عناصر الخطبة
1/منزلة الذكر وأهميته 2/بعض فضائل الذكر وثمراته 3/يسر وسهولة عبادة الذكر 4/الذكر الحقيقي وماهيتهاقتباس
الذكر إنقاذ للنفس من أوصابها وأتعابها, بل هو طريق ميّسر مختصر إلى كل فوز وفلاح, طالع دواوين الوحي لترى فوائد الذكر, وجرب مع الأيام بلسمه لتنال الشفاء. بذكره سبحانه تنقشع سحب الخوف والفزع, والهم والحزن. بذكره...
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: في زمن طغت فيه الحضارة والمدنية, أشغلت الدنيا الناس، وألهتهم الأموال والمناصب، أغرتهم ملذاتها فانساقوا خلفها لاهثين, تعلقت قلوبٌ بالشهوات وتربعت على كثير من العقول الشبهات، قليلون أولئك الذين يقفون مع أنفسهم ليراجعوها ويتأملوا في إعراضها وغفلتها، إنه والله داء الغفلة، غفلة القلب عن أخراه, وإخلاده إلى الدنيا وهواه, تمر عليه الليالي والأيام وهو مريض لا يعلم أنه مريض, عليل لا يدري ما علته, بل ربما ميت وإن نبض قلبه بروح الحياة, قلب تسكن أرجاءه الظلمة، يبدو في أعين الناس وكأنه سعيد, والسعادة عنه بمعزل, تعلو محياه الضحكات والبسمات, وعند أدنى امتحان يظهر الهم والغمّ والألم والمرض النفسي، إنه صدأ القلوب الذي لا يجلوه إلا ذكر الله, ذكر الله -سبحانه- جنة الله في أرضه, من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
الذكر إنقاذ للنفس من أوصابها وأتعابها, بل هو طريق ميّسر مختصر إلى كل فوز وفلاح, طالع دواوين الوحي لترى فوائد الذكر, وجرب مع الأيام بلسمه لتنال الشفاء.
إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ *** ونترك الذكر أحيانًا فننتكس
بذكره سبحانه تنقشع سحب الخوف والفزع, والهم والحزن. بذكره سبحانه تنزاح جبال الكرب والغم والأسى.
ذكر الله -سبحانه- يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
ولا عجب أن يرتاح الذاكرون, ولكن العجب العجاب كيف يعيش الغافلون الساهون عن ذكره: (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل: 21].
وقد علمنا الله -سبحانه- أن قلة الذكر من وصف أهل النفاق، فقال: (وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء: 142].
زين الله بالذكر ألسنة الذاكرين, كما زين بالنور أبصار المبصرين, فاللسان الغافل كالعين العمياء, والأذن الصماء، واليد الشلاء.
والذكر يجلو العمى عن قلب صاحبه *** كما يجلي سواد الظلمة القمر
الذكر قوت القلوب، والسبب الواصل إلى علاّم الغيوب. الذكر باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده, ما لم يغلقه العبد بغفلته, فالذكر يورث الذاكر القرب من الله, فعلى قدر ذكره لله -عز وجل- يكون قربه منه، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله وعليه وسلم-: "يقول الله -عز وجل-: أنا عند ظن عبدي بي, وأنا معه حين يذكرني, إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"، والله يقول: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)[البقرة: 152]، قال ابن القيم: "ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها (يعني أن الله يذكر من ذكره) لكفى بها فضلاً وشرفًا".
ألا ما أشد الغفلة والإعراض عن خير العمل, وأزكاه عند الرب, وأرفعه في الدرجات وخير من إنفاق الذهب والفضة, بل وخير من الجهاد في سبيل الله، إنها الخسارة العظيمة, والغبن والهزيمة، يوم يَحرم المرء نفسه هذا الفضل العظيم، في الحديث الصحيح: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إنفاق الذهب والوِرق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: بلى, قال: "ذكر الله -تعالى-".
الذكر حياة وتركه هو الموت في الصحيحين: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت".
والذكر به تحيى القلوب كما *** تحيا البلاد إذا ما جاءها المطر
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك, فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء".
الذاكرون لله كثيرا هم السابقون يوم القيامة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبق المفردون" قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات" (رواه مسلم)، وفي بعض ألفاظ الحديث: "الذين يهترون في ذكر الله، يضع الذكر منهم أوزارهم وخطاياهم؛ فيأتون يوم القيامة خفافا".
فذكر الله يحط الخطايا ويذهبها، في صحيح مسلم: "ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه, ولو كانت مثل زبد البحر".
ذكر الله يطرد الشيطان، ويرضي الرحمان، ويقوي القلب والبدن، وينور الوجه، ويجلب الرزق، ويورثه المحبة التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة والنجاة. ذكر الله أعظم من مناجاة الحبيب لحبيبه، بل هي أعلى درجات المحبة ولذة العبودية.
والله ما طلعت شمس ولا غربت *** إلا وحبك مقرون بأنفاسـي
ولا جلست إلى قـوم أحدثهـم *** إلا وأنت حديثي بين جلاسي
قال ابن القيم -رحمه الله-: "الذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم"، وقال: "وأفضل الذكر وأنفعه، ما واطأ فيه القلب اللسان وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانيه ومقاصده".
الذكر أيسر العبادات وأسهلها، والموفق من وفقه الله؛ ففي الحديث الصحيح: أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله وعليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله".
دوام ذكر الرب -تبارك وتعالى- يوجب الأمان من نسيانه سبحانه، نسيانه الذي هو سبب الشقاء في المعاش والمعاد: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)[طـه: 124-126].
عجيب هذا الإنسان الكون من حوله يسبح, الطير في الهواء, والحوت في الماء, النملة في جحرها, الدواب والشجر, الجبال والحجر, الهواء والماء, الأرض والسماء: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[الإسراء: 44].
ويبقى هو أسير الغفلة والهوى, صريعَ الجهل والنسيان، إن حكم الله بيّنٌ واضح في الغافلين الساهين: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ)[الزخرف: 36-37].
الخطبة الثانية:
الذكر ليس ساعة مناجاة محدودة في الصباح أو المساء، ينطلق العبد بعدها في أرجاء الأرض يعبث كما يشاء ويفعل ما يريد.
الذاكر لله حقيقة هو ذاك الذي يراقب ربه في كل حال، وحيثما كان، يذكر الله فيضبط الذكر سلوكه، ويشعره بضعفه البشري، فيستعين بربه في كل ما يهمه.
الذكر الحقيقي الصادق هو ذاك الذي يبدأ من أول الصباح بخطوات السكينة والوقار إلى المسجد؛ ليقف المسلم متبتلاً خاشعاً بين يدي ربه: وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِى ، ثم في النهار له سبح طويل، لا يفارقه ذكر الله في كل أحواله وتحركاته أذكار للدخول والخروج والتنقل والسفر، وأذكار للطعام والشراب، والنوم والاستيقاظ، والمتاعب والمصاعب، والصحة والسقم، أذكار للدنيا وهمومها، والديون ومغارمها، ذكر في طلب المعاش، ومقاربة الأهل، وصلاح الذرية، أذكار وتسبيحات ودعوات وابتهالات، أولئك هم أولو العقول والألباب الذين يذكرون الله على كل حال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 190 - 191].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم