عناصر الخطبة
1/أم النبي -صلى الله عليه وسلم- 2/وفاة أم النبي -صلى الله عليه وسلم- ودفنها 3/زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- لقبر أمه أثناء عمرة الحديبية 4/منزلة الأم ووجوب بر الأمهات والتحذير من عقوقهمااقتباس
بعدَ خمسينَ سنةً من وفاةِ آمنةَ بنتِ وهبٍ؛ إذا بالنبيِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعتمرُ عُمْرةَ الحديبيةِ، فيمرُ بالأبواءِ، ومعه ألفٌ وأربعُمائةٍ من أصحابهِ، فجاشتِ الذكرياتُ، وتداعتِ المشاهدُ، فجلسَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصباحِ إلى قريبٍ من العصرِ، والجيشُ منتظرٌ لا...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، نحمدُه سبحانَه ونثنيْ عليهِ الخيرَ كلَّه، نشكرُه ولا نكفرُه، ونخلعُ ونتركُ مَنْ يَفْجرُه، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا هوَ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ.
أما بعدُ: آمنةُ بنتُ وهْبٍ الزُّهريةُ هيَ والدةُ النبيِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهيَ اختيارُ اللهِ من نساءِ الأرضِ كلِهن؛ لتكونَ أمَّاً لخيرِ رسولٍ.
وقد تلقتِ البُشرى قبلَ ولادتهِ، فقد: رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ.
وُلِدَ الهُدَى فالكائناتُ ضياءُ *** وفمُ الزمانِ تبسمٌ وثناءُ
فلما بلغَ النبيُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ستَّ سنينَ ذهبتْ بهِ إلى المدينةِ ليزورَ بنيْ النجارِ أخوالَ جدِّهِ عبدِ المطلبِ، وكان مِن صُنعِ اللهِ أن تذهبَ آمنةُ بطفلِها ومعها أمُ أيمنَ الحبشيةُ (وهيَ أَمَةٌ لزوجِها عبدِ اللهِ)، فبقيتْ آمنةُ شهراً في المدينةِ، وكانتِ المدينةُ موبوءةً بحمى الملاريا، وفي طريقِ العودةِ لمكةَ أصابتْها الحمَى، فلما وصلتِ الأبواءَ اشتدَ بها المرضُ، وحضرَها الموتُ هناكَ.
وأمامَها بُنَيُها تودعُ الحياةَ وتودعُه، فيا للهِ أيُّ لوعةٍ كانتْ في نفسِها تلكَ الساعةَ وهيَ لا تدرِيْ ما الذي سيَحدثُ لطفلِها بعدَها في هذهِ الصحراءِ المُهلِكةِ؟
ولكنَ ربَك -جلَ وعزَ- كان يصنعُه على عينهِ، ويُدبرُ أمرَه ويؤويْهِ: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)[الضحى: 5-7].
وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابنُ ستِ سنينَ تسجلُ عيناهُ المشهدَ بدقةٍ، ولما دُفنتْ أمُه حفِظَ موقعَ قبرِها، ورجعتْ به أمُ أيمنَ إلى مكةَ.
ومرتِ السنواتُ، وبعدَ خمسينَ سنةً من وفاةِ آمنةَ بنتِ وهبٍ؛ إذا بالنبيِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعتمرُ عُمْرةَ الحديبيةِ، فيمرُ بالأبواءِ ومعه ألفٌ وأربعمائةٍ من أصحابهِ، فجاشتِ الذكرياتُ، وتداعتِ المشاهدُ، فجلسَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الصباحِ إلى قريبٍ من العصرِ، والجيشُ منتظرٌ لا يَدرِيْ ما الخبرُ، فقامَ فجعلَ يمشيْ ويتخطَى قبورًا، فرأوهُ جالساً عندَ قبرٍ وكأنهُ يتكلمُ مع إنسانٍ أمامَه، فلما طالَ جلوسُهُ جاؤُوا إليهِ، فوجدوهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندَ قبرِ أمهِ يبكي، فقال: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي"، وكأنما جلسَ من الصباحِ ينتظرُ الإذنَ من اللهِ: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُوروا القُبُور؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ".
يا للهِ! هذهِ لوعتُهُ على أمهِ، مع أنه لم يُدركْ من حياتِها إلا مثلَ الطَّيفِ؛ فكيفَ لو أدركَ حياتَها في شبابهِ؟!وللهِ الحكمةُ البالغةُ!
ولئن فاتَنا أن ندركَ حياتَه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أمهِ التي ولدتْهُ، فقد أدركنا حياتَه مع أمهِ التي ربَّتْهُ، وهي أمُ أيمنَ -رضيَ اللهُ عنها- فهيَ حاضنتُهُ، ولذا بقيَ يعاملُها معاملةَ الأمِ، وكان يزورُها كما يزورُ الابنُ أمَه، وكانت تجرؤُ عليه، وربما تلومُه إذا لم يأكلْ طعامَها؛ كفعلِ الأمهاتِ مع أولادِها، وما كانت تجرؤُ عليهِ إلا لأنه أفسحَ لها ذلكَ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وكفَى، وصلاةً وسلامًا على النبيِ المصطفَى.
أما بعدُ: فإنها الأمُ التي بذلتِ الكثيرَ، ولا تطلبُ إلا أقلَ القليلِ، حتى إذا احدودبَ ظهرُها، وارتعشتْ أطرافُها، وزارتْها الأسقامُ، فلا يزالُ قلبُها ينبُضُ بمحبةِ من ولدَتْهُ.
فهنيئاً لمن لا زالتْ أمُه تعيشُ في حياتهِ، لتذيقَه نعيمَ الطفولةِ مهما كبرتْ سِنُّه، وهنيئاً لكلِ ابنٍ لا يزالُ يتلذذُ بإسعادِ أمهِ ويبرُها.
فيا مَنْ مَنَّ اللهُ عليهِ بحياةِ والديهِ أو أحدِهما: سَيَأْتِي اليومُ الذي لَنْ تَرَى فِيهِ أمَّك وأَبَاكَ، ومَنْ جَرَّبَ الحِرمَانَ عَرَفَ، وَسَتَبْكِي نَدَمًا أَنْ لَوْ بَرَرْتَ بِهِما، فَاتَّقِ اللهَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ اللِّقَاءُ إلَّا بَيْنَ يَدَيْ مولاكَ. وإنما هيَ أيامٌ قلائلُ؛ تُصاحبُهما، ثم تفوزُ بعدَهما بالبركةِ في الدنيا، وبجنةِ النعيمِ في الآخرةِ.
ويَا أَيُّهَا الْمُضَيِّعُ لحقِّهِما بِالْعُقُوقِ: ليسَ العقوقُ ضربُهما أو سبُهما فحسْبُ، بل منَ العقوقِ قولُك لأحدِهما: سآتيْ بعدَ عشرِ دقائقَ، ثم لا تأتيْ إلا بعدَ ساعةٍ، ومن العقوقِ أن تبقَى أمُكِ بالمطبخِ، ولا تقومينَ من جوالِك لتساعدِيها، ومن العقوقِ: أن تُتعبَ والدَيكَ لإيقاظِك للصلاةِ.
وعِظْ نفسَك بالحديثِ المخيفِ الذي حسنَه ابنُ حجرٍ أن النبيَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: "مَا مِنْ مِسْلِمٍ يُصْبِحُ وَوَالِدَاهُ عَلَيْهِ سَاخِطَانِ إِلاَّ كَانَ لَهُ بَابَانِ فِي النَّارِ"، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ ظَلَمَاهُ؟ قَالَ: "وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ"(رواهُ أبو يعلَى).
ويا أيُها الوالدانِ: أعينُوا أولادَكم على برِكم، وتغاضَوا وأثنُوا على قليلِ البرِ.
فاللهم ربَنا ارحمهُما كما ربيَانا صغارًا، وأعنا على برِهِما أحياءً وأمواتًا.
اللهم ربَّنا أوزعْنا أن نشكرَ نعمتَكَ التي أنعمتَ علينا وعلى والدَينا، وأن نعملَ صالحاً ترضاهُ، وأدخلْنا برحمتِك في عبادِك الصالحينَ.
اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبَّاً، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدَّاً كَدَّاً.
اللهم أعزَ الإسلامَ والمسلمينَ، وارحمِ المستضعفينَ من المسلمينَ.
اللهم أعطيتَنا بفضلِكَ الإسلامَ ونحنُ لم نسألْكَ، فأعطِنا برحمتِك الجنةَ ونحن نسألُك.
اللهم اجعلْ إمامَنا ووليَ عهدِه وجنودَنا وحدودَنا في ضمانِك وأمانِك.
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم