العلم حياة الأمم

د عبدالعزيز التويجري

2024-10-11 - 1446/04/08 2024-10-21 - 1446/04/18
عناصر الخطبة
1/مكانة العلم ودوره في بناء المجتمع 2/نماذج من المدرسة التعليمية المحمدية 3/من مظاهر اختلال الموازين في التعليم 4/أعظم أنواع التزكية 5/الحث على الالتحاق بتحفيظ القرآن

اقتباس

وفي الجانبِ المشرقِ فإننا -بحمد الله- نرفلُ بمعلمين ومعلمات في التعليمِ وحلقِ التحفيظِ والدورِ النسائيةِ أخيارُ أغيار، يبذلون أوقاتهَم وجهودَهم وأموالَهم لتربيةِ أبنائِنا وتعليمِهم وتحفيظِهم للقرآن، فلهم تحيةُ إجلالٍ وإكبارٍ، فهم فخرُنا، وعليهم المعولُ بعد الله...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، بسط الرزق لعباده، وأغدق عليهم من فضله وإنعامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن واتبع منهجه إلى يوم الدين.

 

أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].

 

وضعت الإجازة أوزارها، وخلفت وراءها أجورها وأوزارها، وافراحها وأحزانها؛ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)[الليل: 5 - 10].

 

انقضت أيامُها على فئة كانت حافلةً بالجد والكسب والعمل، فربح قومٌ آياتٍ حفظوها في صدورهم، وأحاديثاً أنارت قلوبهم، وسفرَ طاعةٍ أو مباحٍ لا لغو فيه ولا تأثيم، وخسرَ قومٌ فتحملوا أوزارهم بنومٍ عن الصلوات أو اتباعٍ للشهوات، أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ.

 

ومع إطلالة هذه الأيام يتغير وجه الحياة؛ فالنائمُ يوقظ، والمسافرُ يقدم، والرغباتُ تحقق، والأموالُ تبذل، والخواطرُ تجبر، وهذه حسنةُ طيبة، ولو بُذل بمثلِها لإقامةِ الصلاةِ، وطاعةِ رب الأرض والسموات؛ لتعلقت قلوبُ أبنائِنا بالمساجد، ولاستهموا على الصف الأول حين يسمعون النداء.

 

وينشَأُ ناشئُ الفتيانِ منا *** على ما كان عوَّدَه أبوه.

 

التربيةُ على الدينِ والخلقِ والعلمِ أساسُ عزِ المجتمعِ وحضارتهِ، وأمنهِ وسلامتهِ؛ (يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لقمان: 17].

 

العلمُ حياةُ الأُممِ، والجهلُ خُذلانُها، ولا يَبْلُغُ المجدَ جاهلٌ، العلمُ عمادُ العِزِّ، ورداءُ السُّؤْدَدِ، وَتاجُ الشَّرَفِ، والجهلُ مَطِيَّةُ سُوءٍ، من ارْتَحَلَها ضَلّ، ومَن قادَها ذَلْ، وَمن سارَ عليها زَلّ.

 

هَلْ عَلِمْتُمْ أُمةً في جَهْلِهَا *** ظَهَرَتْ في المجدِ حَسْناءَ الرِّداء

 

العلمُ يَنْهَضُ بِالوَضِيْعِ إِلى العُلا *** وَالجَهْلُ يَقْعُدُ بِالفَتَى المَنْسُوبِ

 

العلم والتعلم والتعليم يؤخذ من مصادره وأسسه، لا بخلط الأوراقِ وتغييرِ الطباعِ والفطرةِ التي فُطِر الناسُ عليها؛ "وكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ".

 

فدونكم نموذجاً من المدرسة العالمية، التي خرجت أساطينُ التاريخِ، وعلماءُ الدنيا، وعظماءُ المعمورةِ، يروي الطالبُ عبدالله أحد فصول دراستها وكان صغيراً، فيقول : كُنْتُ مع المعلمِ يَوْمًا، فناداني فَقَالَ: "يَا غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ".

 

منهجٌ عظيمُ في التربيةٍ وتلقينِ العلمِ وحسنِ التعليم، احتواءٌ ثم ملاطفةُ ثم تعليم، بكلماتٍ عظيماتٍ، استهلت بترسخِ مبدأِ التعلقِ باللهِ والالتجاءِ إليهِ في السراءِ والضراءِ، وثنّت بالوصيةِ بحفظِ النفسِ والجوارحِ من مزلقاتِ المعاصي ولوثاتِ المنكراتِ، ثم الاستعانةُ باللهِ والانطلاقُ بعزيمةٍ ومثابرةٍ وثباتٍ في التحصيلٍ من العلمٍ، وما ينفعُ في الدنيا ويرفعُ في الآخرةِ ، وختَمها بأن كلَ ما في الكونِ بتدبيرِ اللهِ، وأن قوى البشرِ لا تستطيعُ أن تضرَ احدُ إذا حفظهُ الله، أو تنفعَهُ إذا منعهُ اللهُ، تلكم هي نموذجٌ من المدرسةِ النبويةِ والروضةِ المحمديةِ.

 

نبيٌّ تقيٌ أريحيٌ مهذبٌ *** بشيرٌ لكلّ ِ العالمينَ نذيرُ

 

هكذا يجب أن يكونَ عليه العلمُ والتعليمُ والتربيةُ والاقتداء.

 

وفي موقفٍ آخر تُجلي هذه المدرسةُ أسمى معاني الحياة، ألا وهي الحفاظُ على التوحيدِ والعقيدةِ، وترسيخِ المبادئِ والقيمِ النبيلةِ، وتحبيبِ العلمِ والتعلمِ، والتحذيرِ والتنفيرِ مما يضلُ القلوبَ ويفسدُ الابدانَ، فينادي معلمُها الطالب َمعاذ وهو إلى جنبه إشعارا بأهميةِ وعظمةِ ما سيلقيهِ، فيوصيهِ بأعظمَ وصيةٍ، ويعلمَهُ أرقى علمٍ وأفضلِه فيناديه: "يَا مُعَاذُ"، فيرد معاذ: لبيك وسعديك، فيناديه أخرى: "يَا مُعَاذ"، فيجيبه لبيك وسعديك ثلاث مرات، فيقول المعلم -صلى الله عليه وسلم-: "أتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟"، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"(متفق عليه).

 

اختيارُ المحضنِ والمعلمِ والصديقِ من أهم مقوماتِ الاستقامةِ في الحياة، وسلوكِ أعلى المراتبِ في الأخلاقِ والقيمِ، قال -عليه الصلاة والسلام-: "مُرُوا أولاكمِ بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سِنينَ، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عَشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المَضاجِعِ"، قال العيني: "أي: يفرقُ بين الجاريةِ والغلامِ في المراقدِ؛ وذلك لأنهم إذا قاربوا أدنى حد البلوغِ، فيخافُ عليهم من الفسادِ".

 

وفي التعليمِ والعمل مثلُ ذلك، فلا أحسنَ من فطرةِ الله التي فطر الناس عليها، وكان الناسُ يرسلون أبناءهم لمن يثقون في تعليمهِ وحسنُ أخلاقهِ وقَوامةُ تربيتِه، أرسلت أم سُليمٍ ابنها أنسَ بنُ مالكٍ ليتعلمَ من النبيِ -صلى الله عليه وسلم-، ويخدمَهُ ويهتديَ بسمتهِ ويتربى على خُلُقِه.

 

وإنها لمصيبةٌ أن تختلَ الموازينُ فيتولى مهمةَ التربيةِ والتعليمِ مَنْ لا يلتزمُ بأحكامِ الإسلامِ، متهاونٌ في أمرِ الله، فيسوؤكَ حين ترى مربي الأجيالِ يجرُ إزاره بين الطلاب، وآخرُ يتسللُ لواذاً بين الحصصِ ليلوثَ فاهُ بالدخان، ومنظر سيء أن تجدَ معلمًا يُغذي في طلابهِ التعصبَ الرياضي،

والطالبةُ التي ترى معلمتَها متبرجةً سافرةً كيف تلتزم بالحجابِ والجلباب؟! (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصف: 2 - 3].

 

وفي الجانبِ المشرقِ فإننا -بحمد الله- نرفلُ بمعلمين ومعلمات في التعليمِ وحلقِ التحفيظِ والدورِ النسائيةِ أخيارُ أغيار، يبذلون أوقاتهَم وجهودَهم وأموالَهم لتربيةِ أبنائِنا وتعليمِهم وتحفيظِهم للقرآن، فلهم تحيةُ إجلالٍ وإكبارٍ، فهم فخرُنا، وعليهم المعولُ بعد الله، وأجُرهم على ربهم والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

 

أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات، فاستغفروه إن ربي رحيم ودود.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والسلام على آله وصحبه وسلم، أما بعد:

 

أرى ألف بانٍ لا تقوم لهادم *** فكيف ببانٍ خلَفه ألفُ هادم

 

إن من العجبِ أن من الآباءِ من يتركُ مسؤوليةَ التعليم والتوجيهِ ويكل ذلك للمدرسةِ، وهو يرى الأعادي من كلِ مكانٍ تنهشُ؛ برامجُ تواصلٍ، وصحبةُ سوءٍ، ودعاياتٌ ومواقعُ وتجمعاتِ.

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء

 

لابد للمدرسةِ والمعلمِ من يدٍ في البيتٍ تعينُهم، وأبٌ وأمٌ وإخوةٌ يرعون من تحت أيديِهم، إذا وضعَ المعلمُ في الابنِ لبناتٍ ثم رعاها الأبُ وحافظَ عليها أن تنهدَ؛ اكتملَ البناءُ وتحصنتِ البيوتُ من لصوصِ العقولِ والأخلاقِ.

 

إن من الواجبِ علينا أن نُربي الجيل منذُ الصغر على ما يرفع الهمةَ، ويؤصل الكرامةَ، وأن قيمة الإنسانِ بما يحملُ لا بما يحاكي ويتبع، والمجتمع باسرهِ مسؤول عن تربيةِ هذا النشءِ التربيةَ الصحيحةِ المستقيمةِ؛ " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، فالله الله أن يؤتى الإسلامُ من ثغرةٍ يقومُ الإنسان على حراستها.

 

وجماعُ ذلك كلِه الاستعانةُ باللهِ والدعاءِ؛ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)[إبراهيم: 40]، والصبرِ وعدمِ اليأسِ من طولِ الطريقِ؛ "واستعن بالله ولا تعجز"، والنصحُ لكلِ مسلمٍ؛ (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)[الشورى: 48]، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

 

وأعظمُ التعليمِ وأزكى التربيةِ التعليمُ والتزكيةُ بالقرآن، وحلق القرآن والدور النسائية تشرع أبوابها للتسجيل والالتحاق بكنفها، للكبار والصغار والذكر والأنثى، فليس أحد يستغني عن القرآن، وتزكية كلام الملك الديان، فكم من بحور الأجور في ميزان من يلتحق بها؛ "فلأنْ يَغدُوَ أحدُكُم كل يَوْمٍ إلى المسجد، فيتَعلَّمَ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ"(أخرجه مسلم).

 

ثم صلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللهم صل على عبدك ورسوك نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين.

 

المرفقات

العلم حياة الأمم.doc

العلم حياة الأمم.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات