عناصر الخطبة
1/شهر رمضان شهر المواساة والصدقة 2/من ثمرات وفضائل الصدقة 3/التحذير من كفر النعم والإسراف 4/الحث على دفع الزكاة والصدقة للجهات الموثوقةاقتباس
والموفق يتلمّس أبواب الحاجات، مسكينٌ أو فقيرٌ، مديونٌ غارم، ويتأكد ذلك إذا اجتمع مع حاجتِه قرابتُه؛ فالصدقة عليه حينها صدقة وصلة، وللباذل حينها أجران، وأبوابُ الإنفاق متعددة ما تعددت طرق الخير، وكلما عظمت الحاجة عظم الأجر...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله مسبغ الإنعام والإحسان، مجزل العطاء لأهل الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم الرحمن والإله المنان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان أجودَ ما يكون في رمضان، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أولي البذل والإحسان، وعلى من تبعهم بإحسان ما تعاقب الجديدان.
أما بعد: ففي شهرٍ أيامه غنائم ولياليه عظائم ما أحرى المرء إلى أن يستغل أيام شهره ولحظاتَ عمره، ويتقي الله ربه، فاتقوا الله -أيها المؤمنون-.
تتعدد في رمضان أبوابُ الطاعات، وتتنوع القربات، بيد أن ثمة قربةً كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يزيد إقباله عليها في رمضان، إنها عبادةٌ ينتفع بها صاحبها وغيره، فنفعها متعدٍ وأثرها عظيم، ويعظُم أثرها حين تكثر الحاجة لها، إنها طاعةٌ لا يوفق لها إلا من قوي إيمانُه، وأيقن بموعود ربه، وآثر رضاه، فتعاهدها برهانٌ على صدق الإيمان؛ إنها عبادة الإنفاق والسخاء، والجودِ والعطاء، وما أحوجنا إلى ذلك سيما ونحن في شهر مضاعفة الحسنات.
أيها الصائمون: المال مال الله، أعطاه عبده ليرى كيف يعملَ فيه، وجعله فتنة بين يدي صاحبه، يُسأل عنه: من أين جمعه؟ وأين وضعه؟.
وإن من التوفيق لصاحب الأموال أن يعان على البذل والإنفاق، والتقديم من ماله لينير دربه في دنياه وفي قبره وفي أخراه، وقد قيل: "الفقراء نعمةٌ من الله على الأغنياء".
عباد الله: وكل ناظر في السيرة تبهره أخبار جود المصطفى -عليه السلام- وإنفاقه، حتى حدّث عنه أبو ذر قائلاً: كنت أمشي مع رسول الله في حرّة المدينة ونحن ننظر إلى أُحُدٍ، فقال لي: "أبا ذر، أترى أُحداً، ما أحب أن أُحداً ذاك عندي ذهبٌ، أُمسي ثالثةً وعندي منه دينارٌ إلا ديناراً أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا"(رواه مسلم).
ولعمري فلم يكن ذلك كلاماً، بل طبقه واقعاً ملموساً، صلى بأصحابه مرّةً، ولما فرغ من الصلاة قام مسرعاً ففزع القوم لقيامه، ثم عاد قريباً، فقالوا ما شأنك؟ قال: "ذكرت شيئاً من تبرٍ عندنا؛ فكرهت أن أحبسه، فتصدق به".
وفي السنن: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءه مالٌ فأعطاه بلالاً ليسدد ديناً له -صلى الله عليه وسلم-، فلما لقيه قال "يا بلال، أفضل من المال شيء؟"، قال نعم، قال: "انظر أن تريحني منه، فإني لست بداخلٍ على أحد من أهلي حتى تريحني منه"؛ أي: تتصدق به، فلما صلى العتمة دعاني فقال: "ما فعل الذي قِبلك؟"، فقلت: هو معي لم يأتنا أحدٌ، فبات في المسجد، حتى إذا صلى العتمة من الغد دعاني فقال: "ما فعل الذي قبلك؟"، قال: قد أراحك الله منه يا رسول الله، قال بلال: فكبر وحمد الله شفقاً أن يدركه الموت وعنده ذلك المال، ثم أتى بيوته"(رواه أبو داود).
وعلى هذا الدرب سار أصحابه، فضربوا أروع الأمثلة في الجود والبذل، كان منهم أبو طلحة، الذي تصدق ببستانه وأحبِّ أمواله إليه بسماعه آية في القرآن، هي قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران: 92]، كان منهم عائشة التي جاءها من معاوية مائة ألف درهم، فما قامت حتى أنفقتها كُلَّها للفقراء ونسيت نفسها.
كان منهم أبو الدحداح الذي أخرج حائطه وفيه ستمائة نخلة حين نزلت: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)[البقرة: 245]، ومضى ليخرج زوجته وأبناءه من الحائط ويقول: "يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط؛ فقد أقرضته ربي -عز وجلّ-"، فأخذت ما في أكمام أبناءها وأخرجت ما في أفواههم وقالت معينةً له: "ربح البيع ربح البيع".
ولا تسل عن إنفاق عثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، فتلك أخبار ربما لا يتصورها أهل هذا الزمان.
وهنا فيحق للمرء أن يتساءل: ما الذي يدعو صاحب المال وهو الذي قد تعب في جمعه، وتعنى في تحصيله، أن يخرجه من يده ليضعه في يد محتاجٍ لم يتعب عليه؟! يا ترى مالذي يدعو أصحاب الأموال والثراء إلى الصدقة والإنفاق والعطاء؟!.
هنا تبرز لك النصوصُ المتكاثرة التي تبيُّن فضيلةَ البذلِ والجود، وهي التي جعلت الصالحين يُرخِصون المال لنيلها؛ فبالإنفاق تُكفَّرُ السيئات، وفي الحديث: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار".
في البذل دواء السقم، وشفاء المرض، وفي الحديث: "داووا مرضاكم بالصدقة"(حسنه الألباني)، ولا عجب ففي الإحسان إلى الناس رضا رب الناس.
وفي عرصات القيامة يوم أن يبحث المرء عما يستظل به من لهب الشمس وحرّها تأتي الصدقات التي أنفقها لتظله، وفي الحديث: "المرء في ظل صدقته يوم القيامة".
وحين يبحث المرء عن بركة المال فإنها في الإنفاق، فكم تزكي المال وتزيدُ في الرزق، وفي الحديث القدسي: "يا ابن آدم، أنفق أنفق عليك"، (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39]، (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)[الروم: 39]، وسل كل جوادٍ منفقٍ ينبيك عن عاجل الخلف، ولا غرو، فهو يتعامل مع الكريم الذي يضاعف لمن أنفق في دنياه ويعظم أجره في أخراه.
ويكفي المنفقينَ للإنفاق حادياً وله داعياً أن الصدقة برهان، وأنها تقع في يد الرحمن فيربيها حتى تكون أمثال الجبال، وأنه يكافئ عليها أضعاف ما كانت؛ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)[البقرة: 245].
فكيف يلام المنفق حينها؟ كيف يلام المتصدق وهو يخرج المال الذي حصّله في وجوه البر؟ لا يريد من أحدٍ من الخلق جزاءً ولا شكوراً، بل يُريد من ربه فوزاً كبيراً، ويخافُ من ربه يوماً عبوساً قمطريراً، أسأل الله أن يقينا شرّ ذلك اليوم، وأن يلقينا نضرة وسروراً، وأن يجزينا بفضله جنة وحريراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده.
ومع كل ما سبق من ذكر الإنفاق، فإن لرمضان خصيصة في مضاعفة الإنفاق، طبقها -عليه السلام- حين قال عنه ابن عباس: "كان أجود ما يكون في رمضان"، ولذا قال الشافعي: "أحبُّ للرّجل الزّيادة بالجود في رمضان؛ اقتداءً برسول اللّه، ولحاجة النّاس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصّوم والصّلاة عن مكاسبهم".
وأولى ما تنظر فيه في الإنفاق ما افترض عليك، وهي ركن الدين الزكاة، فهي أعظم الإنفاقات، وأشرف الصدقات، وربنا قال: "ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه"، فسل نفسك: هل أديتها؟ وهل تحريت في وضعها في يد أهلها؟ فذاك سببٌ لرضا الله وبركة المال والوقاية من العذاب.
والنصوص الصحيحة تبيّن أن من منع الزكاة فلم يخرجها سيعذب بماله الذي شحّ به، ويُكوى بثروته التي منع حق الله فيها، فلا بارك الله بمالٍ يكون سبباً في عذاب صاحبه.
ثم يأتي الإنفاق المستحب، والموفق يتلمّس أبواب الحاجات، مسكينٌ أو فقيرٌ، مديونٌ غارم، ويتأكد ذلك إذا اجتمع مع حاجتِه قرابتُه؛ فالصدقة عليه حينها صدقة وصلة، وللباذل حينها أجران، وأبوابُ الإنفاق متعددة ما تعددت طرق الخير، وكلما عظمت الحاجة عظم الأجر.
دعم الجهات الخيرية الدعوية منها والتعليمية والإغاثية، فكم ردّ الله عن مجتمعنا من شرورٍ بصنائع معروفٍ يقوم بها جنود مجهولون في هذه الجهات الخيرية الرسمية، وهم منافذ آمنةٌ للزكاة والصدقة.
وقد شرفت بلادنا بفتح منافذ رسمية للتبرع، كمنصة "إحسان"، و"جود"، و"زكاتي"، و"فرجت"، وهي تخدم أبواباً من الحاجات ملحة، وتخدم الجمعيات والجهات الخيرية، وهي منصات معتمدة موثوقة للتبرع، تشرف عليها الدولة، فالبذل من خلالها مأمون، وميسور بحمد الله.
وحتى البذل للمساجد في بنائها وصيانتها ونظافتها وطباعة المصاحف ونحو ذلك، يمكن أن تكون من خلال هذه المنصات، وهي فرصة لمنسوبي المساجد أن يرفعوا احتياجهم إليها؛ ليجدوا الدعم، وفرصة للمتبرع أن يتبرع من خلالها.
أنت للمال إذا أمسكته *** وإذا أنفقته فالمال لك
رمضان بوابة جود، فيه يتضاعف جود الحبيب -عليه السلام-، فطوبى لمن اقتدى به، وأرضى ربه، وبذل ماله، وجعل المال مركباً يوصلها لأعالي الجنان، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟"، قالوا: كلنا ماله أحب إليه، قال: "مَالُكَ مَا قَدَّمْتَ، وَمَالُ وَارِثِكَ مَا أَخَّرْتَ".
اللهم قنا شح أنفسنا، وارزقنا أيدياً بالخير سحاء، وبالجود موسومة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم