عناصر الخطبة
1/ حث النبي على ترك الغضب لأنه جماع الشر 2/ متى يمدح الغضب 3/ ذم اللعن 4/ كظم الغيظ من صفات المؤمنين 5/ كيف يدفع المسلم الغضباقتباس
الغضب جماع الشر، والتحرز منه جماع الخير، قال رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: قلت: يا رسول الله: أوصني، قال: "لا تغضب"، قال الرجل: ففكرت حين قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله. أخرجه الإمام مالك في الموطأ، والإمام أحمد في المسند. قيل لعبد الله بن المبارك -رحمه الله-: "اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب" ..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وقفوا عند حدود الله، واستلهموا الرشد والسداد من كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه لم يمت حتى جعل الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فما من خير إلا ودلّ الأمة عليه، وما من شر إلا وحذر الأمة منه، ولقد أجمل ذلك في أحاديث محفوظة قليلة المفردات جليلة العظات.
وإننا اليوم سنقف مع حديث من معجزاته -صلى الله عليه وسلم-، حديث مكون من مفردة واحدة أجْمَلَ الخير في اتباعه، وأجْمَلَ الشر في مخالفته، شرحه الإمام ابن رجب -رحمه الله- في كتابه جامع العلوم والحكم في ثماني عشرة صفحة، هو وصية موجزة جامعة لخصال الخير جديرة بالحفظ والتطبيق، من سار عليه رشد، ومن حاد عنها عَنَد، ومن اتبعها أفلح في دينه ودنياه، ومن خالفها أوبقت دينه وأخراه.
عباد الله: أراكم قد تشوقتم لمعرفة هذا الحديث فإليكموه فاسمعوه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أوصني، قال: "لا تغضب"، فردد مرارًا قال: "لا تغضب". رواه الإمام البخاري في صحيحه.
وفي رواية عند الترمذي قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: علمني شيئًا ولا تكثر عليّ، لعلي أعيه، قال: "لا تغضب"، وفي رواية أخرى قال: قلت: يا رسول الله: دلني على عمل يدخلني الجنة، ولا تكثر عليّ، قال: "لا تغضب".
عباد الله: الغضب جماع الشر، والتحرز منه جماع الخير، قال رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: قلت: يا رسول الله: أوصني، قال: "لا تغضب"، قال الرجل: ففكرت حين قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله. أخرجه الإمام مالك في الموطأ، والإمام أحمد في المسند.
قيل لعبد الله بن المبارك -رحمه الله-: "اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب".
معاشر المصلين: الغضب خلق مذموم ممدوح، مذموم إذا كان لحظ النفس والهوى والشيطان، وممدوح إذا كان لله ولرسوله ولدفع الأذى عن الدين وانتقامًا ممن حارب الله ورسوله، قال الله تعالى: (قَـاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) [التوبة:14، 15].
وهكذا كانت حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنه كان لا ينتقم لنفسه ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء. أخرجه البخاري ومسلم.
وكان -عليه الصلاة والسلام- إذا رأى أو سمع ما يكرهه الله، غضب لذلك وقال فيه ولم يسكت.
دخل يومًا بيت عائشة -رضي الله عنها- فرأى سترًا فيه تصاوير، فتلون وجهه وهتكه وقال: "إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور". رواه البخاري ومسلم.
فليسمع الذين يعلقون التصاوير في بيوتهم ويصنعون المجسمات في مجالسهم.
ولكن حذارِ لمن يغضب لله ولرسوله أن يخرجه غضبه عن الحق ويقول بما لا يعلم أو يتألّى على الله، ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان، أحدهما عابدًا وكان الآخر مسرفًا على نفسه، فكان العابد يعظه فلا ينتهي، فرآه يومًا على ذنب استعظمه فقال: والله لا يغفر الله لك، فغفر الله للمذنب وأحبط عمل العابد. قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته"، فكان أبو هريرة يحذر الناس أن يقولوا مثل هذه الكلمة في غضبه. أخرجه الإمام أحمد وأبو داود.
إن هذا العابد غضب لله، ثم تكلم في حال غضبه لله بما لا يجوز، وتألّى على الله بما لا يعلم، فأحبط الله عمله، فكيف بمن تكلم في غضبه لنفسه ومتابعة هواه بما لا يجوز.
اللهم إنا نسألك كلمة الحق في الغضب والرضا.
عباد الله: إن الغضبان إذا لم يملك نفسه وقع في شر حال، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة، ورجل من الأنصار على ناضح له، فتلون عليه بعض التلون -أي توقف-، فقال له: سِرْ لعنك الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انزل عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم". أخرجه مسلم في صحيحه.
وكثير من النساء يدعون على أولادهن باللعن والشلل والموت والمرض، ولو استجيب لدعائها لحزنت أشد الحزن، فلتتق الله في نفسها وأولادها، ودعاء الغضبان قد يجاب إذا صادف ساعة إجابة فيهلك بذلك نفسه.
قال عطاء بن أبي رباح: "ما أبكى العلماء بكاء آخر العمر من غضبة يغضبها أحدهم فتهدم عمل خمسين سنة أو ستين سنة أو سبعين سنة، ورب غضبة قد أفحمت صاحبها فحمًا ما استقاله".
فرحم الله امرأً إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل.
يقول عمر بن عبد العزيز: "قد أفلح من عصم من الهوى والغضب والطمع".
وقال الحسن: "أربع من كن فيه عصمه الله من الشيطان وحرمه على النار: من ملك نفسه عند الرغبة والرهبة والشهوة والغضب".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَـاوتُ وَلاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَلضَّرَّاء وَلْكَـاظِمِينَ الْغَيْظَ وَلْعَـافِينَ عَنِ النَّاسِ وَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133، 134].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، وكونوا ممن إذا ما غضبوا هم يغفرون، وإذا ما أذنبوا هم يستغفرون، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
عباد الله: كظم الغيظ من صفات المتقين، والعفو عن الناس من سمات المكرمين، والإعراض عن الجهالات وصف لعباد الرحمن المخلصين.
أخرج الإمام أحمد بسنده من حديث معاذ بن أنس الجهني، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كظم غيظًا، وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء". أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
عباد الله: وللوقاية مما يحدثه الغضب ويدفع أسبابه لأجل الفوز بما أعده الله للصابرين الكاظمين فليتبع ما يلي:
أولاً: إذا وجدت الغضب فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، فقد استب رجلان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فغضب أحدهما حتى احمر وجهه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلم كلمة، لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! قال: إني لست بمجنون. رواه البخاري ومسلم.
ثانيًا: تغيير حاله ووضعه، لأجل أن لا يكون متهيئًا للانتقام والسطوة، أخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح أن أبا ذر -رضي الله عنه- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع".
ثالثًا: السكوت عند الغضب، لحديث: "إذا غضب أحدكم فليسكت". قالها ثلاثًا، قيل: إنه ضعيف الإسناد.
ولعل هذا يحمي الغضبان مما يصدر منه حال غضبه مما يندم عليه عند زوال الغضب، وما أحسن قول مورق العجلي -رحمه الله- قال: "ما امتلأت غيظًا قط ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت".
ولقد غضب يومًا عمر بن عبد العزيز، فقال له ابنه عبد الملك -رحمهما الله-: "أنت -يا أمير المؤمنين- مع ما أعطاك الله وفضلك به تغضب هذا الغضب!! فقال له: أوما تغضب يا عبد الملك؟! فقال عبد الملك: وما يغني عني سعة جوفي إذا لم أردد فيه الغضب حتى لا يظهر".
رابعًا: الوضوء؛ لحديث: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". رواه أحمد وأبو داود والبخاري في التاريخ وسنده حسن.
خامسًا: اللجوء إلى المرح عند الغضب، فحين يحتدم النقاش ويطول الجدال فإن ابتسامة لبقة لها تأثيرها في تلطيف الجو المشحون، عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر -رضي الله عنه- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسمع صوت عائشة عاليًا، فأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما دخل أبو بكر قال لعائشة: لا أسمعك ترفعين صوتكِ على رسول الله، ورفع يده ليلطمها، فحجزه رسول الله، وخرج أبو بكر مغضبًا، فقال رسول الله لعائشة: "كيف رأيتني أنقذتك من الرجل".
إن هذه الدعابة من الرسول لزوجته في هذا الموقف المتأزم، فتح المجال للصلح بين الزوجين، وعندما دخل أبو بكر -رضي الله عنه- بعد تلك الحادثة بأيام، قال لهما وقد اصطلحا: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، ويقول الرسول له: "قد فعلنا قد فعلنا". أخرجه أبو داود بإسناد حسن.
عباد الله: الحياة اليومية لا تخلو من الأزمات العابرة والمشكلات الطارئة التي تجعل الإنسان ينفعل ويغضب، وهذا يؤدي في الغالب إلى معالجة سيئة للأمور، فكم من قاتل حكم عليه بالقصاص كان سب جريمته الغضب، وكم من سجين لم يدخله السجن إلا غضبه، وكم مرتد عن الإسلام بسبب غضبه، وإنه ليحز في النفس ويحزن القلب أن تبدأ هذه الخصومات من أمور تافهة كزحام السيارات أو الوقوف إلى الجانب الأيمن من الإشارة أو عند الشراء والبيع أو عند مراسيم الأراضي وحدودها، فربما سبب ذلك مشاجرات يكون نهايتها القتل.
ولو رأيت حالهم بعد ذلك كيف يعضون على أصابع الندم والحسرة يحزنون على ما بدر منهم، وكل منهم يقول: يا ليت الذي جرى ما كان.
فلنتق الله جميعًا ولنستمع إلى وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- سماع تطبيق وامتثال، فقولوا: سمعنا وأطعنا، ولا تكونوا كالذين قالوا: سمعنا وعصينا، فإننا إن فعلنا سلمنا من كثير من الشرور والمصائب، أسأل الله العلي القدير أن يقينا وإياكم شر أنفسنا والشيطان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم