الذكاء الاصطناعي والكتابة

أحمد بن عبد المحسن العساف

2025-12-21 - 1447/07/01
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

أهمية تعلم حسن استخدام الذكاء الاصطناعي كي يغدو خادمًا تابعًا معينًا لا سيدًا يفرض نظرته ويوجب على الكاتب رفع القبعة له! من ذلك تحديد صفة الذكاء الاصطناعي، وصفة المستخدم، وإمداده بنماذج تحاكى، وبيان الممنوعات والمزالق له كي لا يقع فيها؛ ذلك أنه بلا عقل في النهاية!...

لم تكن الكتابة يومًا مجرّد صفٍ مرتب للكلمات، بل كانت دومًا فعلًا من أفعال الوعي والتأثر والتفكير. كانت الكتابة نافذةً يطلّ منها الإنسان على نفسه والعالم. ومنذ فجر التاريخ، ظلّ الكاتب هو الشاهد الذي يدوّن باللغة التاريخ والمجتمع والفكر والعاطفة، ويحوّل التجارب إلى معاني، ويجمع المتشابه، ويوضح المختلف. لكن مع بزوغ الذكاء الاصطناعي، تغيّر المشهد جذريًا؛ فقد دخل الذكاء الاصطناعي في ميدان الكلمة بقوّةٍ قادرة على التوليد والتحليل والتعبير، حتى بزغ السؤال ملحًّا: هل ما زالت الكتابة فعلًا إنسانيًا خالصًا؟

 

لذلك؛ ففي زمنٍ تتحدّث فيه الآلة بلغة البشر، لم يعد التحدّي هو الإتقان اللغوي، بل الحفاظ على الصوت الإنساني وسط ضجيج آلات وتقنيات وتطبيقات وأداوت. يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يصوغ نصًّا متماسكًا، لكنه لا يستطيع أن يصف دهشة طفل، ولا حنين شيخ، ولا توتّر عاشق، ولا حيرة فيلسوف، ولا تردد مغامر. إنه يُجيد التوليد، لكنه لا يملك التجربة، لإنه يحسن التجميع، لكنه قد لا يوفق في المواءمة. من هنا، تنبع أهمية هذا المقال الذي يحاول أن يدرس العلاقة المعقّدة بين الكاتب والآلة، بين العقل الطبيعي والعقل الصناعي، بين ما يُكتب بالذاكرة، وما يُنتَج بالخوارزمية.

 

ليس الغرض -أيها الكاتب والكاتبة- أن تُدين الذكاء الاصطناعي أو تُمجّده، بل أن تكشف عن حدود المشاركة والتمايز بين الإنسان وصنعته من جهة، وبين منصات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته من جهة أخرى، ثمّ تسأل بهدوء وتعمّق: هل يمكن أن تظلّ الكتابة فعلًا بشريًا حيًّا في عالم صارتٍ تتولّى الكتابة فيه آلاتٌ لا تعرف الحياة ولا معناها الذي يساكنك وتساكنه؟ وكيف يمكن للكتّاب الإفادة من هذا الوافد الضخم دون ذوبان، ودون إسكات لأصواتهم بما فيها من بهجة أو حزن أو انفعال، وبما فيها من صخب الألم، أو سكون المفاجأة، أو بسمة البشرى؟

 

بناء على ذلك؛ فهذه محاولة للنظر في علائق الإنسان الكاتب بالذكاء الاصطناعي من عدة زوايا. هي محاولة أولية بعد قراءة وسؤال وتجربة. هي محاولة لا تهدف إلى الجزم برأي، ولا تغلق بابًا، وإنما تفتح عدة نوافذ، وتترك الفرصة للكاتب والكاتبة بأن يختار منها ما يشاء، مع استصحاب التساؤل والمخاوف والمحاذير وغير ذلك. هي محاولة لجعل هذا الفتح التقني وسيلة إضافية يمتكلها الكاتب، ومصدرًا يزيد في مصادره، دون أن يتعدى الذكاء الاصطناعي هذا الحد، أو أن يعتدي على العقل والروح.

 

أولًا: من الفوائد التي يقدّمها الذكاء الاصطناعي للكاتب:

تسهيل الوصول إلى المعلومات والملخصات البحثية.

 

القدرة على الربط بين العصور والحضارات واللغات بنتائج أحدثت ثورة في مفهوم الذاكرة والمعرفة والثقافة.

 

تطوير البنية اللغوية للنصوص وتجويد الصياغة.

 

تحفيز التفكير الإبداعي وفتح آفاق جديدة للتعبير واستحداث المعاني والروابط.

 

المساعدة في التحرير والتحليل اللغوي والمنطقي.

 

يعين على تجاوز الجمود الذهني أو الانغلاق الأسلوبي، إذ يُلقي أمام الكاتب خيارات لغوية وأسلوبية متنوّعة تفتح آفاقًا جديدة للكتابة.

 

ثانيًا: المخاطر الكامنة من الإفراط باستخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابة:

 

ضمور الأصالة وفقدان البصمة الأسلوبية الخاصة.

غياب العمق العاطفي والوجدان الإنساني.

 

تسطيح الفكر وتحويل الكتابة إلى عملية تجميع.

 

ضعف المصداقية العلمية للمعلومات أو الخطأ الفاحش فيها.

 

التحديات الأخلاقية والنزاهة الفكرية.

 

تراجع الحسّ اللغوي لدى الكاتب.

 

إلغاء الفروق بين الكتّاب حسب العمر والجنس ومستوى الثقافة ونوع الاهتمام؛ إذ يصنع لغة عابرة للهوية، هذه اللغة قد تُسهم في تسهيل التواصل العالمي، لكنها أيضًا تُهدّد الإثراء الناجم عن الفروق البشرية.

 

ثالثًا: مشاركة الذكاء الاصطناعي في إعادة الصياغة والتحرير:

 

من محاسنها:

إعادة ترتيب النصوص، وتوحيد الأسلوب، وتحسين الاتساق.

 

الكشف عن نقاط الضعف في البناء المنطقي واللغوي للنص.

 

تقديم مقترحات نافعة حسب المدخلات ومطالب الكاتب منه.

 

من مساوئها:

طمس صوت الكاتب وخصوصيته.

تحوير المعاني دون وعي دقيق بالمراد.

إضعاف المهارة التحريرية للإنسان.

استخدام تشبيهات وتراكيب غير رزينة وربما مضحكة.

رابعًا: كيف يحافظ الكاتب على صوته الخاص؟

 

أن يكتب من تجربته لا من بيانات مستوردة عبر الذكاء الاصطناعي.

 

أن يستخدم الذكاء الاصطناعي مثل المرآة العاكسة وليس على أنه قالب جاهز.

 

أن يدافع عن انحرافه الجميل في اللغة الذي يعبر عنه ويصف شخصيته؛ فالذكاء الاصطناعي قد يمرر مسطرته على النص بما يفقده الحيوية.

 

أن يراجع مدخلات الذكاء الاصطناعي بوعيٍ نقديّ بعد كل تدخل؛ فالتسليم للآلة يعني نهاية الكاتب!

أن يحتفظ بعلاقته مع الصمت والتأمل بعيدًا عن الضجيج الرقمي الذي يحفز على كثرة الكتابة اعتمادًا على خوارق قدرة الذكاء الاصطناعي، وما أحوج الكاتب للعزلة.

 

أن يعي الكاتب الحدود الفاصلة بينه وبين التقنية كي يبقى حاضرًا في دهاليز التقنية دون أن يذوب.

 

أن يتعامل الكاتب مع الذكاء الاصطناعي بحذر وتوجس وشك لا يحول دون الاستفادة بيد أنه يمنع من الانقياد.

 

خامسًا: المستقبل المتوقع للذكاء الاصطناعي مع الكتابة:

 

قد تتطور هذه التقنيات المذهلة، ويتغير موقعها من مجرد المساعدة إلى حقيقة المشاركة.

 

ربما تنتقل الكتابة من صفة الفردية الخالصة إلى نوع من الكتابة التعاونية؛ فإذا أمكن إنكار شيطان الشعر، فقد تصعب دعوى البراءة من تدخلات الذكاء الاصطناعي، ولله في خلقه شؤون.

 

سوف تصبح الكتابة وإنتاج المعرفة أسرع مما مضى، وسيدخل إلى هذا المضمار أشخاص أكثر من السابق، وبتأهيل أقل.

 

ربما يزيد الإتقان على حساب الصدق، وتزداد السرعة دون ارتفاع يقابلها في الوعي.

 

سادسًا: مقترحات عملية تفيد الكاتب وتحمي الكتابة:

 

أهمية تعلم حسن استخدام الذكاء الاصطناعي كي يغدو خادمًا تابعًا معينًا لا سيدًا يفرض نظرته ويوجب على الكاتب رفع القبعة له! من ذلك تحديد صفة الذكاء الاصطناعي، وصفة المستخدم، وإمداده بنماذج تحاكى، وبيان الممنوعات والمزالق له كي لا يقع فيها؛ ذلك أنه بلا عقل في النهاية!

 

من مفردات هذا التعلّم بواسطة الذكاء الاصطناعي إجادة صناعة السؤال، ووضع الشروط، ومناقشة المنتج بوعي، ونقده بعلم، فما أحسن المحاور الهادئ الذي ينصت لك، ولا يرفع صوته عليك، ويجيبك كلما استزدته، مثل الذكاء الاصطناعي.

 

إعمال المزاوجة بين الدقّة الرقمية والسعة الهائلة في المعلومات، وبين الحدس الإنساني والقدرة على فهم طبيعة البشر والأحداث.

 

يجب أن يصبح الكاتب مخرجًا لا ناسخًا؛ يعيد تنظيم ما يقترحه الذكاء الاصطناعي، ويحوّله من نصٍّ محتمل إلى نصٍّ فريد يحمل بصمته الخاصة قابل للنشر.

 

على الكاتب أن يوازن بين الإلهام الاصطناعي والصوت الداخليّ، وبين النصّ الجاهز والبحث عن المعنى الأصيل.

 

سابعًا: التحدّي الأخلاقي والوعي النقدي:

عندما يُسند الكاتب إنتاج النصوص إلى آلة، تبرز أسئلة أخلاقية:

 

من صاحب النص؟ من يتحمّل مسؤوليته الفكرية والمعنوية؟

 

هل يمكن اعتبار نصٍّ أنتجه الذكاء الاصطناعي ملكًا فكريًا للكاتب؟

 

هل من المقبول أن ينشر كاتب نصًّا لم يكتبه فعليًا ويربطه باسمه؟

 

هل سيظلّ الكاتب أمينًا لرسالته التي تستلزم الابتكار، أم يتحوّل إلى مجرّد “مُشغّل” للآلة؟

 

هل سيظل الكاتب المسؤول عن توجيه اللغة، أم ستصبح اللغة -عبر الآلة- هي من توجهه؟

 

إن أخطر ما في الذكاء الاصطناعي أنه قد يُغري الكاتب بالسهولة، فيستبدل الجهد المضني بالجاهز المتاح بضغطة واحدة، ويتقاعس عن البحث أمام إغراء النسخ. لكن الكاتب الواعي يدرك أن الذكاء الاصطناعي لا يمنحه الحكمة، بل يضعه أمام امتحانها. على الكاتب أن يسائل النصّ الناتج، أن يُعيد تأويله، وأن يرفض ما لا ينسجم مع منهاجه الفكري؛ فالكتابة ليست مجرد إنتاج، بل مسؤولية أخلاقية تجاه اللغة والحقيقة معًا. وهنا يظهر الذكاء الاصطناعي على أنه أداة تعكس وعي الكاتب ولا تصنعه.

 

الكتابة، في أصلها، ليست فعلًا ميكانيكيًا، بل تجربة وجودية بين الإنسان ولغته؛ مساحة يختبر فيها قدرته على ترتيب الفوضى الداخلية وتحويلها إلى معنى. وحين دخل الذكاء الاصطناعي هذا الفضاء، لم يكن دخوله طارئًا، بل أصبح امتدادًا طبيعيًا لمسار الإنسان في البحث عن أدواتٍ تُعينه على الفهم والإبداع. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد آلة تولّد نصوصًا، بل هو ذاكرة بشرية ضخمة جُمعت فيها آثار آلاف العقول، ثم صيغت في بنيةٍ قادرة على المحاكاة والتحليل والتأليف. وعندما يستخدمه الكاتب الواعي، فإنه لا يستعين بجهازٍ جامد، بل يتحاور مع صوتٍ خفيّ يحمل أثر الإنسانية ذاتها.

 

وسيبقى مستقبل الكتابة مرهونًا بقدرة الكاتب على أن يستخدم الذكاء الاصطناعي مثل جسر يعبر فوقه وليس وسيلة تعمل بديلًا عنه؛ بل أداة يعلّمها الكاتب كيف تخدم الفكرة، دون أن تقودها. فحين تظل اليد التي تكتب هي يد الإنسان، والعقل الذي يوجّه هو العقل المتأمل، سيبقى النصّ البشريّ شاهدًا على أن الروح تسبق الخوارزمية دائمًا. وهكذا، في زمنٍ يزداد ذكاؤه الاصطناعي، تثبت الكتابة أنها الفعل الأخير للإنسانية الصرفة، ذاك الأثر الذي يربط بين روح المرء ومشاعره وعقله وجوارحه ومداد قلمه، ويذكّرنا أن كل كلمةٍ تولد في الوعي البشريّ، هي جزء من مقاومةٍ هادئة ضد النسيان وضد الأخطاء… وضدّ اقتحام الذكاء الاصطناعي أيضًا…

 

عند ختام التأمل في علاقة الإنسان بالذكاء الاصطناعي، ندرك أن المسألة لم تكن صراعًا بين الكاتب والآلة، بل حوارًا بين شكلين من الوعي: وعيٍ يشعر فيكتب، ووعيٍ يجمع فيُنتج. وإذا كان الذكاء الاصطناعي قد استطاع أن يتقن اللغة، فإنه لم يستطع أن يسكنها؛ فاللغة ليست حروفًا تتجاور، بل حياة تتذكّر وتُخطئ وتتعلم وتحنّ وتنصف وقد تتجنى. الكتابة الحقيقية، ليست في إتقان الصياغة فقط بل في صدق التجربة وشدة حرارتها. فالآلة تعرف القواعد، لكنها لا تعرف الخوف، ولا الأمل، ولا الانتظار الطويل الذي يجعل الجملة تنبض بالمعنى، ويجعل للكلمة روحًا تسري. إن الذكاء الاصطناعي يكتب ليكمل الوظيفة مستجيبًا للأمر، أما الإنسان فيكتب ليكمل نفسه مستجيبًا لوخزة الكتابة الداخلية.

 

إني أتخيل هذا المنظر: في المقاهي المستقبلية، يجلس الكتّاب والمثقفون -أو بعضهم-، لا يحملون معهم الأقلام والأوراق والكتب، بل أجهزة صغيرة، وشرائح رقمية صغيرة تسجل خواطرهم، وتحوّلها من فورها إلى نصوص منظّمة بعد الإضافة عليها وتحريرها، غير أن الكاتب الحقيقي بينهم -ذاك الذي يكتب بأصابعه على الورق أو على شاشة زجاجية- سيُنظر إليه بإعجاب مثير للفضول، كما يُنظر إلى آخر الحرفيين المهرة في مدينةٍ غارقة في التقنية والصناعة والآلة.

 

وسوف يكتب الكاتب بثبات وصبر وإصرار لا ليثبت مهارته فقط، بل ليثبت وجوده، لأن الآلة تستطيع أن تقلّد كل شيء، إلا الصدق الذي يخرج من جرحٍ قديم أو حلمٍ لم يتحقق. سيبقى الكاتب هو الكائن الذي يكتب لا لأنه يعرف، بل لأنه يشعر بالحيرة ويعترف بها. وسيظلّ الذكاء الاصطناعي، مهما تطوّر، يكتب بنبرة الواثق؛ أما الكاتب فسيكتب بنبرة المتسائل، ولهذا وحده… سيبقى الإنسان هو الكاتب الأخير، وهو صاحب السلطة الأكيدة النافذة على نصه!

 

ahmalassaf@

 

الثمامة- الرياض- السبت 29  من شهر جمادى الآخرة عام 1447

 

20 من شهر ديسمبر عام 2025م

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات