حامد محمد غانم
يزعُم هؤلاء الببغوات أن في السنة أحاديث كثيرة تخالِف العقل، والدين الإسلامي مبنيٌّ على العقل، ولا يمكن أن يكون شيء في الدين يُخالِف العقل، فما يقبله العقل فهو من الدين، وما يرفضه العقل فليس من الدين، واستدلوا على ذلك ببعض الأحاديث التي ظنّوا حسَب عقولهم القاصرة السقيمة أنها تُخالف العقل، من ذلك - علي سبيل المثال -: حديث الذبابة، وحديث الكلب، وحديث رضاع الكبير، وغيرها من الأحاديث.
الجواب:
هذه الشبهة أتفه وأقل من أن تَضيع الأوقات في الردِّ عليها، لكن حتى لا يَنطلي هذا الكلام على عوام المسلمين، فنحن مضطرُّون للجواب عنها حتى يتبيَّن الحق إن شاء الله تعالى.
لكن في البداية أحب أن أقول:
أن هذه الشبهة ليس الهدف منها إنكار حديث الذبابة أو حديث رضاع الكبير، بل إن الهدف الذي يظهر من بين السطور هو تكذيبهم لمعجزات النبي الحسيَّة وإنكارهم لها، حتى أنكر قائلهم معجزة انشقاق القمر، ومعجزة المعراج، ولو استطاع لأنكَر معجزة الإسراء أيضًا لكنه لم يجرؤ على ذلك.
أما بالنسبة للجواب عن شُبهتم التافهة هذه فأقول: سأسِّلم جدلاً أن الحديث إذا خالَف العقل يُردّ، فالسؤال: مَن الذي يحكم أن هذا الحديث خالَف العقل أم لا؟ عقل مَن سيكون الحَكَمُ، فعقلي يقبَل هذه الأحاديث ولا يرى فيها إشكالاً، وليس عقلي وحدي حتى لا يتَّهِموني في عقلي؛ بل عقل ملايين المسلمين، لا نرى إشكالاً في هذه الأحاديث، أما عقولهم فلأنها لم تَفهم هذه الأحاديث أنكرتْها، فما الضابط لهذه المسألة، هل عقلك يحكم على عقلي؟ أم عقلي يحكم على عقلك؟ أم سنحتاج إلى عقل ثالث يحكُم بيننا؟
كذلك أقول أيضًا: أنتم تَردون الأحاديث؛ لأنها تُخالِف العقل، فهل تردّون الآيات التي تُخالف العقل أم تقبلونها؟ فإن كنتم تردُّونها فاذهبوا غير مأسوف عليكم، وإن كنتم تقبلونها فلماذا تَقبلونها وهي تُخالف العقل؟!
إن قلتم: نقبَلها لأن الله هو الذي قال، فنقول: ونحن نقبل الأحاديث لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي قال وهو لا يَنطِق عن الهوى.
فعلى سبيل المثال: هل يقبل العقل أن يذهب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم يعود في جزء يسير من الليل؟!
هل يقبل العقل أن ينتقِل عرش من سبأ في اليمن إلى الشام في أقل من لمح البصر؟!
هل يقبل العقلُ أن تنزِل مائدة من السماء عليها أصناف من الطعام؟!
هل يقبل عقل أن يُقتَل غلام لا ذنب له؛ لأنه في المستقبل سيكون كافرًا؟!
هل يقبل العقل أن النار لا تَحرِق مَن يُلقى فيها فيخرج سالمًا؟!
هل يقبل العقل أن العصا تتحوَّل إلى حية تأكل ما يَعترِض طريقها؟!
هل يقبل العقل أن تكون صلاة الصبح ركعتين، والظهر أربعًا، والمغرب ثلاث ركعات، ما الحكمة في ذلك؟!
هل يقبل العقل كل ذلك؟ بالطبع لو أعملنا العقل لرددنا القرآن، ولكن أمام كل هذا لا يَملِك الإنسان إلا أن يقول: صدَق الله، ومن أصدق من الله قيلاً، والله على كل شيء قدير.
ونحن نقول: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالذي أَنزَل عليه القرآن هو الذي أوحى إليه بهذه السنة.
فالذي أسرى برسوله هو الذي عرَج به إلى السماء، والذي شقَّ البحر لموسى هو الذي شق القمر لمحمد، والذي أنزل المائدة لعيسى هو الذي كثَّر الطعام بين يدي محمد - صلى الله عليه وسلم - والذي أمر الحجرَ فانفجر بالماء لموسى، هو الذي جعل الماء ينبُع من بين أصابع محمد - صلى الله عليه وسلم.
فكما نقبل هذه الآيات مع مخالَفتها - في الظاهر – للعقل، كذلك نقبل هذه الأحاديث مع مخالفتها في الظاهر لبعض العقول.
أما عن الأمثلة التي ذكرتُها من الأحاديث التي يزعمون مخالفتَها للعقل، مثل حديث الذبابة وحديث ولوغ الكلب، فسأكتفي بالإجابة عن حديث واحد منها؛ حتى لا يطول الكلام، وإذا بَطَلت الشبهة عن واحد سقطتْ عن البواقي، ومن أراد الجواب عنها تفصيلاً فليرجع إلى أهل العلم، وسأجيب الآن عن حديث رَضاع الكبير حتى تزول الشبهة عن هذا الحديث العظيم.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن عائشة قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النّبي - صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول اللّه، إنِّي أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، وهو حليفه، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أرضعيه))، قالت: وكيف أُرضِعه وهو رجل كبير؟ فتبسَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقال: ((قد علمت أنّه رجل كبير))؛ مسلم (1453)، وأبو داود (2061).
هذا الحديث لم يَنفرِد بإخراجه الإمام مسلم؛ بل رواه أبو داود والنسائي والبيهقي وعبدالرزاق وغيرهم.
وقد طعنوا في هذا الحديث، وقالوا: هذا الحديث لا يقبَله عقل، كيف يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أن تُرضِع رجلاً كبيرًا؟ وكيف يُحرِّم هذا الرَّضاع ذلك الرجل على هذه المرأة؟ فهذا لا يقبله عقل، وأخذوا يسخرون من الحديث ويستهزئون به!
وفي الحقيقة هذا عين الجهل؛ لأنهم لم يفهموا الحديث، ولم يعرفوا سبب ورُوده، ولو علِموا لتبيَّن لهم أن هذا من رحمة الإسلام وعظمته ورحمة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم.
والجواب عن هذا الحديث من وجهين:
أولاً: هذا الحديث حالة فرديَّة خاصة، لم ولن تتكرَّر ولا يجوز تَكرارها أو الاعتماد عليها، فهذا الحديث خاص بسالم وسهلة زوجة أبي حذيفة - رضي الله عنهم - لذلك لم يَقُل به أحد من الصحابة، ولم يعمل به أحد من المسلمين باستثناء السيدة عائشة؛ فإنها رأت جواز استخدام هذه الرُّخصة لمن كان في مِثل حالة سالم وسهلة، وقد ردَّ عليها أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهن - قبل هؤلاء المُدَّعين.
ثانيًا: إذا عرفنا سبب ورود الحديث، زال الإشكال إن شاء الله تعالى، فنقول:
هذا الحديث كان حلاًّ لمشكلة - طرأ حكم شرعي وهذه المشكلة قائمة - ولم يكن ثَمَّة حَلٌّ لها غير ذلك؛ المشكلة هي أن العرب كانت عندهم عادة التبني، ولم تكن تُمثِّل لهم مشكلة، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه تبنّى زيدَ بن حارثة، وكان من ذلك أن أبا حذيفة تبنَّى طفلاً اسمه سالم، وظل يُنسَب إليه حتى كبِر في السن وهو يعيش مع أبي حذيفة في بيته، ويدخل عليه ويعيش معه ومع زوجته سهلة، ويعتبرها سالم أمًّا له، فيدخل عليها في أي وقت شاء ويتعامل معها على أنها أمه، ولم تكن تُمثِّل مشكلة لأبي حذيفة، وفجأة ينزل الأمر من الله تعالى بتحريم التبني، وأن هؤلاء الأولاد ليسوا أبناء لكم، وإنما هم إخوانكم، وبالتالي فليس له الحق أن يدخل على زوجته أو يختلي بها، فأصبح عند سالم ومُتبنِّيه أبي حذيفة وزوجته سهلة مشكلة، ماذا يفعل مع سالم؟ هل يَطرُده من البيت بعد كل هذه السنوات؟ وأين سيعيش سالم؟ وفي نفس الوقت كيف يتركه يدخل على زوجته، وقد نزل تحريم ذلك؟ فذهبت سهلة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليجد لها حلاًّ لهذه المشكلة الصعبة، فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحل الفريد، وهي أن تُرضِعه فيصير ابنًا شرعيًّا لها من الرضاع.
وكما قلت: هذه حالة خاصة لن تتكرَّر؛ لأن مَن تبنَّى أحدًا بعد تحريم التبني فقد ارتكب إثمًا عظيمًا، فلا يَصِح أن يُقدَّم له هذا الحل؛ لأن وقته قد انتهى.
أرجو أن تكون قد أُزيلت الشبهة لنقول: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وفي ختام الجواب عن هذه الشبهة أنقُل هذا الكلام الرائع لفضيلة الشيخ عبدالعظيم المطعني في رده على هذه الشبهة، يقول فضيلته:
"الممنوع عقلاً نوعان:
الأول: ما له سبب أو عِلة يتوقَّف عليها وجوده؛ فإن العقل يمنع وقوعه إذا لم يَسبِقه سببه أو عِلته، مثل الارتواء بدون شرب، والشِّبع بدون غذاء، وهكذا.
الثاني: ما ليس له سبب أو عِلَّة يتوقَّف وجوده عليها، وهذا يمنعه العقل منعًا مؤبَّدًا، ولا يحدث في المنع خلل أبدًا، وهذا ما يُسمَّى بالبداءة العقلية، أو الضرورات العقلية، مِثل تَقدُّم الوالد على ابنه في الوجود الزمني، وهكذا.
وبناءً على ما تَقدَّم، نقول بكل جزم وإصرار: إن الحديث النبوي لم يَرِد فيه مثال واحد يُخالِف حكم العقل في النوع الثاني، ومَن يدَّعي هذا فعليه الدليل، ونتحدَّى مُنكري السنة مجتمعين ومتفرِّقين أن يجدوا في السنة ما يدل على هذه المخالَفة؛ لأنه مستحيل، والمستحيل لا تتعلَّق به إرادة ولا قدرة؛ فهو - كاسمه - مستحيل أبدًا.
أما النوع الأول - وهو تَخلُّف السبب أو العِلَّة مع وجود المسبّب - فإن السنة تتفوَّق فيه على العقل ولا يكون إلا على سبيل المعجزة لنبي، أو الكرامة لولي، أو الاستدراج لشقي.
وما جعل الله هذه المعجزات الخارقة لكلِّ مألوف عقلي أو علمي إلا ليقهر بها غرورَ العقل وغُرور العلم، وإلا فماذا يملِك العقل من نَجاة إبراهيم - عليه السلام - من النار التي أضرَمها له أولياء الشيطان، ثم أَلقَوه فيها فلم تَمَسَّه بسوء قط"[1].
[1] الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة عرْض وتفنيد ونقْض أ. د. عبد العظيم المطعني ج2 ص96 ط المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بتصرف يسير.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم