلك الأفكار الشيطانية، وأن يعلِّم زوجته، ويطمئن إلى سلوكها، وليحوِّل الشك إلى اليقين.

 

2- أن يُقنِع الزوج زوجته بالتزام الحجاب إن لم تكن ملتزمة به؛ فستر الجسد فريضة إسلامية تقي المجتمع من شرور التسول الجنسي.

 

3- على الزوجة أن لا تقوِّي شك الزوج أو تخالفه في نفسها وتعصي أوامره، فتَزيد شكوكه، فعليها أن تتعامل معه على أنه شخص يمر بأزمة يحتاج إلى من يقف بجانبه، ويحيطه بالعطف والحب والحنان، فترحِّب به دائمًا وتقابله بوجه بشوش، ولا تغضب عليه حين تجده يسألها عن أمر ما، بل عليها أن توضح له كلَّ شبهة، فيطمئن بذلك، ويطرد أفكاره ووسوسته.

 

4- أن تحترم المرأة آراء زوجها الخاصة بعلاقتها بالجنس الآخر، سواءٌ أكانوا أقاربَ أم زملاء في العمل أم الجيران.

 

5- يجب على المرأة التي تزوجت عن اقتناعٍ أن تثق بزوجها، ولا تدع الظنون تُسيِّر حياتها؛ فالحياة مليئة بالمشاكل والمشاغل، (فلتكن محاميةً عن زوجها لا قاضية تحاكمه)، وعلى الزوج أن يترفَّق مع تلك الزوجة حال غيرتها، ويتعامل معها بهدوء حتى تمر تلك الحادثة بسلام.

 

6- ينبغي على الزوجة أن تواجه مشكلة الغيرة بالصبر، وتقدير الأمور، وتغيير فكرة الزوج تدريجيًّا، حتى تتحول الغيرة إلى ثقة بينهما، وتبادل الاحترام والتقدير.

 

7- تقوى الله عز وجل، فهي كفيلة بأن تعصم الإنسان من وساوس الشيطان واتباع الهوى؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة رضي الله عنها وقد غارت من صفية رضي الله عنها: ((اتق الله يا حفصة)).

 

كما قالت عائشة رضي الله عنها عن زينب بنت جحش يوم لم تخُض مع الخائضين في حادث الإفك: "عصَمها التقوى وخوفُ الله عز وجل".

 

8- تذكر ما أعده الله لمن جاهدت نفسها في دفع غوائل الغيرة؛ فقد ورد في الأثر: "إن الله تعالى كتب الغيرة على النساء، والجهاد على الرجال، فمن صبرَت منهن إيمانًا واحتسابًا كان لها أجرُ الشهيد".

 

وقد أعطى الله الصابرين من الأجر ما لم يعط غيرهم، فقال: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

 

9- حسن الظن؛ فإن الكثير من الغيرة يبدأ من سوء الظن والوساوس التي يُلقيها الشيطان في قلب الغَيور.

 

10- الدعاء: وهو من أعظم العلاج لإطفاء نار الغيرة المذمومة، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها أن يُذهِب الله ما تجده في قلبها من مذموم الغيرة، يوم أن خطبَها عليه الصلاة والسلام؛ رحمةً بأيتامها - بعد أن مات أبو سلمة رضي الله عنه من أثر جرح في غزوة أحُد بعد أن قاتل قتال الأبطال - إذ قالت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مثلي لا يصلح للزواج؛ فإني قد تجاوزتُ السن، فلا يولَد لي، وأنا امرأة غيور، وعندي أطفال"، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم خطابًا يقول فيه: ((أما السن فأنا أكبرُ منك، وأما الغَيرة فيُذهبها الله، وأما الأولياء فليس أحدٌ منهم شاهدٌ ولا غائب إلا أرضاني))، فأرسلَت أم سلمة ابنَها عُمر بن أبي سلمة ليُزوِّجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

11- تذكر الموت والدار الآخرة: فإنَّ من أعظم ما يكف النفس إذا جمحَت ذِكرَها هادمَ اللذات ومُفرِّق الجماعات؛ الموت.

 

12- العدل والإنصاف وعدم المحاباة في القسمة والإنفاق بين الزوجات والأبناء، لمن تعدَّدت زوجاته؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يَعدِل ويَقسِم ويتحرَّى الإنصاف، ومع ذلك يقول: ((اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تَلُمني فيما تملك ولا أملك))؛ ويعني بذلك الحبَّ وما ينتج عنه؛ فهو أمر قلبي لا يستطيع المرء التحكم فيه، فكان يعدِل بين أزواجه في المبيت والنفقة والسفر.

 

13- العدل في المعاشرة والمعاملة، والتبسم والضحك، وبشاشة الوجه في التعامل مع الزوجات - لمن كان متزوجًا بأكثر من واحدة - والأولاد، فكان صلى الله عليه وسلم إذا وضع حَسنًا على فخذه اليمنى وضع الحسين على فخذه اليسرى، وكانا يركبان على ظهره الشريف في وقت واحد.

 

14- العدل في المنحة والهبة، فلا يحلُّ له أن يهَب لإحدى زوجاته دون الأخريات، ولا لأحد من أبنائه دون الآخرين؛ فقد جاء بشير بن سعد رضي الله عنه لِيُشهِد الرسول صلى الله عليه وسلم على عطيته لابنه النُّعمان فقال له: ((أعطيتَ سائر ولَدِك مثلَ هذا؟))، قال: لا، قال: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))[4].

 

إلا إذا كان هناك ما يوجب ذلك من مرضٍ أو عاهة، أو كثرةِ عيال، ونحوِ ذلك؛ فقد منَح ابنُ عمر أحد أبنائه دون غيره؛ لكثرة عياله، والله أعلم.

 

والحيف والظلم والمحاباة لها آثارٌ خطيرة ونتائجُ وخيمة في الدنيا قبل الآخرة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لبشير بن سعد: ((ألا تحب أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟)).

 

أما بالنسبة للحيلولة بين الغيرة والتنافس بين أهل الزوج وزوجته وأبنائه، فالأمر يحتاج إلى حكمة وحنكة وحسنِ تصرف من الزوج؛ بحيث يعطي كلَّ ذي حق حقه من غير إفراط ولا تفريط، وألا يسمح لزوجته بالتدخل فيما يخص أهله، وألا يجعل أهله رُقباء على زوجته مع وجوده، وعليه ألا يتأثر بما يقول أحدُ الطرفين في الآخر.

 

[1] أخرجه أحمد في مسنده والنسائي في سننه.

 

[2] أخرجه أبو داود في سننه.

 

[3] متفق عليه.

 

[4] أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات