اقتباس
على الدعاة التركيز على توضيح دور الإسلام في ترشيد قضية الوطنية بتوجيه طاقات الولاء للوطن ومشايعة أهله لصالح خدمة قضية الإسلام الكبرى وخدمة المجتمعات المسلمة، وإيجاد المعنى الأوسع للأمة الإسلامية، بحيث تكون الوطنية متجاوزة الأطر والحدود المصطنعة منذ أيام الاحتلال الغربي للعالم العربي والإسلامي، وإبراز النماذج الخيّرة الوافرة في تاريخ الأمة التي تعلم الناس معاني الاستقامة والبذل والتضحية ..
من القضايا الهامة التي تشغل بال كثير من المهتمين بشئون الأمة والدعاة المخلصين، قضية التعامل مع التطور الحادث في المفاهيم الثقافية التي تحتل مساحة كبيرة من حياتنا الاجتماعية؛ إذ يقع على عاتق الدعاة مسئولية كبرى تجاه الارتقاء الفكري والمعرفي والثقافي لأبناء الأمة الإسلامية، تماما مثل مسئوليتهم تجاه البناء الإيماني والعقدي والتعبدي لأبناء الأمة، ومن ثم كان واجبا عليهم أن يعيدوا صياغة الكثير من المفاهيم والمصطلحات التي تحرفت وتسطحت في الأذهان وانتهكت كثيرا عبر التاريخ، بفعل الغزو الثقافي وأثر الاحتلال العسكري لبلاد الإسلام لعشرات السنين.
ومسألة الحفاظ على النسخة الأصلية للمفاهيم والمصطلحات ليست هينة أو ثانوية كما يعتقد جمع من المشتغلين بالدعوة استسهالا منهم لهذه القضية المحورية التي نفذ منها أعداء الأمة فسطوا على مصطلحاتنا ومفاهيمنا وأعادوا تدويرها وقولبتها بما يتماشى مع أهدافهم وأغراضهم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي من أهم أولويات الدعاة في مرحلة البناء الثقافي والعقلي لجماهير المسلمين، وآفة تهجين المفاهيم والتصورات من آفات الشعوب جميعها، حيث يعمل الخيال الشعبي على صياغة رؤى الناس وتشكيل معارفهم وخلفياتهم الثقافية، ومشكلة الخيال الشعبي أنه يسكّ المفاهيم والرؤى والأفكار التي تحمل خاصية الانتشار وسهلة المأخذ وذلك بالتأكيد على حساب صحتها وعمقها (1) .
فالمفاهيم أسماء ومفاتيح المعرفة والثقافة والوعي العام، وهي تحمل -فضلاً عن دلالتها اللغوية والاصطلاحية- تاريخها الخاص ومشفوعة بشحنة أيديولوجية مصدرها الأنساق والخطابات التي اندرج فيها، واكتسب من كل نسق أو خطاب دلالة خاصة غلبت عليه في حين من الأحيان أو في كثير منها فلا يكاد يعرف إلا بها (2).
وتفرض ضرورة ضبط المفاهيم؛ تحرير المفاهيم الأساسية التي شاعت بشأن قضايا الفكر والاجتماع والعلاقات الإنسانية مما علق بها من مضامين ومعانٍ تخالف حقيقتها؛ لأن الكلمات نفسها كأداة للتعبير وإطار للمعاني تحمّل بمدلولات فكرية ونفسية تلقي بظلالها على عقل وقلب السامع والقارئ؛ فاللغة التي تحرر بها المفهوم أو المصطلح هي جوهر التفاعل الحضاري ومن أهم محددات هوية أي أمة؛ ودليل وجودها المادي، ومن ثم فإن من أهم ما يتصل بقضية تحرير المفاهيم هو عدم قبول المفاهيم الغربية الثقافية والاجتماعية كما وفدت إليها؛ لأنها محملة بمسَلَّمات فكرية وأسس فلسفية وخلفيات معرفية نابعة من البيئة الحضارية التي أفرزتها، ذلك أنه من المسَلَّم به أن كلمات اللغة التي تنطق بها الأمة هي أفكارها وقيمها ومنهجها في الحياة، وهى ذات صلة عميقة بعقيدتها وتصوراتها الكلية للإنسان والكون والحياة (3)، وعلى هذا فإن مفاهيم الغرب لا يمكن فصلها عن ملابساتها الفكرية وسياقاتها الحضارية والتاريخية، ولا يمكن التعامل مع المفاهيم والمصطلحات الخاصة بمجال الفكر والشأن الاجتماعي كما نتعامل مع ألفاظ الاختراعات وأسماء الأشياء.
ومن خلال تجربتنا الثقافية في مرحلة ما بعد الاحتلال الغربي لبلادنا نستطيع أن نقول أن كثيرا من مفاهيمنا في حاجة ماسة للنظر والمراجعة خاصة تلك التي تلعب دورا محوريا في حياتنا الاجتماعية والثقافية والتي أصبحت بمثابة المفاهيم والمصطلحات السيادية التي باسمها وتحت رايتها ضُلل كثير من الناس، حتى نحرر أنفسنا وعقولنا من أوهام الموروثات الثقافية الدخيلة التي تسربت لبيئتنا الفكرية وحلت بساحتنا الثقافية على ظهور الدبابات والطائرات التي قصفت بلادنا وعقولنا معا.
مفهوم الوطنية وعلاقته في الأمة مع غيره من المفاهيم الاجتماعية الإسلامية من المفاهيم التي تعتبر مثالا جليا للحاجة الماسة إلى دور الدعاة في تطويع هذه المفاهيم ونقلها من طور الغريزة إلى طور العقل، فمفهوم الوطن هو في الأساس مفهوم غريزي متغلغل في وجدان كل الكائنات كلها وليس البشر وحدهم، فللوطن عبقرية فذة قادرة على توليد عشرات الأفعال والمشاعر والمواقف، ويحتوي باقتدار كافة الثقافات والخلفيات لكل الأفراد القاطنين في هذا الوطن، ولكن مفهوم الوطنية على مدار التاريخ ارتبط ارتباطا شرطيا بالكثير من الظواهر السلبية وعانى من معضلات اجتماعية وأخلاقية عديدة منها:
1- فوضى المشاعر؛ فقد استقر في أذهان القاطنين بالوطن حبه ومناصرته والاندفاع للبذل والعمل من أجله وذلك دون وعي أو تنسيق في غالب الأحوال، وهذا بالقطع يؤدي لمفاسد كثيرة ومصالح قليلة، فاجتماع الناس بعضهم مع بعض وبأعداد كبيرة تولّد توترات كثيرة لتصادم المصالح الفردية والخاصة، وإذا لم يتوافر الحد الأدنى من الفهم الصحيح لمعنى المواطنة، ستتقطع المصالح وتتضارب الجهود وتضيع الطاقات والضحية في النهاية هو الوطن نفسه.
2- الحب المتطرف للوطن والتعلق بكل ما فيه، والحرص الشديد على عدم مغادرته مهما كانت الأسباب والدوافع، وهو ما جاء الإسلام بتجاوزه والارتفاع على كل أواصره عندما أمر أتباعه بالهجرة فرارا بالدين في سبيل الله، قال عز وجل (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) [ النساء100]، ولم يقبل عذر المتخلفين عن الهجرة فقال سبحانه: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قال كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ..) [ النساء 97]، ونعى الله عز وجل على المنافقين تشبثهم بالوطن ورفضهم إتباع أوامر الله؛ فقال: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم واخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فهلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) [ النساء 66].
وعبر التاريخ رأينا العديد من النماذج التي آثر أهلها البقاء في أوطانهم رغم كل ما يتعرضون إليه من اضطهاد وابتلاء وتضييق حتى ذابت عقيدتهم وهويتهم وطواهم النسيان، ومن أشهر هذه النماذج مسلمو الأندلس الذين بقوا فيها بعد سقوط غرناطة، حيث تعرضوا لأقسى حملات الاضطهاد والتنكيل لصرفهم عن دينهم، فهاجر الكثيرون منهم في حين غلب حب الوطن على البقية فمكثوا في أوطانهم حتى أجبروهم على التنصر والتخلي عن لغتهم العربية وهويتهم الإسلامية والقومية، وأصبحوا في النهاية أسبان خُلص .
3- الولاء الأعمى لشركاء الوطن ومشايعتهم التامة في الخطأ والصواب، وبهذا الولاء يقترب مفهوم الوطنية كثيرا من مفهوم العصبية القبلية في الجاهلية الأولى، والتي ترجمها الشاعر العربي القديم دريد بن الصمة بقوله :
وما أنا إلا من غُزيّة إن غوت *** غويت وإن ترشد غُزيّة أرشد
والعصبية القبلية كانت من ألد أعداء الدعوة وأقوى خصومها وعانى الداعية الأول صلى الله عليه وسلم منها كثيرا، ومكث الرسول شطرا كبيرا امتد لأواخر حياته في بناء الشخصية الإسلامية السوية التي تجعل ولاءها وبراءها لله ولرسوله وللأمة بمفهومها الأوسع والأرحب بعيدا عن الآصر الضيقة للعصبية القبلية والقومية، وفي الحديث: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " فقال رجل: يا رسول الله أنصره إن كان مظلوما؛ أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ فقال: " تحجزه عن الظلم؛ فإن ذلك نصره " تكريس لمفهوم أخوة الوطن بالمنظور الإسلامي لا الجاهلي، وتمثل صياغة جديدة للمشاعر والمواقف، والحضارة الغربية تعمل على بناء المواطن الصالح وليس الفرد الصالح، وهذا النهج التربوي المعوج أدى لاندلاع حربين عالميتين في العصر الحديث راح ضحيتها ملايين المواطنين الصالحين !الذين دخلوا حربا بلا مبرر شرعي ولا دافع أخلاقي ولا اقتناع عقلي، دخلوها لا لشيء إلا لأن أوطانهم دخلوا هذه الحرب.
4- التعصب الشديد للجنس والقومية؛ وهو التعصب الذي أفرز قديما فرقة وتشتتا بين القبائل العربية فيما بينها، وبين العرب والفرس والترك وسائر الأجناس، وحديثا أفرزت حركات قومية وعنصرية بالغة التطرف في تمجيد العنصر والجنس واحتقار الآخرين، مثل حركة النازية التي عادت تطل برأسها بعد عشرات السنين في عقر دار الحضارة الغربية فظهرت حركات النازيين الجدد وحليقي الرؤوس، وتداعيات هذا التعصب ما زالت تؤثر في الفكر العربي وتجد لها أنصارا وصدى من مثقفين ومفكرين يروجون لبضاعة القومية العربية الراكدة ويحاولون إحياء مواتها في حياتنا الثقافية.
على الدعاة التركيز على توضيح دور الإسلام في ترشيد قضية الوطنية بتوجيه طاقات الولاء للوطن ومشايعة أهله لصالح خدمة قضية الإسلام الكبرى وخدمة المجتمعات المسلمة، وإيجاد المعنى الأوسع للأمة الإسلامية، بحيث تكون الوطنية متجاوزة الأطر والحدود المصطنعة منذ أيام الاحتلال الغربي للعالم العربي والإسلامي، وإبراز النماذج الخيّرة الوافرة في تاريخ الأمة التي تعلم الناس معاني الاستقامة والبذل والتضحية، وإبراز قيمة العدل المطلق في الثقافة الإسلامية بكل مستوياته ومظاهره وصوره التطبيقية، دون ذلك كله تظل قضية الوطنية من معوقات نهضة الأمة وحائلا دون الوحدة والالتحام بين صفوف المسلمين، مما يوهن قابلية الأمة للصمود لغارات أعدائها التي لم ولن تتوقف حتى تشرق الشمس من مغربها.
------------------
(1) المشروع الحضاري ـ د/ عبد الكريم بكار ص 140
(2) تحرير المفاهيم ـ د/ عمرو عبد الكريم ـ مقالة بموقع المصريون
(3) العروبة الجديدة ـ جاد الكريم الجباعي
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم