اقتباس
كما قام ببناء المساجد والجوامع في سائر أرجاء سلطنته، ووجّه اهتماماً بالغاً بالتعليم ونشر اللغة العربية، كما كان مطبقاً لأحكام الشريعة في دولته لا يخرج عن حكمهما ويمقت المخالفات الشرعية ويعاقب مرتكبيها العقاب العسير...
دأبت الآلة الإعلامية الغربية منذ مطلع القرن العشرين عبر وسائطها الكثيرة؛ المسموعة والمرئية والمطبوعة، على تصوير القارة الأفريقية على أنها قارة بدائية غير مستغلة، معظمها غير مؤهل، نصفها غابات ونصفها الآخر صحاري وقفار، أهلها همج متوحشين لا يعرفون شيئاً عن الحضارة والمدنية والرقي، لا يختلفون كثيراً عن الحيوانات، يأكلون لحوم البشر، ولا يعرفون أدنى درجات النظام، وتبارت شركات الإنتاج السينمائي في هوليود على إنتاج وإخراج مئات الأفلام والوثائقيات التي ترسخ هذا المفهوم، وكل ذلك لتبيض تاريخ الغرب الأسود والدموي في القارة الأفريقية، وتبرير أكبر سرقة تمت عبر التاريخ بنهب خيرات تلك القارة واسترقاق أهلها وتشويه وتحريف حضارة قارة بأكملها.
والحقيقية التي لا مراء فيها أن كل هذا العداء الغربي السافر تجاه قارة أفريقيا لا يمكن أن يطمس تاريخ هذه القارة العظيم ولا حضارتها التليدة. لا يمكن أن يمحو من الذاكرة الإنسانية أمجاد ممالك ودول إسلامية كبرى قامت على أرض هذه القارة، ممالك ودول أقامت صروحاً من المجد والتقدم، وكان لها أيادي بيضاء في ساحات العلم والعمل والبناء والعمران، ولولا التخلف الذي ضرب العالم الإسلامي والذي أتبعه دخول جيوش الاحتلال الأوروبي إلى كثير من ديار الإسلام وعلى رأسها أفريقيا، لتغيرت وجه البشرية والحضارة الإنسانية بالكلية، ولتغيرت مواقع الدول على سلم القوة وترتيبها من مكان لآخر.
وهذه قصة واحد من أعظم السلاطين المسلمين في أفريقيا والذي حكم واحدة من أطول وأعرق الممالك الإسلامية في قلب القارة السوداء، حتى أن مملكته التي كان يحكمها أصبحت اليوم أربع دول كبرى وهي تشاد والنيجر ونيجريا والكاميرون.
إنه البطل الجسور ميمون الراية والنقيبة وأعظم وأكبر ملوك أفريقيا المسلمين، الشهيد السعيد بإذن الله -تعالى-؛ السلطان إدريس بن علي ألوما، سلطان مملكة كانم برنو العريقة ذات الأمجاد الكثيرة.
سلطنة كانم-برنو
يُعد السودان الغربي والأوسط من المناطق التي قامت فيها دول إسلامية، وازدهرت فيها اللغة العربية والثقافة والحضارة الإسلامية قبل الاحتلال الأوروبي لها، ومن هذه الدول سلطنة البرنو الإسلامية، والتي قامت في السودان الأوسط في منطقـة بحيرة تشاد الواقعـة إلى الشـرق من مناطق الهوسا، وتقع هذه البحيرة في قلب السلطنة، مما جعل موقعها مركزاً تجارياً واقتصادياً مهماً ونشطاً، وذلك لالتقاء طرق القوافل عندها، وقد انتشرت فيها عدة قبائل، ومن أهمها: قبـائل شـو العربيـة، وكانـمبو، والكانوري، وتبـو، وبـولالا.
وتاريخ السلطنة ينقسم إلى عصرين:
1–العصر الكانمي: يبدأ من القرن الثامن الميلادي إلى الرابع عشر الميلادي.
2–العصر البرنوي: يبدأ من أواخر القرن الرابع عشر إلى نهاية سقوط سلطنة البرنو على يدي الاحتلال الفرنسي والإنجليزي.
ويرجع تاريخ ظهور مملكة كانم إلى الأزمنة السحيقة، وقد كثرت الروايات والأساطير حول ظهورها وأصولها، ويُرجع بعضهم تاريخ ظهورها إلى ما قبل الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا، وذلك حسب الروايات المحلية، ثم نمت واتسعت خلال القرنين التاسع والعاشر للميلاد، وذلك بفضل دخول الإسلام ورسوخه بين سكانها.
أول من اعتنق الإسلام من ملوك كانم هو السلطان "أومي جلمي"، الملك الثاني عشر في عداد ملوكهم قبل الإسلام والأول بالنسبة لملوك الإسلام، كان حكمه فيما بين عامي 479هـ -490ه / 1085-1097م. وقام ابنه وخليفته "دونمه بن أومي" 491هـ - 545هـ / 1098م - 1150م بالجهاد لنشر الإسلام في السودان الأوسط، ووسعها إلى بلاد النيجر والهوسا وباجرمي وشاري.
ويذكر أن هذا السلطان قد حج مرتين وترك في المرة الأولى خمسمائة من عبيده في مصر وفي المرة الثانية أيضاً ترك عدداً مماثلاً وكان يأتي في أبهة عظيمة فخشي سلطان مصر يومئذ الخليفة الظافر أبو المنصور الفاطمي (544-549هـ/1149-1154م) من أن يقوم هذا السلطان القوي بغزو بلاده فدبروا له خطة في الحجة الثالثة، وخرقوا مركبه وهو في وسط البحر الأحمر فغرق السلطان -رحمه الله- أمام حاشيته وهو يرتدي جلبابه الأبيض.
ثم تولى السلطان سالم بن بكر عام 1194م - 1220م / 590هـ - 617هـ، وقد اشتهر عهده بنشر الإسلام وثقافته؛ عن طريق تشجيع العلماء وبناء المساجد والمدارس التي تعلّم القرآن الكريم، وقرأ بنفسه مائة وخمسين كتاباً تقريباً على يد العالم الجليل أبي عبد الله ديلي بن بدر الكانمبو، وهو أول سلطان من سلاطين وملوك السودان بعث بكسوة إلى الكعبة، وتوفي في عام 1220م / 617هـ.
ثم جاء عهد السلطان "دبلامي" وقد حكم الأول في النصف الأول من القرن السادس الهجري. وقد بلغت جيوشه مائة وعشرون ألفا فيهم مائة ألف فارس، كما أنه جلب عدداً من الأتراك اتخذهم حرساً خاصاً له وقاد جيوشه لنشر الإسلام فاتسعت دولته تجاه الشمال الشرقي حتى بلغت حدود مصر الجنوبية، وضم إقليم دارفور في الشرق، وهو الذي حطّم المعبد الوثني الذي عُرف باسم ميون، فوضع بذلك حدًّا للأوهام والخرافات التي كان السكان يعتقدونها، وهو أول من تلقب بأمير المؤمنين تأسياً بالسلطان الحفصي المنتصر في تونس (1249م - 1277م) والذي تلقـب بأمير المؤمنين، وكانت هناك علاقات ودية بين كانم برنو وبلاط تونس.
بعدها مرت تلك السلطنة بفترات من الضعف بسبب الاختلاف الداخلي وكثرة الحروب مع الجيران على الحدود، والتعصب القبلي الشديد والموروث منذ قبل الإسلام، مما أدى لتدهور مكانتها وفقدانها السيطرة على كثير من ممتلكاتها لصالح القبائل المنافسة في الشرق والوسط، ولصالح القبائل الوثنية في الجنوب والجنوب الغربي، حتى ظهر السلطان الكبير إدريس ألوما.
نشأة السلطان إدريس
وُلد السلطان إدريس بن علي ألوما سنة 1535 ميلادية لأب ينتمي لقبيلة ﺍﻟﻜﺎﻧﻮﺭﻱ، والأم من قبيلة البولالا، لذلك ورث منهما التقوى والورع والهيبة والذكاء الفطري، وحقق نوعاً من الانسجام القبلي داخل السلطنة لانتمائه لاثنين من أكبر القبائل المكونة للسلطنة.
تولى إدريس ألوما السلطنة سنة 1570 ميلادية وهو ابن خمس وعشرين سنة، كان غرماؤه الرئيسيون؛ قبائل الهاوسا إلى الغرب، والطوارق والتبو إلى الشمال، والبولالا إلى الشرق، كلهم ينافس على السلطة ويطمح في الحكم، فشمر عن ساعد العزم، وبدأ رحلة طويلة من البناء والعمران في الداخل، والجهاد والتوسع ونشر الإسلام والخارج.
رحلة البناء والمجد
نظراً لانتماء إدريس ألوما إلى قبيلة البولالا من ناحية الأم، فقد ضمن هدوء تمرد تلك القبيلة القوية ضد حكمه، فشرع في وضع استراتيجية طويلة المدى تعتمد على تقوية الجبهة الداخلية كمرحلة أولى، ثم الانطلاق في حركة جهادية كبرى يقضي بها على الوثنيين وخاصة من ارتد منهم عن الإسلام، والمتمردين من القبائل المنافسة والتي أضعف سلطنة البرنو كثيراً.
من أجل ذلك أقام السلطان إدريس ألوما علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية كبيرة مع الدولة العثمانية في عهد السلطان مراد الثالث (1574 -1595) وبايعه وأعلن تبعته له بوصفه خليفة المسلمين، وفي المقابل أرسل إليه السلطان مراد الثالث بسفارة كبيرة شملت مساعدين ومدربين عسكريين لتدريب جيوشه على استخدام الأسلحة النارية وتطبيق التكتيكات الحربية.
ولم يكتف السلطان إدريس بعلاقاته الدبلوماسية والعسكرية مع العثمانيين فقط، بل شرع في تكوين حلف قوي مع جيرانه في الشمال الأفريقي؛ مصر وطرابلس وتونس، واشترى منهم كميات كبيرة من السلاح الناري، فالرجل كان شديد الاعتناء ببناء قوة عسكرية قادرة على تنفيذ طموحاته بنشر الإسلام في أفريقيا كلها والقضاء على الوثنية بالكلية.
اتبع السلطان إدريس تكتيكات عسكرية لم تعرفها أفريقيا من قبل، فهو أول من بنى المعسكرات العسكرية الثابتة المحاطة بالأسوار مثل القواعد العسكرية الحديثة، وهو أول من أدخل سلاح الفرسان المدرعين بالحديد الذين تم تدريبهم على يد العثمانيين، ﻭﺍﺳﺘﺨﺪﻡ ﻓﺮﻕ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺮﺑﺮ، كما أنه استخدم قبائل الأشانتى الكاميرونية في القتال البحري، كما أنه اتبع سياسة الأرض المحروقة مع خصومه من الوثنيين.
هذا الإعداد العسكري القوي مكّن السلطان إدريس من تحقيق الانتصار في كل المعارك التي خاضها والتي تقدر ب33 معركة كبيرة، ومئات الغارات الصغيرة، حتى لقبوه بأسد أفريقيا الذي لا يُقهر، فهو لم يترك شبراً في غرب أفريقيا إلا حكمه، ووصلت سلطنة كانم برنو في عهده لأقصى اتساعها وأوج قوتها.
نهضته العمرانية
لم يكن السلطان إدريس ألوما بالقائد العسكري الماهر فحسب ولكنه كان صاحب عقلية حضارية ونهضوية متميزة. فقد كان يبني دولة متكاملة الأركان والمؤسسات وفق إيمانه العميق بالإسلام ودوره في الحياة وغايته في الوجود. وكانت رؤيته عن الدولة ومؤسساتها ودور الحاكم متأثرة بشدة بالنموذج العثماني.
فقد استحدث عدداً من الإصلاحات القانونية والإدارية بناءً على معتقداته الدينية والشريعة الإسلامية. فقام بإنشاء الكثير من المساجد والمؤسسات الخيرية مثل دور رعاية الأيتام والأرامل، وقام بالحج إلى مكة، حيث أسس نزلاً للحجيج من سلطنته. وكسياسي نشط، هدفت إصلاحات السلطان إدريس إلى اختيار مستشارين وحلفاء أكفاء، وكان دائم الطلب للنصح من مجلس مكون من رؤوس العشائر الهامة، وقد فرض على المسئولين الكبار أن يعيشوا في بلاطه، ليضمن مشورتهم الحاضرة، وفي نفس الوقت يأمن تمردهم وانقلابهم عليهم، ويبدو أنه كان متأثراً بما حدث وتكرر كثيراً في الدولة العثمانية من تمرد الولاة وانقلاب الوزراء، فأراد الاحتياط والحذر، خاصة مع وجود البواعث القبلية لذلك، وأقام تحالفات سياسية عبر زيجات مناسبة.
أمّا سياسته الاقتصادية، فكانت تعتمد على التجارة كمصدر أوّل لتمويل خزائن مملكته، فقد كانت سلطنة البرنو منطقة مركزية لعبور القوافل التجارية العابرة للصحراء بين بحيرة تشاد وواحة فزان، فقام السلطان إدريس بحفر العديد من الآبار على طول طريق القوافل التجارية، وضع رسوم للمرور والاستفادة من الخدمات اللوجستية، كما عمل على بيع الكثير من المنتجات في الشمال الأفريقي، ومنها النطرون (كربونات الصوديوم) القطن والعاج وريش النعام والعطور والشمع والجلود، ولكن أكثر التجارات ربحا حقيقياً كانت تجارة العبيد. الواردات تضمنت الملح والخيل والحرير والزجاج والبنادق والنحاس، مما ضمن له دخلاً ضخماً جعل سلطنة برنو شديدة الثراء والقوة.
استطاع السلطان إدريس أن يمد سلطانه شرقا حتى دارفور وغرباً حتى بلاد الهوسا، وشمالاً حتى واحة فزان (بليبيا حالياً). وجنوبا حتى تالا ألامدا الكاميرونية وبسط سلطانه بالعدل عليها كلها وتمتعت قارة إفريقيا في عهده بالأمن والاستقرار وانطلق الدّعاة والتجار لنشر دين الله الحق بين القبائل الوثنية.
كما قام ببناء المساجد والجوامع في سائر أرجاء سلطنته، ووجّه اهتماماً بالغاً بالتعليم ونشر اللغة العربية، كما كان مطبقاً لأحكام الشريعة في دولته لا يخرج عن حكمهما ويمقت المخالفات الشرعية ويعاقب مرتكبيها العقاب العسير. وقد حكم دولته بالكتاب والسنّة لأكثر من ثلاثين سنة حتى عمّ الأمن والاستقرار والرخاء في أنحاء دولته الشاسعة حتى قيل أن المرأة لو خرجت محلاة بالذهب من رأسها إلى قدمها ما تجرأ أحد على التعرض لها ولو سافرت من أقصى السلطنة لأدناها.
استشهاد السلطان إدريس
كما قلنا أن حياة السلطان إدريس كانت عبارة عن سلسلة متواصلة من الجهاد ضد المتمردين والمرتدين من الوثنيين، حتى أنه خاض أكثر من ألف معركة كما يقول المؤرخين لم يُهزم في واحدة منها!!
حتى حانت لحظة الحقيقة ومكافأة نهاية الخدمة، ففي إحدى غزواته ضد قبيلة باجريمي الوثنية في غابات وسط الكاميرون أُصيب بسهم غرب فسقط شهيداً سنة 1603 ميلادية، فحُمل جثمانه ودفنوه بالقرب من بحيرة " ألو" في جنوب نيجيريا.
وترك خلفه ثلاثة من الأبناء تعاقبوا على حكم السلطنة، وساروا على نهج أبيهم، فظلت السلطنة في عهدهم أعظم مملكة إسلامية في وسط أفريقيا، ولا تقل ازدهاراً عن مصر والجزائر وقتها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم