السخرية

الشيخ محمد بن صالح الشاوي

2025-12-12 - 1447/06/21 2025-12-30 - 1447/07/10
عناصر الخطبة
1/التحذير من السخرية بالآخرين 2/معنى السخرية وأمثلة عليها 3/النهي عن اللمز وبيان معناه 4/تحريم التنابز بالألقاب 5/وجوب الرد عن عرض المسلم

اقتباس

لا يدعُ أحدكم أخاه بالألقاب التي يسوء الشخصَ سماعُها، والألقاب التي ينفر منها ويكرهها صاحبها، إذا كان له أسماء حسنة غيرها، فالنبز لقب السوء، وهو المنهي عنه؛ لكونه يكرهه المدعو، إمَّا لكونه تقصيرًا له، أو ذمًّا له وشينًا به...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الذي خلق الخلائق وأحسن صنعَها، وخلق الإنسان وعلَّمه الحلال والحرام، وأشهد أن لا إله إلا الله الفردُ الصمد المتعالي عن النقائص، المتفرد بالكمال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فاعلموا -أيها المسلمون- أن الله -تعالى- يقول (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11]؛ ففي هذه الآية الكريمة يؤدب الله هذه الأمة، فينهانا ويحرِّم علينا السخرية بالناس، وهي احتقارهم والاستهزاءُ بهم واستصغارهم، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قال: "الكبر: بطر الحق، وغمطُ الناس"(أخرجه مسلم).

 

فينبغي -أيها المسلمون- ألا يجترئ أحد منا على الاستهزاء أو السخرية بمن تقتحمه عينه، كما إذا رآه رثَّ الحال، أو غير لبقٍ في محادثته، كأن يكون به لكْنَةٌ أو لدغةٌ، أو أن يكون ذا عاهة في بدنه؛ قال -تعالى-: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ)[الحجرات: 11]، والمعنى: أنه يجب أن يعتقد كل إنسان أنه ربما كان المسخور منه عند الله خيرًا من الساخر؛ لأن الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال، ولا علم لهم بالخفيات، وإنما الذي يزين عند الله طهارة الضمائر وتقوى القلوب، وليس لهم اطلاع على ذلك؛ لأنهم عن علم ذلك محجوبون، ومن يدري فلعل المسخور منه أخلص ضميرًا، وأنقى قلبًا، وأطيب عملًا من ذلك الساخر الأفَّاك الأثيم؛ لأنه ربما ظلم نفسه بتحقير من وقَّرَه الله، والاستهانة بمن عظَّمه الله.

 

وقد كان الصحابة والسلف الصالح -رضوان الله عليهم- يُفْرِطون في تخوُّفهم وابتعادهم عن هذا الإثم العظيم، ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "إن البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لَخَشِيتُ أن أُحَوَّل كلبًا"(أخرجه هناد في الزهد)، ومن ذلك أيضًا قول عمرو بن شرحبيل: "لو رأيت رجلًا يرضع عنزًا فضحكت منه، خَشِيتُ أن أصنع مثــل الذي صنعه"(أخرجه وكيع في الزهد).

 

وهذا أمر مشهور عند العامة من قديم، وهو أن من سخر من شيء أو استهزأ به، فإنه يعاقب بمثل ما استهزأ به، سواءً أكان ذلك في نفسه أو في ذريته؛ (وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت: 46].

 

وقال -تعالى-: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)[الحجرات: 11]؛ فالله -تعالى- ينهاكم -أيها المؤمنون- من العيب والطعن في الناس، واللمز: هو الطعن والضرب باللسان، والهماز: هو اللماز من الرجال والنساء، وهو مذموم ملعون عند الله وعند الناس، ومأواه جهنم وبئس المصير؛ قال -تعالى-: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)[الهمزة: 1].

 

فمعنى: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) لا يعيب بعضكم على بعض؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة، فالهمز بالفعل، واللمز بالقول، كما قال -تعالى-: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)[القلم: 10 - 11]؛ أي: يحتقر الناس ويهمزهم، طاغيًا عليهم، ماشيًا بينهم بالنميمة.

 

واعلموا أن المحرم من الهمز واللمز ما قصد منه التفكُّه وإضحاك الناس، أما إذا كان المهموز أو الملموز فاسقًا أو كافرًا أو تاركًا لأوامر الشرع؛ فإنه يجب ردعُه وتأديبه من قبل ولاة الأمور ومن ينوب عنهم، وتنفير الناس عنه؛ حتى يتوب إلى الله، وليس هذا همزًا ولا لمزًا، ولا غيبة ولا نميمة؛ لأنه قيام بأوامر الله، ومقصود لإقامة الحق؛ لا للأغراض النفسية، والمقاصد الدنيئة.

 

وقال الله في هذه الآية الكريمة: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ)[الحجرات: 11]؛ أي: لا يدعُ أحدكم أخاه بالألقاب التي يسوء الشخصَ سماعُها، والألقاب التي ينفر منها ويكرهها صاحبها، إذا كان له أسماء حسنة غيرها، فالنبز لقب السوء، وهو المنهي عنه؛ لكونه يكرهه المدعو، إمَّا لكونه تقصيرًا له، أو ذمًّا له وشينًا به.

 

فأما ما يحبه من الألقاب مما يزينه ويسره سماعه فلا بأس به، وهو محبوب، وقد روي أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يُدْعَى الرَّجُلُ ‌بِأَحَبِّ ‌أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ، وَأَحَبِّ كُنَاهُ"(أخرجه البخاري في الأدب المفرد وضعفه الألباني)، وروي عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "ثلاث يصفين لك ودَّ أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته، وأن توسِّع له في المجلس، وأن تدعوه بأحب أسمائه إليه"(رواه الطبراني والحاكم).

وقد قال الله في هذه الآية: أن من لم يتب من هذه المنكرات فإنه بائس ظالم، فقال تعالى-: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].

 

فيا قومنا: أجيبوا داعي الله، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنكم غدًا إليه ترجعون ومحاسبون.

 

أقول هذا القول، وأسأل الله أن يأخذ بأيديكم إلى ما فيه الخير والصلاح، فاستعينوا به واستغفروه؛ إنه هو الموفق والمعين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله العالم بما تُخفي الصدور، المطلعُ على كل شيء، له الحمد في الأولى والآخرة، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى، وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

وقد قال -صلوات الله وسلامه عليه-: "‌البَخِيلُ الَّذِي مَنْ ‌ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ"(رواه أحمد والترمذي)، وقد قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، أما بعد:

 

أيها الناس: اتقوا الله في أنفسكم، ولا تناجشوا -‌‌‌النجش فِي الْمُبَايعَة: أَن يزِيد الرجل فِي ثمن السّلْعَة وَهُوَ لَا يُرِيد شراءها؛ ليزِيد غَيره بِزِيَادَتِهِ-، ولا تباغضوا، ولا يبغِ أحدكم على أخيه، ولكم في رسول الله قدوة حسنة، فقد كان يدعو الناس بأحسن أسمائهم، وكان يعجبه أن يدعى الرجل بأحسن ألقابه.

 

واحذروا السخريةَ بالناس، والاستهزاء بهم، ولا يستهن أحدكم بأخيه المسلم، وتذكروا دائمًا قول الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].

 

فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وكونوا عباد الله إخوانًا متحابين، وعلى الخير متعاونين، ولا تَفَرَّقُوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واعلموا أن الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- يقول: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمى"(أخرجه مسلم).

 

"ولما كان الإيمانُ ضامًّا شملَ المؤمنين، يتراحمون به، ويتوادون فيه، ويتواصلون من أجله، كان تواصلُ المؤمنين، وتوادُّهم، وتراحمُهم، دالًّا على إيمان كلٍّ منهم، ويدخل في هذا من كان يحبُّ أن تجتمع كلمةُ المسلمين، وأن ينصلح ذاتُ بينهم، وأن يزول الشقاق عنهم والنِّفار، فإنه المؤمن حقًّا، ومن كان بضدِّ ذلك فهو بضده"(من كلام الوزير ابن هبيرة، ينظر: الإفصاح عن معاني الصحاح).

 

فاتقوا الله في إخوانكم، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، واعلموا أن من اعتدى على إنسان وسخِر به، أو استهزأ به، أو انتقص من حقِّه وأنتم تسمعون؛ فإنه يجب عليكم أن تدافعوا عن أخيكم، وأن تردوا الجاني على أعقابه، فهذا من كمال الإيمان، كما قال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران: 110].

 

وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فاهتدوا بهديه، وامتثلوا أوامرهما إن كنتم مسلمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم واهدهم صراطك المستقيم، وانصرهم على من عاداهم، اللهم ولِّ علينا خيارنا، واكفنا شرَّ كل ذي شر من الإنس والجن يا رب العالمين، اللهم واصرف عنا الربا وكرِّههُ إلينا، فقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ مِنْ ‌أَرْبَى ‌الرِّبَا الاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ"(أحمد وأبو داود وصححه الألباني)، اللهم إنا نسألك أن تصرف عنا الربا بأنواعه، والزنا، والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا، وعن جميع بلاد المسلمين، يا أرحم الراحمين.

 

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النحل: 90 - 91]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأصلحوا ذات بينكم يرضَ عنكم ويصلحكم، والله خبير بما تعملون.

 

 

المرفقات

السخرية.doc

السخرية.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات