عناصر الخطبة
1/تفشي مرض الإصابة بالعين 2/العين حق 3/أسباب تفشي ظاهرة الإصابة بالعين 4/أمور تجب على المسلم عندما يرى شيئا يعجبه 5/الوقاية من العين قبل الإصابة بها 6/علاج العين بعد الإصابة بهااقتباس
عباد الله: أمر اشتكى منه كثير من الناس في هذا الزمان، وانتشر في هذا الزمان انتشارا واسعا، فعكر على الناس صفو حياتهم، وأصابهم القلق والهم، لما رأوه قد ألحق الضرر بأنفسهم وأهليهم، فكم من نفس هلكت بسببه، وكم من نفس اعتلت بسببه؛ هذا الأمر، هو...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واعتصموا بكتاب ربكم، وسنة نبيكم، فإن أجسامكم على النار لا تقوى، واستعدوا ليوم ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت ولا تظلم شيئاً، قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
عباد الله: أمر اشتكى منه كثير من الناس في هذا الزمان، وانتشر في هذا الزمان انتشارا واسعا، فعكر على الناس صفو حياتهم، وأصابهم القلق والهم، لما رأوه قد ألحق الضرر بأنفسهم وأهليهم، فكم من نفس هلكت بسببه، وكم من نفس اعتلت بسببه.
هذا الأمر -عباد الله- هو العين، والإصابة بها، فأصبحت العين والإصابة بها شغلاً شاغلا للناس، كثر الحديث عنها، والخوف منها، فكم حرمت -بإذن الله- وقدره أناسا من الأنس بفلذات أكبادهم، وكم حرمت -بإذن الله- وقدره أناسا من الأنس بفلذات أكبادهم، وكم حرمت -بإذن الله- وقدره وأناسا من التمتع بأموالهم ومراكبهم.
فلنعلم -عباد الله-: أن العين حق، كما ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال: "العين حق".
فالإصابة بالعين أمر ثابت وموجود، لا ينكره إلا مكابر أو معاند أو جاهل، فقد وقعت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخرج الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه وغيرهما، عن سهل بن حنيف -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة، اغتسل سهل بن حنيف، وكان أبيض، حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلُبط سهل -أي صرع- فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هل تتهمون به من أحد" قالوا عامر بن ربيعة، فدعا عامر فتغيظ عليه، فقال: "علام يقتل أحدكم أخاه هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت؟ ثم قال: اغتسل له" فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره، ثم يكفأ القدح، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس.
وفي رواية في الموطأ: أن عامر بن ربيعة لما رأى سهلا قال: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه، واشتد وعكه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا بركت؟ إن العين حق، توضأ له" فتوضأ له عامر، فراح سهل ليس به بأس.
والعين في هذا الزمان، والإصابة بها، قد استفحل أمرها، وكثرت الإصابة بها، والضرر بها، وما ذاك إلا لضعف الإيمان بالله وباليوم الآخر، وقلة العلم، وكثرة الجهل، وانصرف أكثر الناس إلى الدنيا، وإعراضهم عن الآخرة، وتماديهم في متع الحياة الدنيا وملذاتها، وتباهيهم بها أمام الذين فقدوا متاعها وملذاتها، وبعدهم عن ذكر الله -عز وجل-، إذا رأوا ما يعجبهم من الدنيا، فامتلأت القلوب حقدا وبغضا، وكرها وحسدا، فلا جرم أن يصيب بعضهم بعضا في نفسه أو ولده أو ماله بهذه العين التي هي حق، وأمر موجود ومشاهد.
وإننا -عباد الله- لنرى التباهي بالدنيا والتفاخر بها، والتمادي فيها، لنراه ظاهرا وواضحا، لا في المآكل ولا في المشارب، ولا في الملابس ولا في المراكب، ولا في المساكن.
ولا شك -عباد الله- أن هذا العمل مذموم ومستنكر، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد تغيظ له، فليس هو من صفات المتقين، ولا من أخلاق الصالحين، بل هو خُلة سيئة، وخلق ذميم، يدل على دناءة الرجل وخسته، وقبح سجيته، إذ كيف يعين أخاه المسلم على شيء أعطاه الله إياه فضلا منه وتكرما، وهل هذا منه إلا اعتراض على ربه -جل وعلا- في عطائه وفضله، ألا سأل ربه -عز وجل- أن يعطيه مثل ما أعطاه ليعلم كل من يعين أخاه المسلم، ويتسبب في ضرره وأذيته بالعين، أنه قد ارتكب أمراً محرماً، وفعل فعلاً مذموماً، فهو حري أن يعاقب على فعله هذا، وليعلم أيضا أنه بذلك قد اعترض على قضاء الله وقدره، فلم يقنع بما قسم الله له من الرزق، ولم يرض بما أعطى الله غيره من الرزق، وليعلم أيضا أن العين حق، ولكن لا تصيب إلا بقضاء الله وقدره، فجميع الأشياء بقدر الله -تعالى-، ولا تقع إلا على حسب ما قدره الله -تعالى- وسبق بها علمه، فلا يقع ضرر العين ولا غيرها من الخير والشر إلا بقدر الله -تعالى-، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا".
فقضاء الله سابق للعين، ولن يقع شيء إلا بقضاء الله وقدره، ولو أن العائن فعل هذا الفعل مرات ومرات، فلن يقدم شيئاً أخره الله، ولن يؤخر شيئاً قدمه الله، وما أحسن قول كعب بن زهير حين قال:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني *** سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها *** فالنفس واحدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل *** لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
إذاً، لماذا يقع في هذا الفعل المحرم، وهذا العمل المشين، ألا يجدر به أن يهتدي بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويأخذ بإرشاده عليه الصلاة والسلام، وهو أنه إذا رأى ما يعجبه في أخيه من جمال خَلق أو جمال خُلق، أو سعة في رزق، وكثرة في ولد، أن يبرك عليه، فيدعو له بالبركة في ماله وولده، كما أرشد إلى ذلك رسول الهدى محمد -صلى الله عليه وسلم، وكذلك يرد ذلك إلى مشيئة الله -عز وجل- وقوته سبحانه فيقول إذا رأى ما يعجبه من الدنيا: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، فقد قال الله -تعالى- في قصة الرجلين اللذين جعل الله لأحدهما جنتين من نخيل وأعناب فلم يشكر الله -عز وجل- وأعجبه حسنهما، ولم يرد ذلك إلى مشيئة الله وفضله، فهلكت كلتا الجنتين، قال الله -عز وجل- حكاية عن قول صاحبه له: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا) [الكهف: 39].
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى شيئاً فأعجبه، فقال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لم يضره".
فمن ابتلي من الناس بهذا البلاء، وهو إصابة الناس بالعين، فليكثر من ذكر الله -عز وجل- ومن التبريك، وقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، كلما رأى ما يعجبه في أخيه المسلم، حتى لا يضر أخاه المسلم، ويؤذيه بالعين.
وإذا علم أنه أصاب أخاه المسلم بالعين في نفسه أو ماله أو ولده، فالواجب عليه: أن ينقذ أخاه المسلم من هذا البلاء الذي وقع عليه بسببه، ولا يستحي من ذلك؛ لأن العين كما ذكر العلماء -رحمهم الله- تكون مع الإعجاب بالشيء ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح.
فيبادر:
أولاً: إلى الدعاء بالبركة للذي أصابته عينه، فإن ذلك يكون رقية لأخيه.
وثانياً: أن يفعل ما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة سهل بن حنيف مع عامر بن ربيعة، بأن يغتسل لمن أعانه، وذلك بغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب ذلك الماء على رأس من أصابته عينه، وظهره من خلفه، ثم يكفأ القدح وراءه، ولا يمنع ذلك أن يخبره بأنه هو الذي أعانه، ولا حياء في ذلك؛ لأن بعض الذين يصيبون إخوانهم بالعين، ويعلمون أن الذي بأخيهم هو منهم قد يستمرون على ذلك، ولا يخبرون به من أعانهم، فيبقى المعان يتألم ويتعذب، فلا يرحمونه، ولا يعطفون عليه، وهذا -والعياذ بالله- ظلم وعدوان، وعلامة على قسوة القلب، أو قد لا يخبرون بذلك حياءً وخجلا من الناس، حتى لا يعرفوا أنهم يصيبون بالعين، وهذا جهل وضلال إذا كيف تنام عيناه، ويطمئن قلبه، وهو يرى أخاه مصاباً في بدنه أو ماله أو أهله، ويراه أو يصل إليه أنه يذهب إلى المستشفيات يرجو من الله الشفاء، ويذهب إلى القراء لطلب الشفاء، وهو يعلم أنا ما في أخيه من إصابة بسببه فلا ينقذه، ولا يعينه، ولا يريحه، وقد ثبت أن اغتسال العائن لمن أعانه فيه الشفاء -بإذن الله- من إصابة العين.
فالواجب علينا -عباد الله-: أن نبتعد عن هذا العمل المحرم، وأن نهتدي بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونسترشد بإرشاده، حتى نسلم من الوقوع في هذا العمل الذي روى جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "العين حق لتورد الرجل القبر، والجمل القدر، وإن أكثر هلاك أمتي في العين".
وفي لفظ آخر: "تدخل الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر".
فنسأل الله -عز وجل- أن يعيذنا من الشر كله، وأن يحفظنا في ديننا وفي دنيانا وفي أنفسنا وأهلينا وأموالنا.
الخطبة الثانية:
بعد المقدمة.
عباد الله: وإن مما يجعل العين والإصابة بها يكثر في هذا الزمان، هو أن كثيرا من الناس لا يتحصنون بما يحميهم -بإذن الله- من العين، ومن أنفع وأنجح ما يتحصن به الإنسان من العين: ذكر الله -عز وجل-، والاستعاذة به من شر الأشرار.
فابتعاد كثير من الناس عن ذكر الله -عز وجل-، وعن الاستعاذة به سبحانه وتعالى، يؤدي إلى إصابتهم بالأذى من المؤذين، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "وكلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: لأرفعك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟" قال: قلت يارسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالا، فرحمته وخليت سبيله، قال: "إما إنه قد كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟" قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته، فخليت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود، ثم تعود، فقال: دعني أعلمك كلمات تنفعك الله بها، قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة: 255] حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان، حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما فعل أسيرك البارحة؟" قلت: يارسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني ها فخليت سبيله، قال: "ما هي؟" قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة: 255] وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان، حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟" قلت: لا، قال: "ذاك شيطان".
فقراءة آية الكرسي وسائر الأذكار والأدعية سبب -بإذن الله- من أسباب الحفظ من الشرور قبل وقوعها، ومن ذلك العين، ولكن مع الإيمان بالله واليوم الآخر، والقيام بالواجبات، وترك المحرمات، وإلا فقراءتها وحدها والدعاء والاستعاذة، مع الوقوع في المحرمات، وترك الواجبات، لا ينفع ولا يجدي.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم