عناصر الخطبة
1/مفهوم الرحمة وأهميتها 2/مقتضى الرحمة 3/نظرة الإسلام للرحمة ودعوة الناس إليها 4/حاجة البشرية إلى خلق الرحمة 5/آثار الرحمة على الفرد والمجتمع.اقتباس
الرحمة خلق شامل لجميع الكائنات؛ فما من موجود إلا وبرحمة الله يحيا، وفي ظلالها يعيش، بل إن الله -سبحانه وتعالى- خلق الرّحمة ضارِبة في جُذور المخلوقات، ومختلِطة بكيان الموجوداتِ؛ فما أحوج الناس إلى كنف رحيم، ورعاية حانية،...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: نعيش اليوم مع خلق عظيم، ووصف كريم، عظّمه الله في كتابه؛ وأمر المسلمين بالتحلي به، وهو خلق أُوتيه السعداء، وحُرمه الأشقياء، وهو ركيزة من ركائز الحياة التي تعتمِد عليها، وأساس من الأسُس التي تُبنَى منها، ومن المعاني السامية التي تُناط المنافِع والمصَالح بها؛ إنه خلق: "الرّحمة"؛ فالرحمة خلق شامل لجميع الكائنات، وما من موجود إلا وبرحمة الله يحيا، وفي ظلالها يعيش، قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف:156]، وقال -سبحانه-: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)[غافر:7].
بل إن الله -سبحانه وتعالى- خلق الرّحمة ضارِبة في جُذور المخلوقات، ومختلِطة بكيان الموجوداتِ؛ فعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله خلق الرحمة يوم خَلَقَهَا مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كُلِّهِمْ رحمة واحدة؛ فلو يعلم الكافر بكل الذى عند الله من الرحمة لم يَيْأَسْ من الجنة، ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله من العذاب لم يَأْمَنْ من النار"(متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة، كل رحمة طِبَاقُ ما بين السماء والأرض؛ فجعل منها في الأرض رحمة؛ فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، وأخَّر تسعًا وتسعين؛ فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة"(رواه مسلم).
ربي رحيم ورحمان ورحمته *** تطوي الوجود وتغني كل محتاج
ورحمة الله لولاها ما سبحت *** أرض بجو ولا جاشت بأمواج
ولا تحركت الأقمار جارية *** لمستقر بأفلاك وأمواج
من نالها فهو ناج يوم محشرة *** بها ومن لم ينلها ليس بالناجي
الرحمة -عباد الله- تعني: حالة وجدانية تعرض غالبًا لمن رق قلبه، وتكون مبدأ للانعطاف النفسي الذي هو مبدأ الإحسان.
وهي رقّة تقتضي الإحسان إلى الْمَرْحُومِ، وتبعث على إيصال الخير للغير، ويلامسها الألم حينما يدرك وجود الألم عند شخص آخر، أو يلامسها السرور حينما يدرك وجود المسرة عند شخص آخر.
أيها الناس: والرحمة من الأخلاق السامية والصفات النبيلة، وهي من جملة المكارم التي حث عليها الإسلام وأمر بالتحلي بها؛ لما لها من الأهمية البالغة والمكانة الرفيعة، وتتجلى هذه المنزلة أن الله -جل في عليائه- اتصف بالرحمة وكتبها على نفسه؛ كما قال في كتابه العزيز: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)[الأنعام: 54].
وقد أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن الرحيم الرحمن يرحم الرحماء من عباده: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"(رواه أبو داود وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"(متفق عليه).
معشر المسلمين: إن مقتضى هذه الرحمة هو: إيصال الخير إلى الغير، حتى وإن كان هذا الخير مكروهاً إليه بغيضاً على قبله، وفي ذلك يقول ابن القيم -رحمه الله-: "الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها؛ فهذه هي الرحمة الحقيقية؛ فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك؛ فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه؛ فهذه رحمة مقرونة بجهل".
عباد الله: لقد كانت بعثة النبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين؛ حيث حملت في طياتها الدعوة إلى خيري الدنيا والآخرة والتحذير من الشرور التي توجب على صاحبها الحسرة في الدارين، وصدق الله إذ قال في كتابه العزيز: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107].
ولما قامت دعوة الإسلام على الرحمة كان لزاما على المسلمين أن يتحلوا بها حتى يتحقق لهم الإيمان الكامل؛ كما في حديث عبدالله ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لن تؤمنوا حتى تراحموا"، قالوا: يا رسول الله! كلنا رحيم، فقال: "إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة"(رواه النسائي وصححه الألباني).
وكما أن الإسلام قد دعا إلى الرحمة، واعتبرها جوهر أخلاقه فكذلك نهى عن القسوة وذمها، وذم من اتصف بها أشد الذم؛ فقد قص القرآن علينا حادثة ذبح البقرة التي في بني إسرائيل ثم عقب عليها بقوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة:74].
أما أمة محمد -عليه الصلاة والسلام-؛ فهي أمة مرحومة بما أنزل الله على نبيها من الآيات والمواعظ والهدى والنور لأهل الإيمان؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[يونس:57]، وقال: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا)[الإسراء:82]، وقال لرسوله -صلى الله عليه وسلم- (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل:89].
بل عبر محمد -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه ودعوته بعبارة موجزة، فقال: "إنما أنا رحمة مهداة"(رواه الحاكم وصححه)؛ فهو رحمة مهداة من الله للعالمين عامة، وللمؤمنين خاصة، كما قال تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[التوبة:128]، وقال: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ)[التوبة:61].
ولقد عمت دعوة الإسلام إلى الرحمة جميع الخلق حتى الحيوانات؛ فأمر بالرحمة بها والإحسان إليها وعدم حبسها عن طعامها وشرابها، بل وجه إلى الرحمة بها حال ذبحها؛ كما أخبر شداد بن أوس أن حفظ من الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: ثِنْتانِ حَفِظْتُهُما عن رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قالَ: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسانَ على كُلِّ شيءٍ، فَإِذا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"(رواه مسلم).
فاللهم لك الحمد على أن جعلتنا من أمة محمد -عليه الصلاة والسلام-، واحشرنا تحت لوائه، واجعلنا من زمرته يا رب العالمين.
قلت قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
معشر المسلمين: ما أحوجنا اليوم إلى التحلي بخلق الرحمة في جميع جوانب حياتنا مع الله بالقيام بما أوجب علينا واجتناب ما نهانا عنه، ومع الخلق؛ فنرحم الضعفاء والمساكين والفقراء والصغار وكبار السن واليتامى، بل وسائر الخلائق من الحيوانات وغيرها..
عباد الله: إنّ التحلي بهذا الخلق الكريم له فوائد وآثار إيجابية على الأفراد والمجتمعات ككل؛ فمنها:
أنها تنشر المحبة بين المؤمنين وتبني جسور المودة بينهم؛ فيعيشون جسدا واحدا يشعر بعضهم ببعض ويتألم لآلام إخوانه المسلمين في كل مكان؛ كما أخبر النبي الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه-؛ فقال: "إِذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالحُمِّى والسّهر".
ومن آثارها: أنها تقوي حبال القرابة والروابط الأسرية؛ حتى ينشأ مجتمع مسلم متراحم يقض بعض أفراده إلى جوار بعض في المصائب والآلام وسائر الظروف والأحوال، وهذا لا شك من لوازم الإيمان ومظاهر اكتماله المقتضي وجوب حمل المسلم هموم إخوانه ومساهمته بالتخفيف عنهم؛ فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
فتراحموا -يا عباد الله- وانشروا هذا الخلق العظيم تنالوا رحمة ربكم في الدنيا والآخرة؛ جعلنا الله وإياكم من عباده الرحماء، وأدخلنا في رحمته التي وسعت كل شيء؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه؛ حيث أمركم الله في كتابه العزيز؛ فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم