الخليل عليه السلام (11) (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى)

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2025-01-03 - 1446/07/03 2025-01-01 - 1446/07/01
عناصر الخطبة
1/فضل الله على البشر باصطفائه رسله 2/بعض صفات الخليل إبراهيم عليه السلام 3/دحض مزاعم اليهود والنصارى أنهم أولى بإبراهيم عليه السلام

اقتباس

مُحَاوَلَةُ خَلْطِ الْأَدْيَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، أَوِ ادِّعَاءُ أَنَّهَا صَوَابٌ كُلُّهَا، أَوِ الِانْتِقَاءُ مِنْهَا وَمِنَ الْإِسْلَامِ لِتَشْكِيلِ دِينٍ جَدِيدٍ؛ كُلُّهَا مُحَاوَلَاتٌ بَائِسَةٌ لِطَمْسِ الْإِسْلَامِ وَوَأْدِهِ، وَمَصِيرُهَا إِلَى الْفَشَلِ وَالْخُسْرَانِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللَّهِ -تَعَالَى- مَحْفُوظٌ بِحِفْظِهِ -سُبْحَانَهُ-...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ فَضْلِ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى الْبَشَرِ، وَرَحْمَتِهِ -سُبْحَانَهُ- بِهِمْ، وَهِدَايَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُمْ؛ اصْطِفَاؤُهُ خِيَارَهُمْ وَكُمَّلَهُمْ لِيَكُونُوا رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ، فَيَدُلُّوهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَيُقِيمُوا عَلَيْهِمْ حُجَّتَهُ؛ (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[الْحَجِّ:75]، وَلِأَنَّ الرُّسُلَ أَكْمَلُ الْبَشَرِ فِي عُقُولِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَسَمْتِهِمْ كَانُوا قُدْوَةً لِلنَّاسِ؛ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الْأَنْعَامِ:90].

 

وَالْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ آزَرَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ أُولِي الْعَزْمِ، وَمِنْ خِيَارِ الرُّسُلِ، وَأُمِرَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاتِّبَاعِهِ: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[النَّحْلِ:123].

 

لَقَدِ اتَّصَفَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِصِفَاتٍ اسْتَحَقَّ بِهَا أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً لِلنَّاسِ؛ فَهُوَ الْحَلِيمُ الْأَوَّاهُ الْمُنِيبُ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِذَلِكَ، وَاشْتُهِرَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْكَرَمِ، وَذَكَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- خَبَرَهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ حِينَ ذَبَحَ لَهُمْ عِجْلًا سَمِينًا، وَحَنَذَهُ لَهُمْ؛ إِكْرَامًا لِأَضْيَافِهِ، وَخَبَرُهُ جَاءَ فِي سُورَةِ هُودٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ إِذْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى)؛ أَيْ: جَاءَهُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- يُبَشِّرُونَهُ بِالْوَلَدِ، وَيُخْبِرُونَهُ بِأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَقَّ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ بِكُفْرِهِمْ وَإِتْيَانِهِمُ الْفَوَاحِشَ "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌفَفِي هَذَا مَشْرُوعِيَّةُ السَّلَامِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَنَّ السَّلَامَ قَبْلَ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ أَبْلَغَ مِنَ الْابْتِدَاءِ".

 

(فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)[هُودٍ:69]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)[الذَّارِيَاتِ:26]، "وَانْتِفَاءُ اللُّبْثِ مُبَالَغَةٌ فِي الْعَجَلِ، وَالْحَنِيذُ: الْمَشْوِيُّ، وَهُوَ الْمَحْنُوذُ، وَالشَّيُّ أَسْرَعُ مِنَ الطَّبْخِ، فَهُوَ أَعْوَنُ عَلَى تَعْجِيلِ إِحْضَارِ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ"، "وَيُؤْخَذُ مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ ضَيْفِهِ هَؤُلَاءِ أَشْيَاءُ مِنْ آدَابِ الضِّيَافَةِ: مِنْهَا تَعْجِيلُ الْقِرَى لِقَوْلِهِ: (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)[هُودٍ:69].

 

وَمِنْهَا: كَوْنُ الْقِرَى مِنْ أَحْسَنِ مَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الَّذِي عِنْدَهُ الْبَقَرُ، وَأَطْيَبُهُ لَحْمًا الْفَتِيُّ السَّمِينُ الْمُنْصِحُ، وَمِنْهَا: تَقْرِيبُ الطَّعَامِ إِلَى الضَّيْف.

 

وَمِنْهَا: مُلَاطَفَتُهُ بِالْكَلَامِ بِغَايَةِ الرِّفْقِ؛ كَقَوْلِهِ: (أَلَا تَأْكُلُونَ)[هُودٍ:69]".

 

(فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)[هُودٍ:70]؛ أَيْ: كَرِهَ الْخَلِيلُ إِمْسَاكَهُمْ عَنْ طَعَامِهِ الَّذِي قَدَّمَهُ لَهُمْ، وَخَافَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ أَكْلَ طَعَامِ الْمُضِيفِ تَأْمِينٌ لَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَأْكُلُوا -لِأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ فِي صُوَرِ بَشَرٍ، وَالْمَلَائِكَةُ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ- خَشِيَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ شَرًّا فَأَمْسَكُوا عَنِ الطَّعَامِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَبَادَرُوا إِلَى تَأْمِينِهِ، وَإِخْبَارِهِ بِحَقِيقَتِهِمْ، وَبِمَا جَاؤُوا مِنْ أَجْلِهِ: (قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)[هُودٍ:70]؛ أَيْ: لِنُهْلِكَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَإِتْيَانِهِمُ الْفَوَاحِشَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ، (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ)[هُودٍ:71]، وَهِيَ سَارَّةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، كَانَتْ تَقِفُ وَرَاءَ السِّتَارِ، تَسْمَعُ حِوَارَ الْخَلِيلِ مَعَ أَضْيَافِهِ، (فَضَحِكَتْ)[هُودٍ:71]؛ تَعْجُّبًا مِنْ كَلَامِهِمْ وَمِنْ تَأْمِينِهِمْ لِلْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَمِمَّا جَاءُوا بِهِ مِنْ هَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ مَصِيرِهِمُ الَّذِي يَنْتَظِرُهُمْ، (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)[هُودٍ:71]، فَبُشِّرَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ الْيَأْسِ، كَمَا بُشِّرَتْ بِحَفِيدٍ تَعِيشُ حَتَّى تُدْرِكَهُ وَتَرَاهُ، وَهَذِهِ كَرَامَةٌ لِلْخَلِيلِ وَزَوْجِهِ، وَمُعْجِزَةٌ رَبَّانِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَازْدَادَ عَجَبُ سَارَّةَ بِمَا بَشَّرَهَا بِهِ الْأَضْيَافُ مِنَ الْوَلَدِ وَالْحَفِيدِ؛ (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا)؛ فَهَذَانِ مَانِعَانِ مِنْ وُجُودِ الْوَلَدِ؛ (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)[هُودٍ:72]، (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)[هُودٍ:73]، فَإِنَّ أَمْرَهُ لَا عَجَبَ فِيهِ؛ لِنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ التَّامَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يُسْتَغْرَبُ عَلَى قُدْرَتِهِ شَيْءٌ، وَخُصُوصًا فِيمَا يُدَبِّرُهُ وَيُمْضِيهِ لِأَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الْمُبَارَكِ؛ (رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)[هُودٍ:73]، "أَيْ: لَا تَزَالُ رَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ وَبَرَكَاتُهُ، وَهِيَ: الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ عَلَيْكُمْ أَهْلَ بَيْتِ إِبْرَاهِيمَ، (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)[هُودٍ:73]؛ أَيْ: حَمِيدُ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّ صِفَاتِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ، حَمِيدُ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ إِحْسَانٌ وَجُودٌ وَبِرٌّ وَحِكْمَةٌ وَعَدْلٌ وَقِسْطٌ. مَجِيدٌ، وَالْمَجْدُ: هُوَ عَظَمَةُ الصِّفَاتِ وَسَعَتُهَا، فَلَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ، وَلَهُ مِنْ كُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ أَكْمَلُهَا وَأَتَمُّهَا وَأَعَمُّهَا"، وَ"الْمَعْنَى: لَا عَجَبَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ إِعْطَاءَكِ الْوَلَدَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَبَرَكَةٌ، فَلَا عَجَبَ فِي تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ بِهَا وَأَنْتُمْ أَهْلٌ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ".

 

وَكَانَ أَمْنُ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ أَضْيَافِهِ لِمَا عَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، مَعَ مَا بَشَّرُوهُ مِنْ رِزْقِهِ بِوَلَدٍ آخَرَ مَعَ إِسْمَاعِيلَ؛ دَافِعًا لَهُ أَنْ يُجَادِلَ فِي قَوْمِ لُوطٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ)[هُودٍ:74]، وَمُجَادَلَتُهُ فِي قَوْمِ لُوطٍ بِأَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، وَسَبَبُ مُجَادَلَتِهِ فِيهِمْ خَوْفُهُ عَلَى لُوطٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعُمَّهُمُ الْعَذَابُ، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا ‌نَحْنُ ‌أَعْلَمُ ‌بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)[الْعَنْكَبُوتِ:32].

 

ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ -تَعَالَى- الْخَلِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِثَلَاثِ صِفَاتٍ؛ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)[هُودٍ:75]؛ فَهُوَ حَلِيمٌ لَا يَتَعَجَّلُ الْعِقَابَ، وَيُرِيدُ لِلْعَاصِي فُرْصَةً لِلتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَيُؤْثِرُ السَّمَاحَةَ عَلَى الْعِقَابِ، وَهُوَ كَثِيرُ التَّأَوُّهِ؛ "أَيْ: مُتَضَرِّعٌ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ"، مَعَ "شِدَّةِ اهْتِمَامِهِ بِهُمُومِ النَّاسِ"، "وَمُنِيبٌ؛ أَيْ: رَجَّاعٌ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ سِوَاهُ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ يُجَادِلُ عَمَّنْ حَتَّمَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهَلَاكِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)[هُودٍ:76]؛ أَيِ: الْجِدَالِ، (إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ)[هُودٍ:76]، بِهَلَاكِهِمْ؛ (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)[هُودٍ:76]، فَلَا فَائِدَةَ فِي جِدَالِكَ".

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلَّمَنَا.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (‌وَاتَّقُوا ‌يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ:281].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَدَّعِي الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَرَدَّ اللَّهُ -تَعَالَى- دَعْوَاهُمْ، وَبَيَّنَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ الْأَوْلَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ‌وَلَكِنْ ‌كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)[آلِ عِمْرَانَ:67-68].

 

وَزَعَمَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ بِتَغْيِيرِهِمْ لِدِينِهِمْ، وَتَحْرِيفِهِمْ لِكُتُبِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِلنَّبِيِّ الْخَاتَمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، فَرَدَّ اللَّهُ -تَعَالَى- زَعْمَهُمْ، وَبَيَّنَ ضَلَالَهُمْ وَهِدَايَةَ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَحِّدِينَ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَقَالُوا ‌كُونُوا ‌هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)[الْبَقَرَةِ:135-138].

 

فَالْإِسْلَامُ هُوَ دِينُ الْحَقِّ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ، وَهُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مِنْ لَدُنْ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ، فَكُلُّهَا أَدْيَانٌ بَاطِلَةٌ؛ (وَمَنْ ‌يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ:85].

 

وَمُحَاوَلَةُ خَلْطِ الْأَدْيَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، أَوِ ادِّعَاءُ أَنَّهَا صَوَابٌ كُلُّهَا، أَوِ الِانْتِقَاءُ مِنْهَا وَمِنَ الْإِسْلَامِ لِتَشْكِيلِ دِينٍ جَدِيدٍ؛ كُلُّهَا مُحَاوَلَاتٌ بَائِسَةٌ لِطَمْسِ الْإِسْلَامِ وَوَأْدِهِ، وَمَصِيرُهَا إِلَى الْفَشَلِ وَالْخُسْرَانِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللَّهِ -تَعَالَى- مَحْفُوظٌ بِحِفْظِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ ‌لَحَافِظُونَ)[الْحِجْرِ:9]، وَسَتَظَلُّ طَائِفَةٌ عَلَى الْحَقِّ مُتَمَسِّكَةٌ بِهِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَلَوْ ضَلَّ أَكْثَرُ النَّاسِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "‌لَا ‌تَزَالُ ‌طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

المرفقات

الخليل عليه السلام (11) (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى).doc

الخليل عليه السلام (11) (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى).pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات