عناصر الخطبة
1/اختلاط مفهوم الغنى بمفهوم الرزق 2/أرزاق الخلائق بيد الله وحده 3/الدعاء بالبركة من أهم الأولويات في الرزق 4/نماذج من دعاء النبي بالبركة في أحوال مختلفة 5/الحث على القناعة والكسب الحلالاقتباس
كان دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في كثير من حالات الرزق بالبركة، فمن تزوج دعا له بالبركة، ومن أطعمه دعا له بالبركة، وإذا دعا لأحد بالولد دعا له بالبركة، وإذا دعا لأحد بالمال دعا له بالبركة، ودعا للمدينة بالبركة...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ -عبادَ الله-؛ (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء:131].
أيها المسلمون: حينما يطغى حبُّ المال والغنى، ويصبح تَمَلُّكُ الثروةِ والزيادةُ منها هاجسَ المرء وتفكيرَه وبغيتَه، فلا تسأل عن النكد والتعب واحتقار النعمة التي هو فيها، فمهما أُعطي وملك وأُغني فإنه لا يزال في عدم الرضا والقناعة.
لقد اختلطَ مفهومُ الغنى بمفهوم الرزق عند بعض الناس، فإذا لم تكن الملايين في حسابه ظن أنه لم يُرزق ولم يُغْدَقْ عليه، وينسى الرزق الذي هو فيه، والنعم التي يتقلب فيها، فكيف إذا صاحب ذلك تَعَلُّقٌ بالمخلوق، وأصبحت الرقاب إليه ممدودة والنواظر إليه مُشْرَئِبَّةً؟! فيا حسرةً على التوحيد والتعلق بالله، أين الله؟! أين الكريم الرزاق؟! كيف يتعلق بمخلوق مرزوق؟!.
إن من أعظم ما يجب على المرء استحضاره في كل لحظة وآنٍ أمرين اثنين: الأول: هو أن الرازقَ هو الله، وأن ما يفتح الله من رحمةٍ ورزقٍ فلا مُمْسِكَ له، وهو يقول عن نفسه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)[هود: 6]، ويقول: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ)[العنكبوت: 60].
الله أكبر! هذه الدابة ضعيفةُ القوى ضعيفةُ العقل لا تستطيع أن تحمل رزقها، ولا تستطيع ادخاره، بل لم تزل لا شيء معها من الرزق، ولا يزال الله يُسَخِّرُ لها من الرزق في كل وقت بوقته، فاللهُ موصوفٌ بكمالِ الرحمةِ وسَعَةِ البرِّ والإحسان، وكثرة المواهب والحنان والرأفة، فجميعُ ما في العالم العلوي والسفلي من حصول المنافع والمحاب والمسار والخيرات فإن ذلك منه، ومن رحمته وجوده وكرمه وفضله، كما أن ما صُرِفَ عنهم من المكاره والنِّقَمِ والمخاوف والأخطار والمضار، فإنها من رحمته وبره، فإنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو.
تأمل ما قال عن نفسه فيما يرويه النبي المعصوم عن ربه -جل وعلا- فيما رواه مسلم، "قال الله -تعالى-: يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ".
فتعالى الله رب العالمين، تأمل كمالَ قدرته -سبحانه- وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء، كما قال -تعالى-: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)[النحل:96]، ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميعَ ما سألوه في مقام واحدٍ، وفي ذلك حَثُّ الخلقِ على سؤاله وإنزال حوائجهم به.
وفي الصحيحين عن أبي هُريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قَالَ الله -سبحانه وتعالى- أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ اللهِ مَلأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لم يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ"، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ".
وقال أبو سعيد الخدري: "إِذَا دَعَوْتُمُ اللهَ فَارْفَعُوا فِي المسْأَلَةِ؛ فَإِنَّ مَا عِنَدَهُ لَا يُنْفِدُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا دَعَوْتُمْ فَاعْزِمُوا؛ فَإِنَّ اللهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ"(جامع العلوم والحكم)، وقد زاد الترمذي في حديثه قال الله: "ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ، عَطَائِي كَلَامٌ وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُهُ إِنَّمَا أَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"، وهذا مثل قوله -تعالى-: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82].
لَا تَخْضَعَنَّ لمخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ *** فَإِنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ مِنْكَ بِالدِّينِ
وَاسْتَرْزِقِ اللهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ *** فَإِنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ
أليس من أسمائه -جل وعلا- الفتاحُ، يفتح لعباده أبواب الأرزاق وطرق الأسباب، ويهيئ للمتقين من الأرزاق وأسبابها ما لا يحتسبون، ويعطي المتوكلين فوق ما يطلبون ويؤملون، وييسر لهم الأمور العسيرة، ويفتح لهم الأبواب المغلقة، وهو الرزاق تكفل بأرزاق المخلوقات كلها، وأوصل إليها أرزاقها ومعائشها، وعلم أحوالها وأماكنها، بل وأعظم رزقه ما يرزق قلوب خيار المؤمنين من العلوم والمعارف وحقائق الإيمان ما تتغذى به وتنمو وتكمل، فيا أنس من سأل الأمرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[سبأ: 24].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه، أمَّا بَعْدُ:
أيها المسلمون: الكثرةُ لا تدل على خيرية الشيء، وإنما الخير فيما باركه الله -سبحانه وتعالى- وهذا هو الأمر الثاني الذي يجب استحضاره، إذا نُزِعت البركة من الرزق فلا خير فيه، ولا تزيد المرء إلا وبَالًا؛ ولذا كان دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في كثير من حالات الرزق بالبركة، فمن تزوج دعا له بالبركة، ومن أطعمه دعا له بالبركة، وإذا دعا لأحد بالولد دعا له بالبركة، وإذا دعا لأحد بالمال دعا له بالبركة، ودعا للمدينة بالبركة، بل إن إبراهيم-عليه السلام-دعا لمكة بالبركة، ولما رجع إلى هَاجَرَ -كما في صحيح البخاريِّ- ووجد زوجةَ إسماعيل قال لها: "مَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ؟"، فقالت: اللَّحَم والماء، فقال إبراهيمُ: "اللهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ"(أخرجه البخاري)، وعند أحمد في مسنده، أن الرسول كان يدعو ويقول: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي".
ودعا لأنس -كما في الصحيحين- لما أتت به أمه ليكون خادما للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ"، وعَلم الحَسَنَ أن يقول في دعاء الوتر: "وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ" كما عند الترمذي، إلى غير ذلك مما يدل على أن الدعاء بالبركة من أهم الأولويات في رزقك وتجارتك وولدك وأهلك، بل وأعمالك الصالحة، فليست القضية في الاستكثار، وإنما القضية في البركة التي يضعها الله -سبحانه وتعالى-.
وتأملوا هذا الحديث العظيم، روى البخاريُّ ومسلم من حديث حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: "يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لم يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى"، قَالَ حَكِيمٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه- دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ -يَا مَعْشَرَ المسْلمينَ- عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلم يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى تُوُفِّيَ".
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: "فِيهِ ضَرْب المثَل لما لَا يَعْقِلُهُ السَّامِعُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ الْبَرَكَة إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ، فَبَيَّنَ بِالمثَالِ المذْكُورِ أَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ -تعالى-، وَضَرَبَ لَهُمُ المثَل بِمَا يَعْهَدُونَ، فَالْآكِلُ إِنَّمَا يَأْكُلُ لِيَشْبَعَ فَإِذَا أَكَلَ وَلم يَشْبَعْ كَانَ عَنَاءً فِي حَقِّهِ بِغَيْرِ فَائِدَة، وَكَذَلِكَ المالُ لَيْسَتِ الْفَائِدَة فِي عَيْنِهِ وَإِنَّمَا هِيَ لما يَتَحَصَّلُ بِهِ مِنَ المنَافِعِ، فَإِذَا كَثُرَ عِنْدَ المرْءِ بِغَيْرِ تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ كَانَ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ"( فتح الباري).
فليكنْ همكم هو في البركة في الرزق لا كثرة الملك والغنى، وافعلوا أسبابها من الكسب الحلال والبعد عن المعاصي، والتوكل على الله -تعالى-.
والبركة والمال الحلال هو التاج الحقيقي، إن ذَهَبَ سلم من تبعته، وإن بَقِيَ سعد في عوائده وبركاته، بخلاف المال الحرام، إن ذهب بقي إثمُه وحسرته، ويصير كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وإن بقي فلا تسأل عن وحشته ومره.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم