عناصر الخطبة
1/أثر الصلاة على حياة المسلم 2/أهمية الخشوع في الصلاة 3/قصص مؤثرة في خشوع السلف في الصلاة 4/بعض شُبه تاركي الصلاة والرد عليها 5/بعض شُبه من يؤخرون الصلاة عن وقتها والرد عليها 6/بعض شُبه المتخلّفين عن صلاة الجماعة والرد عليها 7/نصائح مهمة حول الصلاةاقتباس
أيها المسلمون: إن الصلاة التي أرادها الله، وأخبر أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، تختلف كثيراً وكثيراً عن صلاتنا هذه، الصلاة التي أرادها الله هي الصلاةُ الخاشعةُ الخاضعةُ، التامةُ الكاملة التي يقدرها المصلي حق قدرها، ويحسبُ لها ألف حساب، ويحملُ لها في قلبهِ أعظمَ مكانة، ويبدأ استعداده لها واهتمامه بها من حين دخولِ وقتها وشروعهِ في التطهرِ لها، إنها...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: فكنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية عن فريضة الله العظمى، وشعيرة الله الكبرى، فتحدثنا عن الصلاة، وأحوال الناس معها، وفصلنا القول، وضربنا الأمثلة، ذكرى: (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
ونستأذنكم اليوم -أيها الأحبة- لاستكمال الحديث، وإتمام الفائدة، وإقامة الحجة، والإعذار أمام الله -جل جلاله-.
فأما الصنف الرابع من الناس-وتذكيراً فقد فصلنا القول في الجمعة الماضية في ثلاثة أصناف من الناس الأول: التاركين للصلاة، الصنف الثاني: من يؤخرونها عن أوقاتها، الصنف الثالث: من يصلونها في بيوتهم، ولا يشهدون المساجد- وأما الصنف الرابع من الناس: فهم أُناسٌ فضلاء، وقومٌ عقلاء، أدركوا أهمية الصلاة، وآمنوا بوجوبها ولزومِها، فحافظوا عليها في أوقاتها، مع جماعة المسلمين، بكلِ قناعةٍ وإقبال، ولكنهم -وللأسفِ الشديد- يفتقدون الخشوع في صلاتهم، فيؤدونها بطريقةٍ آلية، دون استشعارٍ لروحها، أو تذوقٍ لجمالها، أو إدراكٍ لمراميها، أو استحضارٍ لهيبة الموقف بين يدي الله -جل جلاله-.
فلا غرو إذن والحالة هذه أن تجد التناقضَ صارخاً في تصرفاتهم، والأثر الإيجابي محدوداً في حياتهم، فلربما جاهرَ بعضهم بذنوبه، واستعلن بأخطائه، وعاقر شيئاً من الكبائر، وهنا تبرزُ علامات استفهامٍ مُحيرة؟
ترى، ألم يقل الباري -جل جلاله-: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت: 45].
فما بال هؤلاء لم تنههم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر؟ ما بالهم، على سبيل المثال يعقون والديهم، ويقطعون أرحامهم، ويظلمون أزواجهم، ويسيئون الجوار؟ ما بالهم يغشون في بيعهم وشرائهم، ويكتمون عيوب السلعة، ويخفون زيفها ونقصها؟ ما بالهم يثلبون أعراض الناس، ويمارسون الغيبة والنميمة والكذب؟ ما بال هؤلاء جميعاً لم تنههم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر؟ أليس الله يقول: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت: 45].
أين مكمن الخطر يا تُرى؟
والجواب -أيها المسلمون-: أن الصلاة التي قصدها الله، وأخبر أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ليست هي الصلاة التي يصليها هؤلاء المذنبون المصرون على منكراتهم وفواحشهم ومعاصيهم.
الصلاة التي أرادها ربنا ليست هي التي يصليها كثيرٌ من الناس اليوم، والتي لا تعدو أن تكون مجرد حركات وتنقلات وتمتمات وترهات، لا روحَ فيها ولا حياة ولا طمأنينة ولا خشوع، ولا سكينة ولا خضوع، فالذهنُ في شرود والقلبُ في غفلة، والنفسُ في حيرة، والبصرُ في جولة، والجوارحُ في عبث يقفُ أحدُنا في صلاته لا يدري كيف وقف؟ ولماذا وقف وبين يدي من يقف يدخلُ أحدُنا صلاته، فيتذكر كل شيءٍ إلا الصلاة، ويعي كل شيءٍ إلا الصلاة، ويُفكرُ في كل شيءٍ إلا الصلاة؟
فقل لي بربك: ما قيمةُ صلاةٍ كهذه؟ وأي أثرٍ يُرجى من وراءها؟ وكيف يمكنُ أن تنهى صلاةً كهذه عن الفحشاء والمنكر والإثم والبغي والعدوان؟
أجيبوا -أيها المصلون-.
أيها المسلمون: إن الصلاة التي أرادها الله، وأخبر أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، تختلف كثيراً وكثيراً عن صلاتنا هذه، الصلاة التي أرادها الله هي الصلاةُ الخاشعةُ الخاضعةُ، التامةُ الكاملة التي يقدرها المصلي حق قدرها، ويحسبُ لها ألف حساب، ويحملُ لها في قلبهِ أعظمَ مكانة، ويبدأ استعداده لها واهتمامه بها من حين دخولِ وقتها وشروعهِ في التطهرِ لها، إنها الصلاة التي يستجمعُ فيها المصلي قلبه وقالبه، وإحساسهُ وشعوره، ويعرفُ بين يدي من يقف، ومن يناجي ويخاطب، ولمن يركع ويسجد.
إن الصلاة التي أرادها الله، هي صلاة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه الأماجِد، وأتباعهِ الأفاضل.
ففي الأثرِ عن عائشة -رضي الله عنها-: "كان صلى الله عليه وسلم يباسطنا ويمازحنا ويحدثنا، حتى إذا حانت الصلاة، فكأنهُ لم يعرفنا ولم نعرفه، وليس أحدٌ أعرفَ بالله من رسوله ونبيه".
وقال مطرف بن عبد الله عن أبيه: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وفي صدره أزيزٌ كأزيز المرجلِ من البكاء" [رواه أبو داوود والنسائي وجماعة، وقال ابن حجر إسناده قوي].
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا قام إلى صلاته كأنه وتدٌ من الخشوع، وكان إذا جهر فيها من القراءة خنقته عبرته من البكاء.
وأما عمر، وما أدراك من عمر، لم يكد يسمع مَن خلفهُ من الشهيق والبكاء، فعند البخاري عن عبد الله بن شدادٍ قال: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ) [يوسف: 86].
وكان علي -رضي الله عنه- إذا حانت الصلاة يضطربُ ويتغير، فإذا سئُل عن ذلك، ما بالك يا إمام؟ قال: لقد آن أوانَ أمانةٍ عرضها الله على السموات والأرضِ والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها أنا".
وكان علي بن الحسن العابد الزاهد إذا توضأ تغير لونه، فقيل له في ذلك، فقال: أتدرون بين يدي من أُريدُ أن أقف؟!
وكان عطاء بن أبي رباح: إذا أراد أن يقوم إلى صلاته فيقرأ مائةِ آيةٍ من سورة البقرة، لا يزولُ منهُ شيءٌ أو يتحرك.
هكذا كانت صلاةُ القوم فهل تشبهها صلاتنا اليوم؟ يأتي أحدنا المسجد وقلبهُ مشحونٌ بمشاكل الدنيا وهمومها، وزخرُفُها وبهرجها، وفتنتها وزينتها فيصطف خلف الإمام فلا يدري ماذا يقول هو، أو ماذا يقول الإمام، فلا يشعر إلا وقد أنقضت الصلاة، وانتهت المناجاة، فيخرجُ كما دخل، ويدخلُ كما خرج، فلا نفسٌ اطمأنت، ولا قلبٌ خشع.
أيها المسلمون: إن قضيةَ الخشوع في الصلاة، قضيةٌ بالغةُ الأثر عظيمةُ الشأن، فحين ذكر الله أوصاف المؤمنين، كان الخاشعون على رأس القائمةِ ومقدمة الصفوف، واقرأ إن شئتَ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 1 - 2].
أما الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم ففيه ما يحرك النفوس، ويؤجج الحماس، إلى طلبِ الخشوع بأي ثمن؛ فعن عقبةَ مرفوعاً: "ما من مسلمٍ يتوضأ فيُسبغ الوضوء، ثم يقوم في صلاته، فيعي ما يقول -أي يعي ويتدبر- إلا انفتل كيومِ ولدته أُمه -أي خرج من ذنوبه -كيوم ولدته أمه-".
وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضلِ العظيم.
ولقد شدد أسلافنا في الإنكار على أولئك النقارين الذين ينقرون صلاتهم، ويعبثون بجوارحهم، ويجرحون فريضتهم، فقد أنكر حذيفةَ -رضي الله عنه- على رجلٍ لا يخشع في صلاته، ولا يتم ركوعها وسجودها، فقال: "ياهذا لو مت على هذه الصلاة لمتَ على غير الفطرة" [رواه البخاري].
وكان يقول عمر -رضي الله عنه- إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام، وما أتم لله صلاة، قيل: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا يتم خشوعها وخضوعها.
وأما نبينا -عليه الصلاة السلام- فحسبُك قوله: "إنما يكتبُ للعبد من الصلاة ما عقل منها".
أيها المسلمون: لقد تحدثنا فيما مضى عن ثلاثة أصنافٍ من الناس:
أما الصنف الأول : فهم تاركوا الصلاة.
أما الصنف الثاني: فهم المؤخرون لها عن وقتها.
وأما الصنف الثالث: فهم الذين لا يشهدون الجماعة.
وذكرنا اليوم: الذين لا يخشعون في صلاتهم.
فتم لنا أربعة أصنافٍ من الناس، ولكل منهم شبهٌ يتشبثُ بها، وحُجج يتعصبُ لها، لينصر وجهته، ويؤيد طريقته، ونحن نعرض شُبهَ كل فريق ونبين الحق -إن شاء الله تعالى-.
فأما التاركون للصلاة، فقد زين لهم الشيطان أعمالهم، وصدهم عن السبيل، وقذف في قلوبهم الشبهة تلو الشبهة، حتى صور لهم الصلاة بأنها مظهرٌ من مظاهر التخلف والرجعية والبلاهة والسذاجة، ونسي هؤلاء المساكين -وللأسف الشديد- أن أكثر دول العالم حضارةً ومدنية، قد أخذت تنتشر فيها المساجد، وترتفعُ فيها المآذن كل يوم، حتى بلغت آلاف المساجد والجوامع في أوربا وأمريكا وغيرها، بل وحتى المطارات الدولية بدأت تفتتح فيها المساجد بشكل رسمي، وتحت رعاية الدولة، ولا توجد عاصمة من عواصم أوروبا شرقيها وغربيها إلا والمساجد قد ارتفعت مآذنها، وشُرِّعَت أبوابها، وأخذت تشهد إقبالاً يفوق الوصف من الأوربيين، وغيرهم، وحسبك أن تعلم -أخي الكريم- أن جامع مدينة "لندن" على سبيل المثال تقام فيه صلاة العيد عدة مرات مع كِبَرِ مساحته، وتعددِ طوابقه، لكثرة الزحام، وشدة الإقبال، فأي شيءٍ يعني هذا الكلام؟ وأي شيءٍ يعنيه إقبال تلك الدول المتحضرة على الصلاة؟ فلماذا السباحة عكس التيار؟ ألا قليلاً من الموضوعية؟ ألا قليلاً من الإنصاف؟ أصلح الله قلوبكم.
ومن حججهم الغريبة في ترك الصلاة: أن يحتج أحدهم بأنه ما يزال شاباً، والفرصة متاحة، والأيام قادمة، يجيبك بهذا المنطق الأعوج، بلسان حاله أو بلسان مقاله، فالصلاة في نظره شأن العجائز والشيوخ، فيا حسرةً على العباد، فقد نسي هؤلاء المغترون بشبابهم أن الموت لا يعرف الاستئذان، ولا يفرق بين صغير ولا كبير، ولا يترك بيت وبرٍ ولا مدرٍ إلا دخله بعز عزيز أو بذل ذليل، ولو سألنا كل واحدٍ منا عن الشباب الذين يعرفهم ممن اختطفهم الموت، وحل بساحتهم الأجل، لنبأنا من ذلك نبأًن ولقص علينا منه قصصاً.
فاتقوا الله -أيها الشباب- ولا يغُرنَّكم سوادُ شعوركم، ونضارة وجوهكم، فإن أجل الله آتٍ طال الزمانُ أم قصُر، والسعيد من وعظ بغيره.
أيها المسلمون: وقريبٌ من هؤلاء صنفٌ آخر يسوفون الصلاة، ويماطلون في التوبة، ويقول قائلهم: سأصلي ابتداءً من الجمعة القادمة؛ لأنه يومٌ فضيل، أو مع بداية رمضان؛ لأنه شهر الخير والبركة، أو مع مطلع السنة الجديدة، لأفتح صفحةً بيضاء، ونحو تلك المواعيد العجيبة.
ويا سبحان الله ألهذا الحد تلاعب بك الشيطان إيها الإنسان؟ ألهذا الحد بلغ بك طول الأمل؟ من أعطاك ضماناً أنك ستعيشُ إلى الجمعة القادمة أو إلى رمضان أو إلى العام الجديد؟ وهل هذه عبارة عقلاء أو منطق فطناء؟ ألم تسمع إلى قول مولاك وهو يحذرك أمثال تلك الأوهام، ويعلنها صريحة مدوية: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان: 34]؟
ومن شبه هؤلاء أن يقول قائلهم: إن لدي بعض المعاصي وفعلُ الصلاة لن ينفعني، أو كيف أصلي وأنا متلبسٌ ببعض الكبائر؟
والجوابُ: ياهذا إن الخطأ لا يُصلحُ بخطأٍ مثله، فليس هناك معصومٌ عن الخطأ إلا من عصمه الله من النبيين والمرسلين، وإلا فكل الناس لهم ذنوبٌ وخطايا، ولو كان لا يصلي إلا من سلم من الذنوب لما صلى أحدٌ سوى الأنبياء، فعل الصلاة والمداومة عليها هي الطريقة الأمثل للتقلل من الذنوب، وحصرها في أضيقِ نطاق، وهي السبيل الأقوم لتخفيف السيئات، وأثرها المشؤوم، بل والقضاء عليها تماماً مع التوبة والاستغفار، قال الله -جل جلاله-: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114].
وقال عليه الصلاة السلام: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها".
ثم لم كل هذا اليأس من رحمة الله، وهو يناديك وإياي، فيقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
فتب إلى الله يسامحك الله، وبادر إلى الصلاة يوفقك الله، واعلم أن كل هذه الحجج من كيد الشيطان ووسوسته، فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم.
أيها المسلمون: وأما الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، فأكثرُ ما يدفعهم إلى ذلك هو الكسل والهوى، والاستخفاف بشأنها، وعدمُ المبالاةِ بأمرها، وهم مع ذلك يتحججون بحجج داحضة، وأعذارٍ واهية، فقد يحتجون بالنوم أحياناً، وخصوصاً المتأخرون عن صلاة الفجر، ويرددون حديث: "رفع القلمُ عن ثلاثة" وذكر منهم: "والنائم حتى يستيقظ".
والنوم -أيها المسلمون- ليس بعذر إلا لرجلٍ بذل الأسباب، وهيأ السبل، كي يقوم للصلاة، فغلبته عيناه يوماً من الدهر.
أما أن يعتاد النوم عن الصلاة كل يوم، ويظن نفسه معذوراً، فهو يعيش وهماً كبيراً وكبيراً، ويخادع نفسه، أما الله -جل جلاله- أجلَّ وأعظم أن يخادع من أمثال هذا.
فاتقوا الله -أيها النائمون- ودعوا عنكم أحلامكم الفارغة، وأمانيكم الباطلة، فإن الله يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ فإن أخذهُ أليمٌ شديد.
ومن أعذارهم في تأخير الصلاة: اعتذارهم بالوعكة والمرض، فما إن يقع أحدهم مريضاً إلا ويمنح نفسهُ إعفاءً ذاتياً من الصلاة، وإجازةً مفتوحةً إلى حين الشفاء، وهذا خطأٌ كبير، وجرمٌ خطير، فحرامٌ حرامٌ أن يدع المريضُ صلاته مادام له عقلٌ يعقلُ به، وشعورٌ يشعرُ به، وواجبٌ عليه أداء الصلاة لوقتها، حسب استطاعته وقدرته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم لعمران: "صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب".
أيها المسلمون: ومن أعذارهم في تأخير الصلاة: الاعتذار في السفر، خصوصاً عندما يركبون الطائرة في رحلاتٍ طويلة، فيندر أن ترى من يقومُ إلى الصلاة، وما منعهم من ذلك إلا الحياء، أو ألاّ مبالاة، وغاب عن هؤلاء المصلين حتمية أداء الصلاة لوقتها، سواءً ركبوا البحر، أم صعدوا الفضاء، ولئن شُرع الجمع بين الصلاتين في وقتِ إحداهما، فذلك من فضل الله، ولكن الكارثة والمصيبة في تفويت كلا الوقتين، وتلك -والله- قاصمة الظهر.
وأما المفرطون في الجماعة، فلهم حُججهم أيضاً، ولكنها لا تُسمنُ ولا تغني من جوع، فمن ذلك: احتجاجهم بالإنهاك والتعب، خصوصاً حين يأتون من أعمالهم ظهراً أو قبيل العصرِ بقليل، فيدخلون بيوتهم دون مبالاةٍ بصلاة الجماعة التي قد أُقيمت، أو كادت أن تُقام، وعجيبٌ حال هؤلاء، لا مانع لديهم من مكابدة العمل طيلة ساعات النهار، ثم تأتي الصلاة بدقائقها الخمس تخورُ قواهم، وتنهارُ عزائمهم، فأين العدل يامسلمون؟ سبحانك ربي ما أحلمك!.
ومن أعذارهم في ترك الجماعة: الاحتجاج بحديث: "صلاة الرجلِ في جماعة تزيدُ على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين درجة".
فيقولون: المسألة مسألة أفضلية، وليست مسألة وجوب، ونسي هؤلاء الواهمون أن ذكر الأفضلية لا يعني سقوط الجماعة، فضلاً عن كونِ الحديث محمولاً على من تخلف عن الجماعة لعذرٍ، كأن ينام عن الصلاة بلا تفريطٍ أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا لكفارة لها إلا ذلك".
أو كان في طريقه إلى الجماعة، فوجدهم خارجين فعاد فصلاها في بيتهِ أو سوقه، ثم أين هؤلاء من عشرات الأدلة التي توجب الجماعة، وتؤكد حتميتها، فيضربون بها عرض الحائط، ويتشبثون بحديثٍ كهذا له ألف تأويلٍ وتأويل؟
ومن أعذارهم في ترك الجماعة: اعتذارهم بمشاغل البيت، ومطالبِ الوالدين، وحاجات الأهلِ والأسرة، وربما ردد بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".
والجواب: أن القيام بحاجات البيت، وحقوق الوالدين من أعظم المعروفِ، وأفضلِ البر، لكن ليس على حساب صلاة الجماعة، فعند البخاري من حديث الأسود قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله -يعني في خدمتهم- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة".
فحاجات البيت -أيها المسلمون- لها وقتها، وفريضة الله لها وقتها أيضاً.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما في كتابه، وسنة نبيه، من الآيات والذكرِ الحكيم.
أقولُ ما تسمعون، فاستغفرِ الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يعطي ويمنع، ويخفِضُ ويرفع، ويضرُ وينفع، ألا إلى الله تصيرُ الأمور.
أما بعد:
أيها المسلمون: فهذه نصائح عاجلة، ومواعظ سريعة، علها تجدُ آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، لمن يهمه الأمر.
النصيحة الأولى: للآباء الأفاضل: اهتموا -بارك الله فيكم- بأولادكم، ومروهم بالصلاة، ولا تيأسوا من روح الله، ثم يجب أن نتجاوز -يرحمكم الله- مرحلة: صلوا ياأولاد، ونحنُ سائرون إلى المسجد، إلى مرحلة الدعوة والإقناع وجهاً لوجه، وإلى مرحلة الحوار الهادئ، والنقاش الموضوعي الجاد، فإن نفع ذلك وإلا فهجرٌ جميل.
النصيحة الثانية: إلى لاعبي الكرة في الحارات: اعلموا -وفقكم الله- أن ممارسة الرياضة أمراً لا بأس به مادام خالياً من المحاذير الشرعية، لكن استمرار اللعب إلى آذان المغرب تماماً قد يحرمكم من إدراكِ الجماعة في المسجد، نظراً لحاجتكم أحياناً لتغيير ملابسكم، وتجديد وضوئكم، فيا حبذا لو توقفتم قبيل الأذان بوقتٍ كافٍ لتدركوا الجماعة مطمئنين.
النصيحة الثالثة: لمن يهمه الأمر: اعلم -بارك الله فيك- أن تارك الصلاة كافرٌ مرتد يجب استتابته وإلا قتل، فلا يتزوجَ بمسلمة، وإذا مات لا يغسَّل ولا يكفَّن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، ولا يدعى له بالرحمة، ولا تحلُ ذبيحته، ولا يرثُ ولا يورث، ولا ولايةً لهُ على أحدٍ من بناته، ولا حضانةً له على أحدٍ من أولاده.
النصيحة الرابعة: لمن يهمه الأمر أيضاً: اعلم -بارك الله فيك- أن للصلاة شروطاً لا يجوزُ الإخلالُ بها، وبناءً عليه، فإن لُبسَ الثوب الشفاف المظهر للفخذين مبطلٌ للصلاة، والصلاة لغير القبلة مع عدم التحري مبطلٌ لها أيضاً، والصلاة قبل الوقت مبطلٌ لها كذلك، وعدم إتمام الطهارة مبطلٌ للصلاةِ أيضاً.
النصيحة الخامسة: إلى المرأة المسلمة، والتي يجبُ عليها أداء الصلاة في وقتها، حتى ولو كانت في السوق، وتأخيرها للصلاة عن وقتها المشروع بدعوى أدائها في البيت أمرٌ بالغ الخطورة، فتنتبه ولينتبه قبلها ولي أمرها، لكي ينبهها على ذلك كلما نـزلت للسوق.
النصيحة السادسة: إلى الذين يشتكون من عدم الخشوع: اعلموا أن خير وسيلةٍ لتحقيق الخشوع، هو في تصويب البصر إلى موضع السجود، واستحضار الموقف بين يدي المولى -جل جلاله-، وسؤاله العون والسداد، والاستعاذةِ من شر الشيطان ووسوسته
.
النصيحة السابعة: لمن يهمه الأمر: لا نريد منك -أيها المسدد- أن تكون انفعالاتك وقتية، واستجابتك سطحية، سريعة الحضور، سريعة الانصراف، ولكن نريد قناعاتٌ راسخة، وعزائم أكيدة، وتوبةً نصوحاً، وإصراراً على الاستقامة والثبات، نريد أن تتبوأ الصلاة مكانةً في قلبك، ومنـزلةً في أعماقِ ضميرك، فلا تغيبُ عن بالك، ولا تتخلفُ عن إحساسك وشعورك.
وأخيراً -أيها المسلمون- يجبُ علينا أن نتعاون في إحياء هذه الشعيرة العظيمة، وأمر الناس بها، وحثهم عليها، وأن ننتقل بهم سريعاً من مرحلة: "أرحنا منها" إلى مرحلة: "أرحنا بها يابلال" وأن تكون الصلاة هي قرة العين، وسكون النفس، وطمأنينة القلب، يومها سيعودُ للأمة مجدُها وعزُها، وسيقفُ ملك الروم يسائلُ جيشهُ مرةً أخرى: ويلكم، ويلكم مالكم تنهزمون؟
اللهم إنا نسألك رحمةً تهدي بها قلوبنا، وتلم بها شعثنا، وتذهب بها الفتن عنا.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذُ بعظمتك أن نغتالَ من تحتنا.
اللهم احفظنا بالإيمان والهدى قائمين وقاعدين وراقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين يارحمن يارحيم.
اللهم ولعلينا خيارنا، وأكفنا شر شرارنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم