عناصر الخطبة
1/أين هم عباد رمضان؟! 2/مشروعية إظهار الفرحة يوم العيد فرحا بفضل الله ورحمته 3/العيد لمن صلى وصام وتاب وأناب 4/الوصية بالإحسان إلى المحتاجيناقتباس
وإذا أراد أحد منا أن يعرف أخلاق أمة فليراقبها في أعيادها؛ لأن العيد تنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز فيه العواطف والميول والعادات على حقيقتها، والمجتمع السعيد هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة وأعلى قمة، وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مَدًى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات، وَبِعَدْلِهِ تقوم الأرضُ والسماواتُ.
الحمد لله الذي بلَّغَنا رمضان، وسلمنا إياه وتسلمه منا ونحن في نعمة وعافية وأمن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يُونُسَ: 57-58]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل في سنته: "إنما الأعمال بالخواتيم"، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
عباد الله: ها هو شهر الرحمات والبركات قد طوى أيامه ورحل، وها هو شهر النفحات قد حمل بين طياته صحائف أعمالنا ورُفع، فهنيئًا لمن كان شاهدًا له عند الله بالخير، شافعًا له بدخول الجنة والعتق من النار، وويلٌ ثم ويلٌ لمن كان شاهدًا عليه بسوء عمله، شاكيًا إلى ربه من تفريطه وتضييعه، قال صلى الله عليه وسلم: "... رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ..."(رواه الترمذي وأحمد).
عباد الله: إن بعض الناس يتعبَّدون في شهر رمضان خاصةً، فيحافظون فيه على الصلوات في المساجد، ويُكثرون من البذل والإحسان وتلاوة القرآن، فإذا انتهى رمضان تكاسلوا عن الطاعات، وبخلوا بما كانوا يبذلون من الصدقات، بل ربما تركوا الجمعة والجماعات، فهؤلاء قد هدموا ما بَنَوْهُ، ونقضوا ما أبرموه، وكأنهم يظنون أن اجتهادهم في رمضان يكفِّر عنهم ما يجري منهم في سائر العام من القبائح والموبقات، وترك الواجبات، وفعل المحرمات، ولم يعلم هؤلاء أن تكفير رمضان وغيره للسيئات مقيَّد باجتناب الكبائر، قال تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)[النِّسَاءِ: 31]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"(رواه مسلم)، وأيُّ كبيرة بعد الشرك أعظم من إضاعة الصلاة؟ وقد صارت إضاعتُها عادةً مألوفةً عند بعض الناس.
إن اجتهاد هؤلاء في رمضان لا ينفعهم شيئًا عند الله إذا هم أتبعوه بترك الواجبات والوقوع في المعاصي والسيئات.
وقد سُئل بعض السلف عن قوم يجتهدون في شهر رمضان، فإذا انقضى ضيعوا وأساءوا، فقال: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان"؛ لأن مَنْ عَرَفَ اللهَ خافَه في كل زمان ومكان.
عباد الله: وأما المؤمن الصادق المحب لربه فيفرح بانتهاء شهر رمضان؛ لأنه استكمل فيه العبادة والطاعة، فهو يرجو أجرَه وثوابَه من الله، ويُتبع ذلك أيضًا بالاستغفار والتكبير ولزوم العبادة. قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)[الرَّعْدِ: 19-22]، فهؤلاء حريٌّ أن يفرحوا، وحُقَّ لهم أن يفرحوا وكيف لا وقد بشر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك في قوله: "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه.."(متفق عليه).
فأي سعادة للمؤمن أفضل من هذه الفرحة عند لقاء ربه لينال الثواب الكبير، والعطاء الجزيل. فاللهَ أسألُ أن يجعلنا ممن قُبِلَ صيامُه وقيامُه وسائرُ أعماله الصالحة، وأن يعيده علينا أعوامًا عديدة ونحن في صحة وعافية وأمن وأمان وسلامة وإسلام.
عباد الله: ها هو عيد الفطر المبارك قد حلَّ علينا بفرحته، فيفرح المؤمنون بفضل الله -تعالى-، ويبتهجون برحمته، ويأنسون بجوده، ويسرون بعطائه، ويسعدون بمنهجه، وتلك هي -والله- الرحمةُ التي يسعد بها المؤمنون.
وها نحن -يا عباد الله-: نعلن سرورنا، ونبوح بفرحنا، ونصدح بابتهاجنا، فرحًا بفضل الله ورحمته، فما أعظمه من فضل من رب كريم، فقد هدانا لطاعته، ووفقنا لعبادته، وأعاننا على ذكره وشكره، وفتح لنا أبواب رحمته، ودعانا إلى جميل عفوه وسعة مغفرته، وعظيم عطائه.
لقد عشنا ساعات من أروع ساعات العمر، وأطيب أوقات الحياة، مع ذلك الشهر المبارك، شهر المغفرة والرحمة، والجود والعطاء، وشهر القرآن والانتصار على الطغيان.
فهذا اليوم يوم سرور لمن حَفِظَ صيامَه، وصان لسانَه، وزكَّى فؤادَه، وراقب ربَّه، وبذل مالَه، وأيقظ أهله وأولاده، اليوم عيد لمن حافظ على الجمعة والجماعات، وأذعن لربه بالطاعات، هذا هو الذي يفرح، وذلك هو الذي يُسَرّ.
ليس العيد أن تتطيب بالأطياب، وتلبس أحسن الثياب، وإنما العيد لمن صام وصلَّى، وتاب وأناب، العيد لمن لبس ثياب الورع، وتردى برداء الخشية، وتطيب بطيب الصدق، وتزين بزينة الإيمان.
عباد الله: اصدقوا الله -تعالى- بعد رمضان، ولا تكونوا كما قال الله -تعالى- في كتابه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)[النَّحْلِ: 92]، فمن أحسن فليزد في إحسانه.
ومن أساء وفرَّط فليبادر بالتوبة والإنابة وكثرة العمل الصالح، فالله -تعالى- يقبل توبة عباده ولو كانوا من أشد العاصين، وأكبر المفرطين.
واحرصوا -عباد الله- على الخشوع وغض البصر وعدم إسبال الثياب، وعلى حفظ اللسان من اللغو والرفث وقول الزور، وحفظ السمع من استماع القيل والقال، والأغاني والمعازف والمزامير، فإن الطاعة تتبع بالطاعة لا بضدها، ولهذا شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته اتباع صوم شهر رمضان بصوم ستة أيام من شوال، فقد (روى مسلم) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر"، يعني في الأجر والثواب والمضاعفة.
واحرصوا -بارك الله فيكم- على صفاء القلوب من الحقد والحسد والبغضاء، وَأَقْبِلُوا على الصفح والغفران فيما بينكم، فيوم العيد يوم عزيز على المسلمين ينبغي فيه أن نفرح جميعًا بفضل الله علينا، وليكن عهدنا مع الله دائمًا على ما يرضيه، وأن نكثر من شكر نعمه علينا.
واحرصوا -بارك الله فيكم- على صلة الأرحام، وزيارة الجيران، وعيادة المرضى، ومن كان مقصرًا في حق أقاربه فليجعل العيد مفتاح خير له ولغيره كي ينال بشرى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه" (رواه البخاري).
واحرصوا -بارك الله فيكم- على البُعْد عن المعاصي والآثام، ولا تجعلوا فرحتكم بالعيد تحملكم على معصية الله، فكم نرى من الناس من يفرح بالعيد فيقع في المعاصي والذنوب، كمثل من امتنع عن الحلال في نهار رمضان، ثم يفطر على ما حرم الله.
فلا يليق بالمسلم العاقل اللبيب أن يشكر الله -تعالى- على نعمه بالوقوع في معصيته، بل يجب عليه أن يشكر نعمه بدوام طاعته وذكره، وأن يلزم طريق عبادته، وأن يصرف جل همته إلى ما يرضي ربه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الْأَعْلَى: 14-15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أكرم أمة الإسلام بعيد الفطر فرحة لهم بختام شهر الصيام، والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن العيد شُرِعَ لشكر الله على أداء فريضة الصيام، وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه لما قدم المدينة وكان لأهلها يومان يلعبون فيهما، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر"(رواه أبو داود).
فلا حرج على المسلم أن يوسع على أهله وأولاده، وأن يُدْخِلَ عليهم السعادةَ والسرورَ، وأن يعينهم على كل خير، وينهاهم عن كل شر، وأن يوصيهم بالإحسان إلى الفقراء والمساكين.
ويكون قدوة لهم على الخير في زيارة الأقارب والجيران لتتآلف القلوب وتتصافى من المكدِّرات والهفوات، وليتربوا على رؤية الخير وفعله، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
عباد الله: كم من يتيم بيننا يَنْشُد العطفَ والحنانَ، وكم من أرملة تبحث عمن يُذهب عنها أحزانَها ووحدتَها، وكم من فقير يحتاج إلى من يدخل عليه السرور ليسعد كما يسعد المسلمون، وكم من بائس حزين لا يجد لأبنائه ما يلبسون، فكل أولئك وأمثالهم كثير بحاجة إلى نفوس مؤمنة وقلوب رحيمة تنظر إليهم، وترفُق بهم، وتُحسن إليهم، وما أحسن أن يَضُمَّ إلى فرحة العيد وبهجته فرحًا بتفريج كربة مسلم، وملاطفة يتيم، ومواساة ثكلى، ومن عمل ذلك فإنما يعمل لنفسه ويقدم الزاد لآخرته، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ)[فُصِّلَتْ: 46].
فاحرصوا -بارك الله فيكم- على إدخال السعادة والسرور على مَنْ حولكم ممن تعلمون حاجتهم إلى المواساة، وَأَنْفِقُوا مما أعطاكم الله يعوضكم الله خيرا مما بذلتم.
وإذا أراد أحد منا أن يعرف أخلاق أمة فليراقبها في أعيادها؛ لأن العيد تنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز فيه العواطف والميول والعادات على حقيقتها، والمجتمع السعيد هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة وأعلى قمة، وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مدى حيث يبدو العيد تعاونًا وتراحمًا، تخفق فيه القلوب بالحب والود والبر والصفاء.
واعلموا -عباد الله-: أن من علامات قبول الطاعة إتباعها بالطاعة بعدها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر"(رواه مسلم).
فاحرصوا على متابعة الطاعة بالطاعة، ولا تشغلكم الدنيا عن الآخرة، فمن قدَّم وَجَدَ، ومن زَرَعَ حَصَدَ، ومن بخل تحسَّر يوم يلقى اللهَ، والكيِّس مَنْ دَانَ نفسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
بارك الله لنا ولكم في عيدنا، وجعله -سبحانه- عيد فرح وسرور علينا وعلى جميع المسلمين.
فاللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تتقبل منا الصيام والقيام وسائر الأعمال الصالحات، وأن تعيد علينا رمضان أعوامًا عديدة ونحن في صحة وعافية وأمن وأمان وسلامة وإسلام، وأن تُبَارِكَ لنا في عيدنا، وأن تجعله عيد خير وبركة علينا وعلى أمة الإسلام.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم