عناصر الخطبة
1/ فضل العفّة والعفاف 2/ حقيقة العِفّة 3/ من قصص العَفاف 4/ صيانة الأعراض 5/ مفاسِد الإباحيّة وأضرارها 6/ الحرية الحقيقية 7/ من آداب الإسلام في الستر والعفاف 8/ الرد على مزاعم دعاة التحرر 9/ خطورة الإعلام 10/ سبيل العفة والعفافاقتباس
ما طعِمَ الطّاعِمون كالحلالِ الكفافِ، وما رِداءٌ خيرٌ من رِداء الحياءِ والعفاف. العَفافُ والعِفَّة -أيّها المسلمون- سِيمَا الأنبياءِ وحِليةُ العلماء وتاجُ العُبَّاد والصّلَحاء. العفافُ سلطان من غيرِ تاجٍ، وغِنًى من غير مالٍ وقوّة من غيرِ بَطش وخُلُق كريم وصِفة نبيلة. هو عنوان الأسَرِ الكريمة والنفوسِ الزّكية الشريفةِ ودَليل التربية الصالحة القويّة. هو موجِبٌ لظلِّ عرش الرحمنِ ذِي الجلال كما...
الخطبة الأولى:
أمّا بعد:
فاتّقوا الله تعالى -أيها المسلمون-، واعلموا أنّكم إليه راجعون، وبأعمالكم مجزِيّون، وعليها محاسَبون، وأنّ المصيرَ حقٌّ إلى جنّةٍ أو نار، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71]، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ) [الأحزاب:15، 16].
عباد الله: ما طعِمَ الطّاعِمون كالحلالِ الكفافِ، وما رِداءٌ خيرٌ من رِداء الحياءِ والعفاف. العَفافُ والعِفَّة -أيّها المسلمون- سِيمَا الأنبياءِ وحِليةُ العلماء وتاجُ العُبَّاد والصّلَحاء. العفافُ سلطان من غيرِ تاجٍ، وغِنًى من غير مالٍ وقوّة من غيرِ بَطش وخُلُق كريم وصِفة نبيلة. هو عنوان الأسَرِ الكريمة والنفوسِ الزّكية الشريفةِ ودَليل التربية الصالحة القويّة. هو موجِبٌ لظلِّ عرش الرحمنِ ذِي الجلال كما في حديثِ الذي دَعَته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: "إني أخاف الله".
والعِفّة والعَفاف سببُ إجابة الدعاءِ وتجاوز الأخطارِ كما ورَد في حديثِ الثلاثة الذين انطبَقت عليهم صخرةُ الغار. الحِرصُ عليه جِبِلّة في البشر وطبعٌ عند أصحابِ العقول وسليمِ الفِطَر.
العِفّة -أيّها المؤمنون- كفُّ النفس عمّا لا يحِلّ ولا يجمُل وضبطُها عن الشهواتِ المحرَّمة وقصرُها على الحلال مع القناعةِ والرِّضا. إنّه خلُق زَكِيّ، يَنبُت في روضِ الإيمان، ويُسقى بماءِ الحياء والتقوى. إنّه سُمُوّ النفس على الشّهواتِ الدنيئة وترفُّع الهِمّة عما لا يليق، بل يفيض هذا الخلُق بكلِّ الخصال النبيلةِ، فصاحبُه ليس بالهلوعِ ولا الجَزوع ولا المنوع، كما في سورة المعارج: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) [المعارج:29]، ثم قال: (أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) [المعارج:35]. إنها جنّةٌ وكرامة؛ لأنّ العفيفَ كريمٌ على الله حيث أكرَمَ نفسَه في الدنيا عن الدّنَايَا، فأكرمه الله في الآخرةِ بأعلى الدرجاتِ وأحسَنِ العطايا، واستحقَّ ميراثَ الجِنان؛ لأنَّ الميراثَ للطاهرين كما في سورة المؤمنون: (أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:10، 11] بعد أن حقَّقَ لهم الفلاحَ في أوّلِ السورة. وفي صحيح مسلم لما ذكَر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أهلَ الجنة قال: "منهم عفيفٌ متعفِّف".
وحين تُعرَض القصَصُ فإنّ أحسَنَها قصّةُ يوسفَ الكريم ابن يعقوبَ ابن خليلِ الله إبراهيم حين يكون العفافُ سيّدَ الموقِف في ظرفٍ تتهاوَى فيه عزائمُ الرّجال الأشدّاء، فضلاً عن فتًى غريبٍ نائي الأهلِ والديار، حين راودته التي هو في بيتها عن نفسه، (وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف:23]. مَعَاذَ اللَّهِ، إنها كلِمةٌ عظيمة في موقفٍ عصيب لا يقوَى عليه إلا صاحبُ الإيمان، فيصبِر -عليه السلام- رغمَ الوَعدِ والوعيد والسّجنِ والتهديدِ، ويتجاوَزُ المحنةَ، فآتاه الله الملكَ وعلَّمه من تأويل الأحاديث، وأعظم من ذلك أنّه من عبادِ الله المخلَصين.
وفيه من العِبَر أنّ العِفَّةَ عاقبتُها الغناءُ والاستغناء ونورُ القلب والبصيرةُ والضياء والعِلمُ والفراسة والتّوفيق؛ ذلك أنَّ العِفّةَ في حقيقتها مراقبةُ الله تعالى وخوفُه، ومَن راقب الله في خواطِرِه عصَمَه في حركاتِ جوارحه وأسبغ عليه رضاه، (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة:8]، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46]، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40، 41].
أيّها المسلمون: ولاهتِمامِ الإسلام بهذا الجانِبِ العظيم ولامتداحِ الله المؤمناتِ بقوله: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) [النساء:34] فقد حمى الله تعالى أعراضَ المؤمنات، وصانَ سُمعَتَهن أشدَّ صيانةٍ لكرامتِهن عند الله وحرمةِ جنابِهنّ فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ * الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [النور:23-26].
بل إنّ مَن قدح في عِرض العفيفة فقد استوجَبَ الحدَّ وسقوطَ العدالة واستحقَّ صِفةَ الفِسق، (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [النور:4].
ثمّ تأمّلوا -رعاكم الله- كيف وصَف العفيفاتِ بالغافلات، وهو وصفٌ في محلِّه لطيفٌ محمود يصوِّر المجتَمَع البريء والبيتَ الطاهر الذي تشِبّ فيه فتياتُه في الأكمامِ بعيداتٍ عن الدنايا والآثام، يصوِّرُهنّ غافلاتٍ عن لوثَاتِ الطِّباع السّافلة غائباتٍ عن المعاني الرّديئة، ثمّ تأمَّل كيف تتعاوَن الأقلام السّاقِطة والأفلام الهابِطة لتمزِّقَ حجابَ الغفلةِ هذا، ويتسابقون ويتنافَسون في هَتكِ الأستار وفتحِ عيونِ الصّغار على ما يستحِي منه الكبار، وصدق الله العظيم: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء:27].
أيّها المسلمون: إنَّ الحديث عن صيانةِ الأعراض وتزكيةِ النفوس وتطهيرِ الطِّباع وتنمية دواعِي العِفّة والطهارة ليست شعاراتٍ عاطفيّة أو مجرَّدَ كمالاتٍ خُلُقيّة، إنها أصلُ تماسُك المجتمع وبِنية أساسٍ لبقائه ومقصد عظيمٌ من مقاصِدِ الشرع الحنيف، وانظر كيف جعَل الله تعالى العفافَ والأمن في آيةٍ واحدة مع توحيدِ الله سبحانه، وجعل إزهاقَ الأرواح وانتهاكَ الأعراض قرينَ الشرك، فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان:68، 69].
فليس الأمرُ قابلاً للتهاون أو للمسَاومة، والمجتمَع يجِب أن يؤسَّس على الضمائر اليقِظَة والفضائلِ الشريفةِ والصيانةِ والحِراسة المشدَّدة مِن الرأيِ العامّ والقوّة الحاكمة جميعًا. كما أنَّ العجز عن ضَبطِ العَواصف والصّلاتِ الجنسيّة في الحدود التي شرَعَها الله والتذرُّع بهذا العجزِ إلى ترك الشّهوةِ البهيميّة تنساح كيف تشاءُ هو سقوطٌ بالفِطرة والخُلُق وتمرُّد على اللهِ وشرعِه.
إنَّ العالَم المنفَتِح على الجنسِ المتحلِّلَ منَ الفضيلةِ يئِنّ اليومَ تحت وطأةِ الأمراضِ الوبائية ويجأرُ من التشتُّت الاجتماعيّ والتفكُّك الأسريّ والتحلّل الأخلاقيّ، كما تشكو نساؤه وأطفالُه آلافَ الحالات من الاغتصابِ وتجارةِ الرذيلة، والتي نافَسَت تِجارةَ الأسلحة والمخدِّرات، ويسمّونها تجارةَ الرقيقِ الأبيض، فأين الحرّيّة والأمان؟! وأين الطّمأنينةُ والاستقرار في هذه الفوضَى العارِمة في اختلالِ الأخلاق والقيَم؟!
إنَّ الحريّةَ الحقيقيّة التي بناهَا الإسلام هي عندَما يحِسّ أفرادُ المجتمع بالأمنِ في حياتهم وأعراضِهم، فيتحرَّكون بحرّيّةٍ وأمن، وتنتشِر الثِّقة والطمأنينة وحُسنُ الظنّ، ويتفرَّغ الناس لمعاشِهِم وما يصلِح دينَهم ودنياهم، وذلك حين يتربَّى المجتمعُ رجالاً ونساءً وينشؤونَ أجيالاً على مظاهِرِ العِفّة والحِشمة والورَع ولزومِ أمر الله تعالى، فلا شكَّ ورِيبةَ ولا خيانةَ ولا خَوف، إنه الأمنُ والطمأنينةُ والحريّة، ولذلك في صدرِ الإسلامِ الأوَّل لم يمنَع ذلك صلاةَ المرأة في المسجِد ومشاركتَها الجيشَ في المعركة وطلَبَها للعِلم ومداواةَ الجَرحى وطلَبَ الرِّزق، ولم يكُن في أحكامِ الشَّرع ما يمنعُها مصلحةً لها أو لغَيرها، بل كلُّه حِفظٌ وصيانة كما قال تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب:59].
وإذا تحرَّكتِ المرأة الطاهرةُ والرجلُ الطاهر في البِيئة الطاهرة وفقَ ما رسمَه الله من أحكامٍ بعيدًا عن الشّبُهات والملوِّثات فلا سبيلَ لجرثومةٍ أن تنفذَ.
أيّها المسلمون: ولأجل هذه المقاصدِ السامية جاءت شريعةُ الإسلام بما يكفَل هذه الحرّيّة وهذا الأمنَ الخلقيّ، بل بايع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- نُقَباء الأنصارِ ليلةَ العقبة الأولى على التوحيدِ وتركِ الزنا كما في صحيحِ البخاريّ من حديثِ عبادةَ بن الصامت -رضي الله عنه-، وفي آخرِ الممتحنة أمر الله تعالى رسولَه -صلى الله عليه وسلم- أن يبايِعَ المؤمناتِ على التوحيدِ والعفاف، وفي الكتابِ العزيز والسنّةِ المطهَّرة آدابٌ شتَّى للنظرِ والاستئذان والتستُّر والتكشُّف والزِّينةِ وسفَر المرأة وخَلوَتها وعودةِ الرجل إلى بيتِه وموقف المرأةِ من أقاربها وأقاربِ زوجها وحقِّ الوالدين وحقوقِ الأولاد وآدابِ الاستماع والظنّ والنهي عن الاطِّلاع على عوراتِ البيوت وتتبُّع العَثَرات، وهي آدابٌ مفصَّلة يجب على المسلمينَ أن يلتَزِموهَا ويربُّوا أهلَهم عليها؛ ذلك أنَّ من أعظم مقاصِدِ الشريعة إقامةَ المجتمَع الطاهِر المحاطِ بالخُلُق الرفيع والمُبَطَّن بالعِفّة والحشمة والوقار.
وحيثَّ إن أعظمَ أبوابِ الشّرّ وأوّلَ مدخلٍ للشيطان هو إطلاقُ البَصَر والاختلاط لذا صارت أحكامُ الحجابِ والقَرار في البيوت والأمر بغَضِّ البصر للرجال والنساء، قال الحقّ سبحانه: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:30، 31]، بل حتى في الحديثِ العابِر بين الرّجل والمرأة الأجنبيّة عنه: (إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا) [الأحزاب:32]. إنّه سدٌّ لمنافِذِ الشيطان كما في قولِ الله سبحانه: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب:53].
أيّها المسلمون: وحيث جاءَ الإسلام بكلِّ ما يحفَظ ويصون هذا السياجَ فقد حرَّم كلَّ ما يهتِكه ويفسِده، وقد علِم كلُّ مسلمٍ حرمةَ ما يعارِضه ويناقضه مِن دعواتِ السّفورِ والاختلاطِ في الأعمال والجامِعات والمجالِسِ والمؤتمَرات لئلاَّ يُكسَر حاجِز الحياء وتُنبَذ الحِشمة.
ولقد علِم الراشِدون أنَّ التقدّمَ والتخلّفَ له أسبابُه وعوامِله، وإنَّ إقحامَ السترِ والاحتشام والخلُق والالتزام والعِفّة والفضيلة وجعلَها عواملَ للتخلُّف لهو خِداع مكشوف وتمريرٌ مفضوح لا ينطلي على متبصِّر.
إنَّ الحياةَ الطاهِرة تحتاج إلى عزائِمِ الأخيارِ، وأمّا عيشةُ الرذيلة فطريقُها سهلُ الانحدار، والبيوتُ التي تظِلّها العفّةُ والحِشمة تورِق بالعزِّ والكرامة، أمّا البيوتُ التي يملؤهَا الفحشاء والمنكرُ فلن تنبُتَ إلاّ بالذّلِّ والمهانة، وإذا أمَر الله تعالى بوقايةِ النفس والأهل من النارِ التي وقودُها الناس والحجارة، وأخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ كلَّ راعٍ مسؤول عن رعيّته، فإنَّ المسلِمَ يجب أن تكونَ له وقفةٌ للهِ لتجنيبِ نفسِه ومن يَليه ما جلبته وسائلُ الاتِّصال والبَثِّ مِن ذبحٍ للفضيلة ونشرٍ للرذيلة وإماتةٍ للغيرة، وكيف يستسيغُ مسلمٌ هذا الغثاءَ المدمِّر؟! أين الحياء؟! أين المروءةُ؟! أين الحِفظُ والصِّيانة مِن بيوتٍ هيَّأت لناشِئَتها أجواءَ الفتنة وجلَبت لها محرِّضاتِ المنكَر؛ تجرُّها إلى مستنقَعات الفُحش جرًّا وتَدُعُّها إلى الخطيئةِ دَعًّا؟! ومع أنَّ شهوةَ الجِنس كشهوةِ الطّعام قد تمتلِئ المعِدة فتفتُر وقتًا عن طلَبها إلاّ أنَّ الذين يحِبّون أن تشيعَ الفاحشة في الذين آمنوا لم يَفتروا، بل ملَؤوا الفضاءَ بكلِّ أنواع المثيراتِ والمغرِيات، وتفنَّنوا في إثارةِ الشّهَوات وإيقادِ لهيبِ الغرائزِ في سُعارٍ أذهل الشيطان.
وأمام هذه الأمواجِ المتلاطمةِ منَ الفتن الضاربةِ مهدِّدةً سفينةَ المجتمعاتِ المسلمة؛ تعظُم الأمانةُ والمسؤوليّة على المسلمين للحِفاظ على زكاءِ مجتَمَعهم وطهارةِ حياتهم وبما لا زالُوا متميِّزين به على أهلِ الأرض بحمد الله.
ولا أحدَ ينكِر ما صارَ للإعلامِ من مكانةٍ خطيرة في توجيهِ الأمَمِ والشّعوب والسياسات وصياغةِ مفاهيمِها وتصوُّراتها وسلوكيّاتها. وإذا طغتِ الشهواتُ واختلطَتِ النيات فسدَتِ الأوضاع واضطَرَبت الأحوال وحقَّ العذاب، وتَضيع الأمّة إن تُرِك الحبلُ على الغارِب، يعيش الناسُ بشَهَواتهم ويعبَثون بأخلاقِهم متجاوِزين حدودَ الله بلا وازعٍ ولا ضابطٍ وبلا رادِع ولا زاجر، وإنها سُنّةٌ من سنَنِ الله، إذا فشَا الظلم والفسادُ ولم ينهَض مَن يدافِعُه فإنَّ سنّةَ الله تعالى تحِقّ ولا تحابِي أحدًا، (فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ) [هود:116].
وفي هذا البابِ ينبغي أن يُشكَرَ ويذكَرَ بالتّقدير والدّعاء كلُّ جهدٍ مبذولٍ من أهلِ الحِسبة ورجال الأمن ومن وراءَهم، وكذا القائِمون على تنقيَةِ المطبوعات والموادّ الإعلاميّة وشبكة المعلوماتِ العالميّة في مدينةِ التِّقانَةِ وغيرها، إنهم حُرّاس الفضيلة وحُماة الدّينِ والمرابطون في وجهِ العاصفة.
ومع هذا فإنَّ التحصين من الداخلِ والتربيةَ الذاتية وزرعَ المراقبةِ لله في السّرِّ والعلَن مسؤولية الجميع: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنة سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد:
أيّها المسلمون: إنَّ الغريزةَ الجنسيّةَ مطبوعةٌ في دمِ الإنسان، والله تعالى هو الذي خلَقَها بأمرِه وعِلمِه وحِكمتِه وابتلائِه لخَلقِه، وجعلها وسيلةَ البقاء البشريّ، وهو سبحانه أعلَمُ بما يُصلِحها، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14].
إنَّ الإسلامَ لم يتجاهَل هذه الغريزةَ، ولم يقتُلها بالرّهبانيّة، ولا أطغاهَا بالإباحيّة، بل جَعَل لها شاطئًا آمنًا تسبَح إلى بحره وتطهُر في مائِه وتحيَا ببقائِه، إنّه الزواج، أنبلُ صِفةٍ عرَفَتها الإنسانيّة لتكوينِ الأسرةِ وتربيةِ الأولاد ونشرِ الألفةِ والرّحمة وسكينةِ النفس في جوٍّ زّكيٍّ طهور، مع ضبطِ المشاعر وترشيدِها نحوَ مكانها الصّحيحِ المنتج بدلاً من ضَياعِها وتيهِها في العَبَث والفساد. والمسلمُ مأمورٌ ببلوغ هذا المدَى حتى يتحصَّنَ بالحلال: (وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور:33]، وفي الحديثِ المتَّفق عليه أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا معشرَ الشباب: مَن استطاع منكم الباءةَ فليتزوج؛ فإنّه أغضّ للبصر وأحصَن للفرج، ومَن لم يستطِع فعليه بالصّوم؛ فإنّه له وجاء"؛ وذلك أنَّ الصومَ مع تضييقِه لمجاري الشيطان فإنّه ينمِّي روحَ المراقبة والخشيةِ والتقوى، وهي أصولُ وبواعث العِفّة، ومِن دعاءِ عباد الرحمن: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74].
وحتى بعدَ الزواج فينبغِي تنميةُ جانبِ العفّة والصيانة، ومِنه ما يُشرَع للمرأة مِنَ التحبُّب لزوجِها والتودُّد وحُسن التبعُّل وقصرِ عينه لئلاَّ يتطلَّع لغيرها. وكذلك الزوجُ، يكفِي زوجتَه، ويشبِع عاطفتَها بالكَلِمة الطيّبة والعِشرة الحسنة وجبرِ الخواطر وسدِّ مداخل الشيطان وأداءِ أمانة القِوامة في الأهل والأولادِ والقيام بأمرِ الله في كل شؤون الحياة. والمؤمنُ أسيرٌ في الدنيا يسعَى في فكاكِ رقبته، لا يأمن نفسَه حتى يلقَى الله -عزّ وجلّ-، يعلَم أنّه مأخوذٌ عليه في سمعِه وبصرِه ولسانِه وجوارحِه، ومن يستعفِف يعفّه الله، وفي الحديث: "احفَظِ اللهَ يحفَظك"، أي: في نفسِك ودينِك وأهلِك وذرّيّتك، ومَن كرُم عند الله فلن يخزيَه ولن يسوؤَه. أسأل الله تعالى لي ولكم الهدى والتّقَى والعفافَ والغنى.
ثمّ اعلَموا -رحمكم الله- أنَّ الله تعالى أمَركم بأمرٍ بَدَأ فيه بنفسه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وأزواجِه وذرّيته وصحابتِه ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاةَ والملاحِدة والمفسدين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم