اقتباس
الأصل في الخطابة الإقناع والإفهام؛ لأن رسالة المنبر رسالة النبوة: الإبلاغ والإنذار، وتعليم الناس وإرشادهم لأمر دينهم وصلاح دنياهم، وهي أمور تحتاج إلى روية ورفق ولين وصبر، ولكن أحيانا يحتاج الخطيب إلى انتضاء سيف الإفحام الذي يقطع على المستهزئين والمتلاعبين ويردعهم على التشويش على الناس ببدعهم وضلالاتهم، لذلك كان...
ارتقاء منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وممارسة نفس دوره الوعظي والإرشادي والتعليمي والتربوي من خلال الخطبة لهو من أشرف المهام التي يمارسها الداعية والخطيب، فهي وظيفة اختص الله -عز وجل- بها خير خلقه وصفوة بني آدم، وهي مهمة تحتاج إلى كثير من الأدوات اللازمة حتى تكون فعالة ومؤثرة ومنتجة،؛ فالصبر والإخلاص واليقين والثبات والعلم والبصيرة والرفق والفداء والبذل كلها أدوات لا يستغني عنها داعية وخطيب من أجل تبوء مقعد صفوة خلق الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].
ولكن النجاح الحقيقي للخطبة يتمثل في مقدرة الخطيب في تغيير القناعات الراسخة لدى المدعوين، وتلك النقطة تحديدا هي لب الخطبة الناجحة، وعنوان الخطيب الرباني.
وعلى طريق تحقيق مهمة الإقناع الخطابي يوجد عدة مزالق يقع فيها كثير من الخطباء والدعاة؛ فمع ضغوط الواقع، وكثرة النكبات، واستطالة الباطل، واستبطاء النصر، وكثرة الأسئلة المستفزة، يفقد كثير من الخطباء والدعاة حلمهم، وينفد صبرهم، فتثور أعصابهم، ويظهر ذلك جلياً في أداء خطبتهم، فيميلون إلى التقريع والإفحام والإلجام، وقصف مسامع الحاضرين بوابل من التقريع والتبكيت، وينسون طرائق الرفق واللين من أجل الإقناع، وهنا تقع أزمة من أكبر أزمات الخطباء، وهو انفضاض الجمهور من حولهم، ونفور الكثيرين منهم.
فثمة فارق كبير بين الإفحام والإقناع، يحتاج إلى بيان وتبيان، حتى يكون الخطباء على بصيرة من أمر أهم ما يقوم به في الحياة.
أولاً: تعريف الإقناع الخطابي:
لغويا، فإن الإقناع مشتق من مادة: "ق ن ع"، وكما جاء في كتب اللغة: قَنَع بمعنى مال، فيقال: قنعت الإبل والغنم قنعاً، أي مالت لمأواها وأقبلت نحو أصحابها، وفلان قنوع، أي راضٍ بالقسم واليسير فهو قانع، واقتنع وقنع بالفكرة أو الرأي، أي قبله واطمأن إليه ورضي به، وتأخذ كلمة القانع معنى الراضي.
الإقناع هو السؤال بتذلل، وقَنَع الرجل يقنع قَنوعاً إذا سأل، وبشكل عام فإن لمادة "ق ن ع" ثلاثة معاني: القناع: وهو ما تغطي المرأة به رأسها. الإقناع: السؤال بتذلل. والاقتناع: الرضا بالشيء والقبول به.
أما في الاصطلاح فالإقناع الخطابي: "هو الجهد المنظم والمدروس الذي يبذله الخطيب من أجل التأثير على آراء السامعين وأفكارهم، بحيث يجعلهم يقبلون ويوافقون على وجهة النظر في موضوعٍ معين، وذلك من خلال المعرفة النفسية والاجتماعية للسامعين".
لما كان الإقناع الخطابي يهدف إلى مخاطبة عقل الجماهير في محاولة لإقناعها ببعض الأفكار والآراء والسلوكيات، وبالتالي كسب تأييدها كنتيجة للتقبل والرضا، فإن صياغة مبادئ الإقناع الخطابي من أهم أدوات الخطيب في إقناعه للمستمعين، وهذه المبادئ تكون كما يلي:
1- وجود هدف وغاية مقبولة: بمعنى أن تتضمن الرسالة التي يحاول الشخص إيصالها إلى جمهوره بعض الجوانب التي تلقي قبولاً لديه مما يُشكل عاملاً مشتركاً وأرضية مشتركة يقفان عليها للانطلاق إلى الهدف نفسه.
2- أن يعكس الهدف أو الغاية رغبات الجماهير ومطالبهم: فكلما ارتبطت رسالة الخطيب وموضوع الخطبة بأمر يمس مصالح الجماهير ويُعبر عن حاجاتهم أو رغباتهم وطموحاتهم كلما لاقت الاهتمام والقبول فالتقبل والتبّني من الجمهور.
3- أن يشمل الهدف جوانب تُظهر نتائجه المتوقعة: فكلما اشتملت الرسالة على معلومات وحقائق مستمدّة من خبراتٍ سابقة توحي بما ستُفضي إليه مضامين الرسالة وما سيؤول إليه الاقتراح من نتائج مفيدة ونافعة كلما لاقت القبول.
4- أن يصدر الكلام عن شخص موثوق به: فالرسالة إذا صدرت عن وجهة تحوز على ثقة الجمهور واحترامه كلما كنت أكثر تقبلاً منه.
ثانياً: الإفحام:
- الإفحام في اللغة مشتق من "ف ح م"، ومنها: أفْحَمْتُ، أُفْحِمُ، أفْحِمْ، مصدر إفْحَامٌ، أفْحَمَ أقرَانَهُ فِي كُلِّ نِقَاشٍ، أي أسْكَتَهُمْ بِحُجَجِهِ وَعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِه. ومنها: أَفْحمَ القومُ، دخَلوا في فَحْمَة العشاء، وأَفْحمَ البُكاءُ الصبيّ، جعله يَفْحَم، وأَفْحمَ الخَصْمَ، أَسكته بالحُجَّة، وأَفْحمَ الهَمُّ ونحْوُه فلانًا، منعه النشاط.
أما الإفحام في الاصطلاح: إسكات الخصوم وقطع حجته بمغالبة منطقية برهانية أو خطابية إنشائية مجردة.
فالإفحام يقطع الطريق على الشخص المقابل، والغالب على الحوارات الإيجابية استعمال الإفهام، وقد تكون هناك ضرورة لاستعمال الإفحام، ولكنه ليس هو الأصل والمنطلق، إلا عند مَن يقصد مجرد المغالبة، ويهدف إلى الانتصار والظهور بحق أو بباطل، وهذا هو المِراء المنهي عنه، أو الجِدال بالباطل؛ كما قال تعالى: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ( [الكهف: 56].
والقرآن الكريم زخر بالكثير من صور العناد واللجاج الذي كان يمارسه الكافرون والمعاندون للمرسلين والدعوات الذين رضوا بالجهل حيناً، وبالعناد في أحيان كثيرة، حتى وصل العناد، والتمادي في الباطل بمشركي مكة أن يقولوا كما قص عنهم القرآن الكريم: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيم) [الأنفال: 32]، وصاروا كما أخبر عنهم القرآن: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام: 7].
وكما قال سبحانه: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر: 14 - 15]، وقال: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام: 111]، بل اشترطوا لإيمانهم وخضوعهم شروطاً غير مقبولة بغرض التعجيز كما قال: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) [الأنعام: 124].
وقد سبقهم بنو إسرائيل بمثل هذا العناد، فخالفوا على نبيهم موسى، وردوا دعوته، وقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة) [البقرة: 55].
وقد كان أهل الكتاب يعرفون محمدا -صلى الله عليه وسلمَ- كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون -كما يعرف كفار مكة- أن القرآن حق، وأنه من عند الله، ولكنها الكبرياء والعناد والجهل، عوائق تصدهم عن ذوق حلاوته، وفيهم يصدق قول أبى الطيب المتنبي:
ومن يَكُ ذا فَمٍ مُرًّ مَريض *** يجد مُرًّا به الماء الزُّلالا
ولقد جاءت الردود القرآنية المفحمة للكافرين والمعاندين والمصرين على ضلالاتهم بجهل وإصرار، جاءت بصورة في غاية البلاغة والإفحام وبطريقة حاسمة ومبهرة لا يستغني عن أسلوبها وطريقتها خطيب ولا داهية، ومن أمثلة هذه الردود المفحمة:
1- في أشهر قضايا المشركين في العقيدة؛ وهي قضية ادعاء الولد له سبحانه وتعالى، فقد قص القرآن الكريم عنهم هذا الزعم في أكثر من آية: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً) [مريم: 88]، وزعموا أن هذا الولد ليس من الذكور بل هو من الإناث: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ) [النحل: 62]، (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً) [الإسراء: 4]، والفرية الثالثة في هذه الأكذوبة الشنيعة: أنهم جعلوا الملائكة بنات الله. ثلاثة أباطيل أذاعوها، وآمنوا بها: أن لله ولدا، وأن هؤلاء الولد هم الملائكة، وأن هؤلاء الملائكة إناث. فماذا كان رد القرآن عليهم؟
لقد جاء في بعض الآيات ردود قصيرة على مجرد اتخاذ الولد، فهم يزعمون أن لله ولدا ولكنهم لا يقولون أن له زوجا ولدت الولد فحجهم القرآن: (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام: 101]، ثم بين سبحانه في آية أخرى مصدر العلم الصحيح، ونفاه عنهم في أوجز عبارة، وأقوى حجة: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزخرف: 19] هكذا في إيجاز وحسم: (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) مع هذا الاستفهام الإنكاري التوبيخي الذي أدى ما يعجز الخبر التقريري عن أدائه.
2- مشركو مكة اتّهموا رسول اللّه -صلى الله عليه وسلمَ- بالجنون، وكانت هذه أول تهمة اتهموه بها، فقد جاء ذكرها في سورة القلم، وهى من السور الخمس الأوائل نزولا ثم جاء ذكرها في آيات أخرى: (نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم: 1 - 2]، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) [سبأ: 7- 8]، (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) [المؤمنون: 70]، (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) [الدخان: 13 - 14]، إلى غير ذلك من الآيات.
فماذا كان ردُّ القرآن عليهم في نفي هذه التهمة عن رسوله المبين؟
بأوجز كلمة وأقواها دلالة ردَّ عليهم القرآن الكريم في ثاني آية نزلت من سورة القلم التي هي ثاني سور القرآن نزولاً -كما ذهب لذلك جمع من المفسرين-: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "نفى الجنون عنه، ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، وذلك لأن قوله: (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) يدل على أن نعم اللّه -تعالى- كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المرضية، والبراءة عن كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون، فالله تعالى نبَّه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم إنه مجنون".
ونلاحظ أن الكلمة جاءت في سياق الكلام، ولم توضع موضع الرَّد، ولا سيقت مساق الحجة على نفي التهمة، وإنما قرنت بالآية ليتنبه لها الفطين، ويدرك أنها من أقوى الأدلة، وقد جاءت الكلمة نفسها في آية أخرى: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) [الطور: 29]، ومثل ذلك يقال في كلمة: (مُّبِينٌ) [الدخان: 13] التي وردت في آية الدخان فهم لا يجهلون أنه مبين، بل لا يجهلون أنه من أبين أبينائهم، فلا شك أن الكلمة لفتتهم لفتًا قويًا إلى مدىً ما يرتكسون فيه من باطل حين يتهمون هذا الرسول المبين بما هو أبعد شيء عن الإبانة، ذلك أن من أول، بل من أقوى آلاتها العقل، بل العقل الحصيف الواعي.
وكذلك حجَّهم القرآن بكلمة واحدة في نفى ما بهتوا به الرسول من الجنون، فقد جاء في سورة التكوير وهى خامس سورة نزلت قوله تعالى: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ) [التكوير: 22]، والمراد بصاحبهم في الآية رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلمَ-، وقد كرَّر القرآنُ هذا الوصف فجاء في سورة الأعراف: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الأعراف: 184]، وجاء في سورة سبأ: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) [سبأ: 46].
والذي يلفت النظر في هذه الآيات هو تكرار كلمة: "صاحب"، وإضافتها إلى كفار مكة، وربطها بالفرية العظمى التي افتروها على الرسول، وهى اتهامه بالجنون. فكيف وهو "صاحبهم" مرة بضمير الغيبة، ومرة بضمير الخطاب، وهو "صاحبكم" أيها المتهمون له بالجنون؟! نشأ بينكم، وقضى طفولته وشبابه وكهولته بين ظهرانيكم، وأنتم تعرفونه حق المعرفة، فهو صاحبكم، تعرفونه، ويؤكد بعضكم أنه لم يكذب قط، بل تعرفون أنه لم ينحرف لحظة واحدة عما يقتضيه العقل والحكمة، وحسن الروية، وبعد النظر،أبعد أربعين سنة عاشها بينكم، وهو من أوسطكم دارا، وأشرفكم نسبا، وأكرمكم أباً وأما، يصدق في القول، ويحفظ الأمانة، ويحكم- حين تحكمونه- بأعدل حكم، وأنتم في كل ذلك تصحبونه في غدوه ورواحه، ومَنْشطه ومكرهه. وتلقبونه بالصادق الأمين دون أن يطلب منكم أن تثنوا عليه، أو ترفعوه قدره، وإنما أنطقكم بذلك واقعه، وهذا هو قمة الإفحام للكذابين المدعين المتناقضين.
3- زعم مشركو مكة أن محمدا -صلى اللّه عليه وسلم- تعلم القرآن من بشر، قال تعالى: )وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر) [النحل: 103]، واختلفت نقول المفسرين في تعيين هذا البشر، ولكن اتفقت كلمتهم -كما أكد القرآن الكريم- على أنه رجل ليس بعربي، ومما قيل: إنه كان غلاما روميا يصنع السيوف بمكة، وأن النبي -صلى اللّه عليه وسلم- كان ربما مرَّ به فجلس عنده، وسمع منه كلاما، فوجد المشركون في هذا اللقاء بين النبي والرومي متنفّسا لأحقادهم، فادَّعوا أن النبي أخذ القرآن من هذا الرومي، وهم على يقين من أنه صلى الله عليه وسلمَ لم يأخذ، ولا يمكن أن يكون مثل هذا الغلام مصدراً للقرآن الذي أعجز العرب بفصاحته وبلاغته، ولذلك كان الرد عليهم في غاية الوضوح والحسم، وكان مخجلا لمن لا تزال عنده بقية من حياء، ومن اعتصام بالتعقل، والتعالي عن سفاسف الأقوال: (لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [النحل: 103].
هل يحتاج هذا البرهان الحاسم إلى أكثر من التذكير به، بل الإشارة إليه؟ وهل يسع عاقلا أن يقف في وجه هذا البرهان إلا إذا فقد الحياء من الناس، ومن نفسه، أو إلا إذا فقد عقله أو تجاهله؟ الرجل معروف عندهم، يرتضخ لكنة أعجمية، ولا يكاد يبين عما في نفسه، وهم يفدون عليه يروحون، ولا شك أن كثيرا منه عامله وخاطبه، وأستمع إليه، وعرف مدى علمه بالعربية، ودرجة نطقه السليم بها، والقرآن بين أيديهم، يسمعونه، ويعجبون بفصاحته وبلاغته، فلا حاجة إذا إلى إطالة الحجج، وتنويع البراهين، فمجرد الإشارة إلى هذا التفاوت العظيم، والبون البعيد بين لغة الرجل ولغة القرآن كافية في إقناع من يريد أن يقتنع، بل أكاد أقول أنها كافية في التوبيخ والتقريع والتجهيل، وبيان مدى مجافاتهم للحق، وتنكرهم للواقع، وتمسكهم بالأوهام والأباطيل.
4- زعم اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله ينزلهم منه منازل الأبناء من آبائهم، فلا يزيد القرآن الكريم في الرد عليهم عن عبارة واحدة فيها التكذيب المدعم بالدليل القاطع، وفيها الإنكار والتوبيخ في أوجز عبارة، وأقوى مواجهة: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) [المائدة: 18] فالدعوى باطلة، والزعم لا أساس له؛ لأن من يكون بهذه المنزلة من الله -تعالى- يكون بمنأى عن أمرين عظيمين:
أولهما: لا يعصي الله ما أمره، وهذا ما كان ولا يزال من الملائكة المقربين، وأنتم أيها الزاعمون ببنوة الله، وحبه لكم تذنبون، وتقعون في الخطايا التي تستوجب العذاب، وكأن هذه الإضافة تشير إلى شدة التصاق الذنوب بهم، وإلى أنها ذنوب عليها طابعهم: "ذنوبكم".
ثانيهما: لقد زعمتم أيها اليهود أن النار تمسكم أياما معدودات، وزعمتم فيما يروي الرواة أنها الأربعون التي عبدتم فيها العجل، فإذا كنتم أبناء الله وأحباءه فلم يعذبكم؟ إن الأب لا يعذب ابنه، والحبيب لا يؤاخذ حبيبه على ما يقع فيه من أخطاء، حتى في هذه الدعوى التي أشرت إليها يردّ عليهم القرآن ردا موجز مفحما: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 80] لم يتخذوا عند الله عهدا، وهم يعلمون ذلك، ولو أنهم اتخذوا هذا العهد لفازوا، فإن الله لا يخلف عهده، هم متأكدون بأنه لا عهد بينهم وبين الله، ومتأكدون كذلك أنهم يقولون ما لا يعلمون، فأيّ حجة ملزمة أقوى وأحسم من هذه الحجة؟ ومزاعم اليهود والنصارى كثيرة ومتشعبة، وردود القرآن على مزاعمهم دامغة.
ثالثاً: الخطباء بين الإقناع والإفحام:
الأصل في الخطابة الإقناع والإفهام؛ لأن رسالة المنبر رسالة النبوة: الإبلاغ والإنذار وتعليم الناس وإرشادهم لأمر دينهم وصلاح دنياهم، وهي أمور تحتاج إلى روية ورفق ولين وصبر، ولكن أحيانا يحتاج الخطيب إلى انتضاء سيف الإفحام الذي يقطع على المستهزئين والمتلاعبين ويردعهم على التشويش على الناس ببدعهم وضلالاتهم، لذلك كان لابد للخطيب أن يعرف متى يسلك طريق الإقناع، ومتى يسلك طريق الإفحام، ومتى يجمع بينهما.
الأول: ما يحتاج إلى إقناع وإفحام، وذلك عندما يكون جمهور المستمعين يغلب عليه التمدن والتعليم العالي، في بيئة يغلب عليها الانفتاح والتعاطي من الثقافات الأجنبية، التي عادة ما لا يقتنع السامع فيها بالأدلة والبراهين، فيحتاج إلى صدْمة إفحامٍ تُزيل غِشاوة الشُّبهة، وتَقشَع غَيْمَ اللَّجاجة، واستعمال الإفحام هنا كاستعمال الدواء الذي يُقْصَد منه شفاء حالة معيَّنة، فإذا زالت الحالة تَمَّ إيقاف الدواء.
الثاني: ما يحتاج إلى إقناع دون إفحام، وهذا هو الأصل كما سبَق، وهو ميدان المستمعين الباحثين عن الحقيقة، وميدان التعليم والدعوة، والنُّصح والوعظ والإرشاد، وهو يَعتمد على أساليب الحِكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.
الثالث: ما يحتاج إلى إفحام دون إقناع، وهذا يُستعمل في حقِّ المُكابرين والمستطيلين بالباطل، والمُراغِمين للحقائق والمتكبِّرين المُكابرين، وأصحاب الخصومة بالباطل، والذين يَسعون في نشْر أباطيلهم، وبثِّ ضلالتهم ببَهارِج الأقوال والأفعال، والذين يستخدمون وسائل الإعلام والمنابر المتاحة لهم لبث أباطيلهم وضلالاتهم، ويتأثر بهم الكثيرون من الجالسين أمام هذه الوسائط الإعلامية المدمرة للعقول والعقائد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم