اقتباس
وكم من مبنى قد شُيد حديثًا فانهدم على ساكنيه فقتلهم والسبب الغش، وكم من كفء أمين أُقصي من مكانة وعُيِّن مكانه العيي الخائن والسبب الغش، وكم أكل ناس حقوق ناس وأموالهم والسبب الغش، وكم من آمال ضاعت وأحلام وئدت وطموحات تحطمت والسبب الغش، وكم من نصر تأخر...
هو صوت يتردد دائمًا في أذني كل مسلم إذا ما همَّ بمخالفة أمانته وضميره، إنه صوت رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- وهو يقول: "من غش فليس مني" (مسلم)، والغش نقيض النصح، ومع أنه -صلى الله عليه وسلـم- لم يرد نفي الإسلام عن الغاش، فقد أراد أنه ترك متابعة هدي النبي -صلى الله عليه وسلـم- وكفى بها رذيلة، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه: أنا منك، يريد به الموافقة والمتابعة (ينظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح).
هو صوت يسمعه المسلم إذا ما قصَّر في أداء مهمة أو مسئولية، وإذا لم ينصح لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلـم- ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإذا لم يبذل الجهد ويستفرغ الطاقة في أداء واجبه...
***
والغش يجمع العديد من الموبقات وينتظم الكثير من الرذائل ويجمع مختلف ألوان العيوب؛ فالكذب من أدوات الغش، والخيانة معنى من معاني الغش، وبالغش يتوصل إلى أكل أموال الناس بالباطل، والغرر والنجش وغيرهما من الغش، وعدم إخلاص النصح لمن استنصحك غش، وكتمان الحق وتدليس الفتوى غش، وإخفاء العيوب في البيع والشراء غش، والتقصير في حمل المسئوليات -أي مسئوليات- غش، ونسبة مجهود الغير إلى نفسه غش، والسطو على ما في ورقة زميله في امتحان غش، وتطفيف الميزان غش، وعدم اتقان الأعمال غش...
وكم من مبنى قد شُيد حديثًا فانهدم على ساكنيه فقتلهم والسبب الغش، وكم من كفء أمين أُقصي من مكانة وعُيِّن مكانه العيي الخائن والسبب الغش، وكم أكل ناس حقوق ناس وأموالهم والسبب الغش، وكم من آمال ضاعت وأحلام وئدت وطموحات تحطمت والسبب الغش، وكم من نصر تأخر ومن هزيمة نزلت ومن خراب حلَّ والسبب الغش، وكم من تجارة بارت وتاجر أفلس وقد كان ثقة والسبب الغش، وكم من أمة تردت وتخلفت والسبب الغش... ألف كم وكم، وألف آه وآه، وألف حسرة وحسرة، والسبب الغش!
فلنا أن نقول أن الغش اسم جامع لكل خيانة وتقصير وتدليس وتزوير وخداع وتضليل، لذا فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلـم- بليغًا -وهو البليغ- فصيحًا -وهو الفصيح حين قال: "ومن غشنا فليس منا" (مسلم)، قال العلماء: معناه ليس على هدينا وجميل طريقتنا (شرح النووي على صحيح مسلم).
***
والغش ألف نوع ونوع، ويدخل ألف مجال ومجال، خاصة في عصرنا هذا الذي قد "أتقنوا" فيه الغش وجعلوه فنًا وعلمًا! ولم يعودوا يعرفون للإحسان معنى إلا إحسان الغش وإتقانه! ومن تلك المجالات التي دخلها الغش واستوطنها، ما يلي:
- غش العلماء: ولست أبالغ حين أقول أن هذا هو أقبح وأشنع وأشد وأخطر وأفتك ألوان الغش على الإطلاق؛ ذلك أن غش العالِـم جناية على دين الله وتشويه لمعالم الإسلام وتلبيس على الناس في دينهم... وغش العلماء صور وأشكال:
فالصورة الأولى: كتمان العلم وذلك غش، وقد أخذ الله -عز وجل- على العلماء من كل أمة العهد ألا يكتموا العلم: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 187]، وعن أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار"(ابن ماجه).
والصورة الثانية: تلبيس الدين على عوام المسلمين وهو غش، وقد نهى الله -عز وجل- عن ذلك قائلًا: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 42]، والآية نزلت في أهل الكتاب، بل في اليهود خاصة، وقيل أن المعنى: "لا تكتبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم" (تفسير الخازن)، ولعل الصواب أن الآية أعم من ذلك؛ فقد قال ترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "(ولا تلبسوا الحق بالباطل): لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب"(تفسير ابن كثير).
وما أكثر من يخلطون الحق بالباطل في زماننا؛ فالمظهر مظهر عالم وقور، والشهادات التي يحملها تدلل على أنه ثبتٌ متقن، أما إذا تكلم شعرت بكلماته تترنح وتأرجح وتتخبط، حتى لا تدري أتصدق عينك التي رأته وقرأتْ عنه أم تصدق أذنك التي أنصتت واستمعت إليه! من جلس أمامهم مرض قلبه وامتلأ عقله بالشبهات واختلطت عليه الأمور، ومن أطاعه فيما يقول وقع في المحظور!
الصورة الثالثة: فتوى العالِم بما لا يراه حق استرضاءً لفرد أو جهة أو خوفًا من بطش قوي غش وتلبيس على الأمة، فهم يحملون أوزارهم وأوزار الناس على ظهورهم، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أفتي بفتيا غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه"(ابن ماجه)، وفي لفظ: "من أُفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه"(أبو داود).
الصورة الرابعة: تميع الدين استجابة ومسايرة للغرب والشرق وموافقة له وانهزامًا أمام أعدائه غش للأمة قبيح، فإن قال الغرب: الإسلام دين إرهاب! سارع المسارعون منا فقالوا: "بل الجهاد عندنا للدفع فقط ولا جهاد طلب!"، وإن قالوا: النقاب رجعية وتخلف! قال المسارعون عندنا: "ليس النقاب من الدين، بل هو بدعة منكرة!"، وإن قال أعداؤنا: الإسلام يظلم المرأة حين يعطيها نصف أخيها في الميراث! نادي الجهلة منا بمساواة الأخت بأخيها في الميراث!...
الصورة الخامسة: اتباع شواذ الآراء ونشرها بين الناس ومهاجمة رموز الإسلام وأصوله؛ طلبًا للشهرة وإحداث "فرقعة" إعلامية لهو بيع للدين بالدنيا ولهو من أشر ألوان الغش للأمة، أقول: وكل رأي شاذ -ولو كان لعالم جليل- فنشره بين الأمة غش لها، ما دام قد اتفق علماء الأمة على خلافه، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما أنت محدث قومًا حديثًا لم تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة" (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر)، ويقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله"(البخاري).
الصورة السادسة: تقصير المعلمين: فليس بعيدًا عن غش العلماء تقصير المعلمين والمدرسين في المدارس والمعاهد والجامعات في تعليم أجيال المسلمين ما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم والإخلاص لله في توجيههم، لا أن يكون كل همهم درس خاص لبعض الطلاب ليحصلوا منهم على مال، ولا تضييع الحصص الدراسية في ما لا يفيد للتسلية وقطع الأوقات...
- غش من استرعاه الله رعية: ومن أعظم أنواع الغش غش الراعي أو المسئول عن مته أو عن رعيته، فعن الحسن، قال: عاد عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه، قال معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لو علمت أن لي حياة ما حدثتك، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة"(مسلم).
- غش الوالدين: ومن أخطر صور الغش: غش الأب والأم لأولادهما؛ ويكون ذلك بعدم تعليمهم الدين، وتربيتهم على قيم أو مبادئ تخالف تعاليم الدين، وإهمال تلقينهم الإيمان وتحفيظهم القرآن، وترك توعيتهم وتبصيرهم -إذا ما بلغوا الوعي- بمخططات أعداء الأمة لهدم الدين والنيل من شباب الإسلام...
- الغش في التجارة والبيع والشراء: عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" قال أصابته السماء يا رسول الله، قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني" (مسلم).
ومن الغش في التجارة: التطفيف؛ تطفيف الكيل والميزان، وتطفيف الكيف والجودة، وكل أشكال التطفيف غش، وقد قال الله -تعالى-: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين:1-3].
والدعايات والإعلانات الكاذبة التي تزيف الحقيقة وتجمِّل العيوب وتضخِّم المزايا من أقبح أشكال الغش، فإن هذه الدعايات امتداد لما درج عليه ناقصي الإيمان من التجار من الحلف الكاذب في البيع والشراء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة"(مسلم).
وقد ثبت من صحيح سنتنا أن إخفاء العيوب في السلعة محرم، فعن حكيم بن حزام، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما"(متفق عليه).
وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلـم- عن جملة أمور كلها من ألوان الغش، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها" (متفق عليه)، فبيع الحاضر للباد: أن يقدم بسلعة ليبيعها بسعر يومها فيقول له الحاضر: اتركها عندي لأبيعها لك على التدريج بثمن أغلى، وقيل: معناه لا يصير له سمسارًا في بيع أو شراء، أما النجش فهو أن يزيد في ثمن السلعة وهو لا يرغب في شرائها وإنما ليخدع غيره ويغره، وصورة الخطبة على خطبة أخيه أن يتقدم رجل لخطبة امرأة فترضى به ويتفقا على المهر ولا يبقى إلا العقد، فيأتي آخر ويخطبها ويزيد في المهر أو غير ذلك من وسائل الإغراء... (ينظر: تعليق مصطفى البغا على صحيح البخاري).
ولعل أنسب ما نختم به كلامنا عن أنواع الغش وألوانه هو حديث النبي -صلى الله عليه وسلـم-: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيع؟ حتى يسأل الرجل على أهل بيته" (النسائي في الكبرى).
***
الآن، وبعد هذه الجولة السريعة في الحظائر العفنة لرذيلة الغش ومعانيها وألوانها ومجالاتها، نقر أننا ما استوعبنا شيئًا يُذكر من التحذير منها، ولا قدمنا لها علاجًا ناجعًا، لذا فقد وكلنا هذه المهمة لخطبائنا المفوهين ولكُتَّابنا الصادقين ولعلمائنا المخلصين... ليقوموا بهذه المهمة، وذلك في صورة جمْعِنا بعض كتاباتهم ثم تنظيمها في محاور عدة تدخل ضمن ملف علمي شامل عن هذه الظاهرة، فإليك تلك المحاور:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم