عناصر الخطبة
1/ إتقان العمل وإحسانه من الدين 2/الإتقان في حياة الشخصية المسلمة 3/علاقة الإتقان بالرعاية 4/ضوابط الإتقان والرعاية 5/إتقان العمل في الكتاب والسنة 6/أجل وأعظم مسميات الإحسان 7/ثمرات اتقان العمل.اقتباس
الإتقان من الإيمان, حيث إتقان العمل يجب أن يكون عقيدة وخلق وسلوك في شخصية المسلم؛ لأنه ترجمة واقعية وحياتية على صدق الإيمان بالله، إذ ليس الإيمان مجرد كلمات نظرية تلوكها الألسنة، وليس مجرد ركعات وسجدات نؤديها في اليسير من الوقت، وليس مجرد مظهر أجوف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي لم يزل بصفات الكمال متصفاً، جوادٌ كريم إذا وعد أنجز ووفى، تواب حليم إذا عُصي تجاوز وعفا، أحمده -سبحانه- وأشكره على ما بسط من آلائه وأوفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسبي وكفى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أزكى البرية أصلاً، وأعلى الأنام شرفاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الحنفاء السادة الخلفاء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أمّا بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله تعالى؛ إذ بها بعدَ الله المعتصم، وعليها المعوَّل في المغنم والفِكاكُ من المغرم.
عباد الله: صفة جميلة حث عليها الإسلام، وأعلى من شأنها، كيف لا وهو من أعمدة قيام نهضة أمة الإسلام، على مستوى الأفراد والجماعات، ذلكم هو الإتقان.
إنّنا -أيها المسلمون- نَسمع رجعَ الصدى بين الحينِ والآخر للتَأفّف من مستوى الإتقان في مفاهيم العمَل والإنتاج لدى المجتمعاتِ المسلِمَة، بل لا نبتعد كثيرًا إن قلنا: إنَّ مجتمعاتِنا المسلمة أحوجُ ما تكون إلى تغيُّرٍ جذريّ في مفاهيم العمل وأهمّية الإنتاج المتقَن لكلِّ عملٍ نقوم به في حياتنا العملية. وإنّ مِن المؤسفِ أن نرى في واقعنا تصوُّراتٍ خاطئةً لا تفرِّق بين التكامل كقيمةٍ حياتيّة اجتماعية وبين التكاسُل كعَيبٍ سلوكيّ.
والإنسان المسلم يفترض فيه أن تكون شخصيته إيجابية، مقبلة على الحياة، متفاعلة معها، فالإنسان المسلم مطالَب باستيفاء شروط الخلافة في الأرض والسعي في مناكبها عبادةً لله، وإعماراً للأرض، واستفادة مما فيها من ثروات وخيرات لا يصل إليها إلا بالعمل والعمل الجاد.
أيها الإخوة: والإتقان كما جاء في لسان العرب هو الإحكامُ للأَشياء، وفي التنزيل العزيز: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل: 88]. ولا شك أن إتقان العمل وإحسانه من الدين، سواء كان العمل عبادة أو عادة، دلت على ذلك الأدلة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فمن ذلك أن الله -سبحانه- أمر بالإحسان فقال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195] وقال -جل وعلا-: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ َ) [القصص:77]، وقال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [النحل:90] ولا إحسان دون إتقان للعبادة والعمل. فمن الإتقان أن يتحمل المرء المسؤولية ويجتهد في تحقيقها، قال الله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [الإسراء: 34].
وقد أرسى النبي -صلى الله عليه وسلم- قاعدة جليلة تساهم في إنجاح مسرة الأفراد والأمم، فعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ" [ رواه البيهقي في شُعَب الإيمان (5312) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1113)].
عباد الله: الإتقان سمة أساسية في الشخصية المسلمة يربيها الإسلام فيه منذ أن يدخل فيه، وهي التي تحدث التغيير في سلوكه ونشاطه، والمسلم مطالب بالإتقان في كل عمل تعبدي أو سلوكي أو معاشي؛ لأن كل عمل يقوم به المسلم بنيّة العبادة هو عمل مقبول عند الله يُجازى عليه سواء كان عمل دنيا أم آخرة. قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163].
وتتمثل عملية الإتقان في كل ما كُلّف العبد به من أمور وواجبات الدين والدنيا؛ كتعلُّم المسلم للصلاة وأدائها بأركانها وشروطها التي تدرّب المسلم على الإتقان المادي الظاهري، بل على الإتقان الداخلي النفسي المتمثل في مراقبة الله -عز وجل- والخوف منه، فهل نحن نربي الآن في مجتمعنا المسلم الشخصية المسلمة التي تهتم بإتقان أمور الحياة كلها, فردية أو جماعية؟ وهل سبب تخلفنا وتأخرنا يرجع إلى فقدان هذه الخاصية؟ وما قيمة الشعائر والوسائل التعبدية التي لا تغير في سلوك الإنسان ونمط حياته ووسائل إنتاجه؟.
إننا نفتقد التربية الأسرية والمدرسية والاجتماعية التي تجعل عمل الإتقان في حياتنا مهارة داخلية, تعبّر عن قوة الشخصية التي تكسب الإنسان الاتزان والثقة والاطمئنان, والتفرد إلى جانب اكتساب المهارة المادية والحركية.
إننا مطالبون بترسيخ هذه القيمة التربوية الحياتية في واقعنا وسلوكنا؛ لأنها تمثل معيار سلامة الفرد وقوة شخصيته وسمة التغيير الحقيقي فيه، كما أننا مطالبون ببذل الجهد كله في إتقان كل عمل في الحياة يطلب منا ضمن واجباتنا الحياتية أو التعبدية.
إنّ ممّا يزيد شدّةَ الأسَف أننا شعوبٌ ومجتمعاتٌ مسلمة تدينُ بدين الإتقان، دينِ العمَل والنّجاح، دين العمَل للدنيا والأخرى، دينِ الحثِّ على مكابَدة الحياة واستسهال الصِّعاب، دين الفأل والأمَل المحمودِ الذي يبلُغ بالمجتمَع المجدَ بعدَ أن يلعَق الصَّبِر مراتٍ ولا يكاد يُسيغه ومع ذلك فنحن في طاعاتنا وسلوكنا وأعمالنا بعيدون عن مفهوم الاتقان!!.
أيها الإخوة: والإتقان يعني الرعاية والتي منها: مراعاة العلم، وحفظه بالعمل، ومراعاة العمل بالإخلاص والإحسان، وحفظه من المفسدات، ومراعاة الحال بموافقة الشرع، ومن التزم لله شيئاً لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب؛ لزمه رعايته وإتمامه, كمن شرع في طاعة مستحبة بإتمامها، فالتزامها بالشروع كالتزامها بالنذر, فكما يجب عليه ما التزمه بالنذر وفاءً، يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماماً.
لقد ذمّ الله -سبحانه- من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها, كما قال -سبحانه- عن النصارى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) [الحديد: 27]، فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله لعباده، وأذن بها، وحث عليها، وأمر بها -سبحانه-؟.
إن الإحسان هو الإتقان، وهو بحسبه في أي مجال كان فيه، فالإحسان في العبادة يعني إتقان العبادة، والإحسان في الحرفة إتقان الحرفة، وكل عمل تفعله إن أتقنته وأخلصت فيه فقد أحسنت، فالإتقان مطلوب ظاهرا، والإخلاص مطلوب باطناً، ومن هنا قال الفضيل بن عياض: "العمل لا يُقبل إلا بشرطين، إلا إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة".
وإتقان العمل موافقته للسنة تماماً، في الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وفي الحرفة، وفي الأعمال، وفي كل شيء، إتقان العمل موافقته للسنة، والإخلاص إليه أن تبتغي به وجه الله، ولو أن إنساناً أخلص في عمله، ولم يجعله مطابقاً للسنة، فالعمل مرفوض، لو أن إنساناً جعله مطابقاً للسنة، ولم يكن مخلصاً، فالعمل مرفوض، الإخلاص والإتقان شرطان لازمان غير كافيين، لا يكفي الإخلاص وحده، ولا الإتقان وحده، بل يكون متقناً وأن يوافق السنة.
عباد الله: الإتقان والرعاية التي ينبغي للمسلم الالتزام بها ثلاث درجات:
الأولى: رعاية الأعمال، وتكون بأدائها على الوجه المشروع في حدودها وصفاتها وأوقاتها، واستصغارها في عينه واستقلالها، وأن ما يليق بعظمة الله وجلاله وحقوق عبوديته أمر آخر قصر عنه العبد، وأنه لم يعرف حقه، وأنه لا يرضى لربه بعمله الناقص ولا بشيء منه، فيكثر من الاستغفار.
فمن شهد واجب ربه -سبحانه-، وشهد مقدار عمله، وشهد عيب نفسه، لم يجد بداً من استغفار ربه منه، واحتقاره إياه، واستصغاره. ويوفي الأعمال حقها من غير أن يلتفت إليها ويعددها ويذكرها، وذلك مخافة العجب والمنة بها، فيسقط من عين الله، ويحبط عمله, وعليه أن يجريها على مجرى العلم المأخوذ من مشكاة النبوة، مع الإخلاص لله، وإرادة وجهه، وطلب مرضاته.
الدرجة الثانية: رعاية الأحوال، بأن يتهم نفسه في اجتهاده أنه راءى الناس، فلا يطغى بعمله، ولا يسكن إليه، ولا يعتد به، ويتهم يقينه، وأنه لم يحصل له اليقين على الوجه الذي ينبغي، وما حصل له منه لم يكن به ولا منه، ولا استحقه بعوض، وإنما هو فضل الله وعطاؤه, فهو يذم نفسه في عدم حصوله، ولا يحمدها عند حصوله، بل يحمد الله الذي وفقه وأعانه.
الثالثة: رعاية الأوقات، بأن يقف مع كل خطوة، ومع كل حركة، ظاهرة وباطنة؛ ليصححها نية وقصداً، وإخلاصاً ومتابعة، فيقف قبل كل خطوة حتى يصححها. والعباد مسؤولون عن العهد أداءً وإحساناً، وإتماماً ورعاية.
فبأي وجه يلقى الله من جعل أوقاته للشهوات، وحركاته لجمع حطام الدنيا، وقصر في حق ربه، وفي حق دينه، وفي حق رسوله، وفي حق البشرية قاطبة؟، وبأي حجة يلقى الله من قصَّر في عبادة الله، والدعوة إليه، وتعليم شرعه؟. إن الكل مسؤول عما قدم وأخر، ومحاسب على ما عمل: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) [الأعراف: 6، 7].
إن المؤمن حقاً من سكب عصارة عمره وروحه في طاعة ربه، تارة يعبد ربه, وتارة يدعو إليه, وتارة يتعلم أو يعلم شرعه، فأين من يصدع بالحق، ومن يحمل رايات الهدى بين الورى؟ قال الله: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50].
عباد الله: والإتقان في المفهوم الإسلامي ليس هدفاً سلوكياً فحسب، بل هو ظاهرة حضارية تؤدي إلى رقي الجنس البشري، وعليه تقوم الحضارات، ويعمر الكون، وتثرى الحياة، وتنعش، ثم هو قبل ذلك كله هدف من أهداف الدين يسمو به المسلم ويرقى به في مرضاة الله والإخلاص له؛ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، وإخلاص العمل لا يكون إلا بإتقانه.
في إبّان الضّعفِ في الإنتاجِ والعمَل المتقَن لدَى المسلمين سُمِعت أصواتٌ هالَها التقدّمُ الأجنبي عنها، وظنوه بِدعًا من قِبَل أنفسهم، وما علموا أنّ ما بأيديهم إنما هو ثمارُ وخراج ما فعَّلوه من تَركَة الأمة الإسلامية التي وقعَت بين أيديهم يومًا ما، وأصبَحَت هذه الأصوات تمجِّد ما لدَى أولئك ممّا يُسَمّى بالجودة النوعيّة والتميُّز, وما علم أولئك أنّ هذا كلَّه قد سبقهم فيه الإسلامُ بقرون، بل إنَّ معيارَ الجودة لدى المسلمين غيرُ معيار الجودَة لدى غيرهم؛ لأن الجودَةَ لدى أولئك منطَلَقُها مادّيّ صِرف، بخلاف الجودة لدى المسلمين، فإنَّ منطلقها دنيويّ وأخرويّ؛ لقوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [هود: 7]، وفسَّر ذلك أهلُ العلم بأنه العمل الذي يكون خالصًا صوابًا, فالخالص أخرويّ، والصواب هو الإتقان.
غيرَ أن من تبعيَّتنا أننا لا نعجَب إلا بما عند غيرنا ولو كان أصلُه في ديننا, فيغترّ البعضُ بمصطلَح الجودة والتمييز لكون الأجنبيّ ارتضى له هذا المسمّى دون اكتراثٍ أو افتخارٍ بأنّ مصطلَح الإتقان قد سبق بقرون في ديننا الحنيف، ولو لم يأتِ في الإتقانِ والحضِّ عليه إلا حديثُ رسول الله الدالّ على أنّ الله يحبّ إتقانَ العمل لكفى به حاضًّا وحاثًّا, فقد روى أحدُ الصحابة أنَّ رسول الله فَانْتَهَى بِالْجَنَازَةِ إِلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يُمْكِنُ لَهَا، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "سَوُّوا لَحْدَ هَذَا" حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ سُنَّةٌ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَمَا إِنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلَا يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِنَ" [شعب الايمان(4932)]، سبحان الله إلى هذا الحد مفهوم الإتقان يا عباد الله!!.
فانظروا -يا رَعاكم الله- كيفَ أمَر بالإتقان حتى في هذا الموضعِ الذي لا يضُرّ الميتَ فيه سَقَط عليه التراب أم لا, إذ ما ضرَّ الشاةَ سلخُها بعد ذبحها، ولكنّه التوجيهُ بالإتقان وتنميته لدى الضمير المسلم الواعي؛ ليكون دافعًا قويًّا في الدعوة إلى إحسان العمل وإجادته أياً كان، فإذا كان هذا في القبر وحالِ الموت ففيما هو أكبرُ منه أولى وأجدر.
ويؤخذ من هذا الحديث فوائدُ، منها: أنَّ الله يحب الإتقان، ومنها: أن الإتقان والحثَّ عليه ليس مقتصِرًا على أمورِ العبادة فحسب، بل يمتدّ حتى يصلَ الأمورَ الدنيوية، ومنها: شعورُ المسلم بالإنجاز السليم، وأنه عمِل ما يحبّه الله، وأنه بإتقانِه راضٍ عن نفسِه بعدم التقصير.
ومما لا شك فيه أن من أجل وأعظم مسميات الإحسان، إتقان العبادة وإحسانها، العبادة التي يتوجه بها المرء إلى الله، ويستنزل بها رحمته، ويرجو بها ثوابه، ويقدمها لتكون سبباً في الوقاية من عقابه، إحسان العبادة التي جعل الله بعض خلقه غاية لها ليبلوا الخلق، لذلكم قال -جل وعلا-: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[هود:7], وقال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الكهف:7]، وقال -سبحانه- في سورة الملك: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك:2].
أيها الإخوة: غير خافٍ أن دين الإسلام الذي أنزله الله تعالى خاتمة لما بعث به رسله، ولما أنزل به كتبه، أنه دين إحسان وإكرام وتعاطف وتحاسن وتكاتف وتراحم، بل وتجاوز وتسامح، ما لم تنتهك حرمات الله، وأن الله -جل وعلا- أمر فيه بالإحسان، في غير ما آية من كتابه -سبحانه-، من ذلكم قوله -جل ثناؤه-: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195] وقوله: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص:77]، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [النحل:90]، وقوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ) [يوسف:21].
ولقد أمر ربنا بالإحسان في غير ما آية، وأمر به رسوله -صلى الله عليه وسلم- في غير ما حديث، وإن الإحسان الذي أمر الله به، ورتب على القيام به ثواب الدنيا وثواب الآخرة أن يفعل المرء ما استطاع مما أمر الله به رجاء ثواب الله، وأن يترك ما نهى الله تعالى عنه جملة وتفصيلاً خوف عقاب الله فعلاً، ورجاء أ، يقوم في عبادته مقام الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" [البخاري (50) ومسلم(8)] .
نسأل الله أن يجعلنا من المحسنين ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير وسلم تسليمًا.
عباد الله: والإتقانَ في الشريعة الإسلاميّة قد جاء في نصوصٍ كثيرةٍ من الكتابِ والسنة، كلّها دالّة على محبته والحضِّ عليه في جوانبَ كثيرة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام- من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "إذا كفَّن أحدكم أخاه فليحسِن كفنَه" [مسلم (943)]. وفي حديث شداد بن أوس الداري في ذبح البهائم قال -عليه الصلاة والسلام-: "وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة" [الترمذي(1409) وصححه الألباني]. وفي الصلاة ورد حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: "يؤمّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله" [مسلم(673)].
وفي قراءة القرآن من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "الذي يقرَأ القرآنَ وهو ماهِر به مَع السفرةِ الكرامِ البررة" [البخاري(4937) مسلم(798)], وفي قصّة مشروعيّة الأذان حينما رأى عبد الله بن زيد الرؤيا قال له رسول الله: "ألقِه على بلال؛ فإنه أندى منك صوتًا" [شرح صحيح البخارى لابن بطال (2 / 230)]، وهذا اعتبارٌ وتقديمٌ للإتقان، والنصوص في ذلك كثيرة، كثيرة جدًّا، ليس هذا محلَّ بسطها؛ إذ يكفي مِن القلادةِ ما أحاط بالعنق.
فهل يعي المسلمون قيمةَ هذا المفهوم في شريعَتهم؟! وهل يسعَون بعد هذا الفَهمِ إلى تفعيله في أوساطهم وبالأخص الأوساط العلميّة والتعليمية, التي تنطلق منها مجالات العمَل وسوقُه من صناعات وإنجازاتٍ ومهارات؟!.
عباد الله: الإتقان من الإيمان, حيث إتقان العمل يجب أن يكون عقيدة وخلق وسلوك في شخصية المسلم؛ لأنه ترجمة واقعية وحياتية على صدق الإيمان بالله، إذ ليس الإيمان مجرد كلمات نظرية تلوكها الألسنة، وليس مجرد ركعات وسجدات نؤديها في اليسير من الوقت، وليس مجرد مظهر أجوف، لا يسمن ولا يغنى من جوع.
إن عمل رجل في ألف رجل، خير من كلام ألف رجل في رجل، ولذا فإن الثرثرة والعمل المتقن لا يجتمعان معاً، إذ يحتاج الإتقان إلى تركيز، والثرثرة بعثرة لكل عوامل التركيز, إن الكلام ولو ملأ طباق الأرض فلن يعلن عن صاحبه، ما لم يقترن بعمل جاد متقن, إن العويل والصراخ وكثرة الشكوى مضيعة للوقت، والعمل يحتاج إلى كل لحظة, إن النجاح في الحياة لن يذهب إلا لمن يستحقه.
إن المسلمين اليوم كثيرًا ما يعملون العمل فلا يتقنونه، وهذا هو أحد أسباب تأخرهم، في الوقت الذي أخذت الأمم الأخرى بإتقان العمل الدنيوي فتقدمت, وإتقان العمل هو غير الحرص على الدنيا الذي نهى رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- عنه في أحاديث أخرى.
فالمؤمن يتقن العمل ابتغاء وجه الله, وهو يعيش في الدنيا وقد أفرغ قلبه من التعلق بها وبمباهجها والحرص عليها, ومن أتقن العمل لقي الجزاء، وأقل الجزاء هو الجزاء الدنيوي.
لقد كانَ العاملُ أميناً وحريصاً على الاستمرار في العمل، ولا ينقطعُ عنه, ولا يُضَيِّعُ أوقاتَ العملِ في اللهوِ وقراءةِ الصحف وحلِّ الكلماتِ المتقاطعةِ والأحاديثِ الجانبيةِ، لذلك تربَّعَتِ الأمةُ الإسلاميةُ على عرشِ الحضارةِ أكثرَ من 1000 عامٍ.
والآنَ يتفشىَّ عندَ الموظفينَ في مؤسساتِ الدولةِ إهمالُ العاملِ لعملِه، واستهتارُه بالناس وبالمراجعين، وقد يعتذرُ العاملُ بقوله أنا لا آخذُ حقِّي كاملاً, والأجرُ لا يكفي أهلي وأولادي. أقول: كلامُكَ صحيحٌ، ولكنْ إذا انطلقتَ من هذا الاعتبارِ أنت وغيرُك فلن يصلحَ حالُك، ولن تصلحَ الأمَّةُ ولن يتغيرَ شيءٌ.
علينا أن نبدأَ بالإصلاحِ وبالتغيير, وأن نأخذَ دواءَ هذا المرضِ من حديث رسول الله: "إنكم ستجدونَ بعدي أثرةً فاصبروا حتى تلقَوني على الحوضِ". وقال: "إنّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا!", قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ فما تَأْمُرُنا؟ قَالَ: "تُؤَدّونَ الْحَقّ الّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللّهَ الّذِي لَكُمْ" [البخاري(3603) ومسلم(1843)].
أيها الإخوة: الإتقان ثمرة الإحسان: فالإتقان ما هو إلا ثمرة يانعة من ثمار الإحسان، وما أدراك ما الإحسان، هو ما عرفه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" [البخاري (50) ومسلم(8)].
فإذا عبد العبد ربه وهو مستحضر عظمته في كل وقت وحين، لابد وأنه سوف يتقن ما يقوم به من عمل أياً كان؛ لأنه يعلم أن الله مطلع عليه، ويحب أن يرى الإتقان منه، حتى إن لم تكن عليه رقابة من مخلوق لكي يحسن العمل، فحسبه أن الله تعالى مطلع عليه، فيكون دافع الإتقان لديه ذاتيًا. وعادة الإتقان تكسب الأمة المسلمة الإخلاص في العمل لارتباطه بالمراقبة الداخلية، كما أنها تجرد العمل من مظاهر النفاق والرياء.
أيها الإخوة: يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "قيمة كل امرئ ما يحسن". وقال أيضًا مؤكدًا انتساب الناس إلى ما يتقنونه، وأنه محل تقدير واحترام لدى الجميع: "الناس أبناء ما يحسنون".
إذاً: أنتَ -أيها المستمع- أَتقِنْ عملَكَ ولا بدَّ أنْ يجعلَ الله لك فرجاً ومخرجاً، قد تكونُ هذه الفترةُ لكَ فترةَ تدريبٍ، كما كان السجنُ ليوسفَ تدريباً وإعداداً، ولا بد أن يرفعك الله في الدنيا قبل الآخرة, أما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[النحل: 97]. إذاً: إتقان العملِ خُلقٌ من أخلاقِ المسلمِ وأدبٌ علّمَنا إيَّاهُ رسولُ الله وسببٌ عظيمٌ من أسباب النجاحِ في الدنيا.
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم