اقتباس
ومع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أحب الناس إلى الصحابة، وكانوا ممن يحبون الاستماع له، إلا أنه كان يقصر خطبته، حتى لا يملُّوا ولا يسأموا، فالعلم يؤخَذ بالتدريج لا بالكد والمغالبة.
دخلتُ ذات جمعة - في يومٍ من أيام رمضان المبارَك - إلى مسجد من مساجد المسلمين، لِحضور الخطبتَيْن والصلاة، ولما كانت المساجدُ في عالمنا الإسلامي في الشهر الفضيل على غير عادتها، من حيث كثرةُ رُوَّادها والمُصَلِّين فيها، لَم أجدْ لي مكانًا كسائر الأيام داخل المسجد، وإنما ظفرت بنصف مكان عند الباب، فلمْ أكنْ بداخل المسجد ولا بخارجه، سبَّب ضيق المكان تضايُقًا لكثيرين، لكن صبر جميل، والله المُستعان على حرارة شمس الظهيرة التي تلفح وُجُوهنا ورؤوسنا.
قلتُ في نفسي: الحمد لله أن المساجد امتلأت بعباد الله، فرمضان مَوْسِم يَتَكَرَّر كلَّ سنة ليعود المتساقطون على جنبات الطريق إلى سبيل ربِّهم، بعد أن تعثَّروا على أحجار الهوى والذنوب، في ذات الوقت حدَّثتني نفسي بأنِّي رُبما أخطأتُ لعدم تبكيري للجمعة، حتى لَم أكد أجد إلا هذا المكان الضيق الحار.
كان كثيرون أسوأ حالاً منِّي، من أولئك الذين وفدوا بعدي إلى المسجد، فلم يجدوا حتى فرشًا يجلسون عليه، وبقوا في حرِّ الشمس، واقفين ينتظرون وينتظرون، وقد وضع بعضُهم كيسًا على رأسِه، وآخر ما برح يدور ويدور باحثًا عن ظلِّ شيء يقِيه الشمس الحارِقة.
امتطى الخطيبُ المنبر، وألقى التحيَّة، وأذَّن المؤذِّن، ثُم انطلق الخطيبُ في خطبته – عفوًا: خطابه - اعتقد خطيبنا أنه لا يمكن تفويت مناسبة الجمعة الرمضانية هذه دون أن يفرغ ما في جعبته، فبدأ بالحمد والثناء والشهادة والحوقلة، ثم عاد إلى خطبة الحاجة، وبعدها انطلق في بيان عظمة الشهر الكريم ونزول القرآن فيه، وليلة القدر وتوقيتها، والعتق من النار، ثم فضل القيام وبعض أحكام الصيام والإفطار والتراويح... مرت نصف ساعة وهو لا يزال في الخطبة الأولى، كانت الحرارة لا تُطاق، قلتُ: لا بأس سينهي قريبًا، فقد أتى على مجمل ما يتعلَّق بصيام رمضان، وسيفرد الخطبة الثانية بالدُّعاء بالقبول والتيسير، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد طفق الخطيبُ "المفَوَّه" يُحَدِّثنا عن إخواننا في فِلَسْطين والعراق وأفغانستان، ويعلم الله أنهم مِن أحب الناس إلينا؛ فإنَّ حالَهم يدمي العين والقلب، لكن حال أولئك الواقفين في الشمس منذ ساعة تشفق عليه كل ذي كبد رطبة.
ومِنْ موضوع إلى موضوع، ومن قضية إلى أخرى، ومن مسألة إلى أختها... بدأ الناس يتململون، بل إن بعضهم صاحوا من خارج المسجد، سبحان الله! سبحان الله! وخطيبنا لا يكترث، وبعد ربع ساعة أخرى من "الماراثون الخطابي"، شرع المصلون بداخل المسجد ينظر بعضُهم إلى بعض، ويشيرون برؤوسهم مستنكرين تطويل الخطيب الذي تجاوزت الساعة والربع، ولَم ينتقل بعدُ إلى الخطبة الثانية، ومع أن مَن تَكَلَّم يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغا، إلا أن بعضهم بدأ يُحَوْقِل وآخر يستغفر جهارًا فيرفع صوته، حتى بتنا نسمع همْسًا في كل مكان من المسجد، وتأفُّفًا بين الصفوف في الداخل والخارج، وربما همَّ بعضُهم بالعودة إلى بيته.
وبعد أن انتهى الخطيب تنفَّس المصلون الصعداء فقاموا إلى الصلاة، ثم سلَّم الإمامُ الخطيب، ولم يكدْ يُسلم المصلون بعد حتى قفز إلى الميكروفون، ليؤنِّب المصلين، ويُبدي انزعاجه من التشويش أثناء الخطبة، وامتعاضه من الأصوات التي طالبتْه بالاختصار، فكان مما قاله: "أين أنتم من السلف الصالح؟! كانوا يهاجرون في الحر، ويجاهدون في القر، وهم صائمون صابرون، أما أنتم فقد نفذ صبركم وخرجتم عن اللياقة والأدب".
إلا أن المسجد ضجَّ بالصياح من كل جنباته، فهذا يصم الخطيب بالجهل، وذاك يصفه بالفتَّان، وثالث يقسم ألا يعود في المستقبل لذلك المسجد، ورابع يتوَعَّد بالشكوى إلى وزارة الأوقاف، وخامس دخل في جدال مع الخطيب...، وخرج الجميعُ غاضبين، وأمست تلك "الخطبة الماراثونية" حديث الناس لأيام حتى طوتْها الأسابيع.
ولما كان الخطيب المذكور استدل بصبر وجلد السلف في الحر والقر، فلا بأس بذِكْر هدْي السلَف في آداب الخطبة التي على المسلم اتِّباعها والاقتداء بها، خصوصًا أن تلك الآداب تتقاطع مع ما توصلت إليه علوم التربية والاتِّصال.
روى مسلم عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "كنت أصلِّي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانتْ صلاتُه قصرًا، وخطبته قصرًا" .
قال الملا علي القاري في شرح الحديث: المراد بكونها قصرًا: متوسطة بين الإفراط والتفريط.
ومع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أحب الناس إلى الصحابة، وكانوا ممن يحبون الاستماع له، إلا أنه كان يقصر خطبته، حتى لا يملُّوا ولا يسأموا، فالعلم يؤخَذ بالتدريج لا بالكد والمغالبة.
وروى مسلم كذلك في صحيحه، عن أبي وائل -رضي الله عنه- قال: خطبنا عمار -رضي الله عنه- فأَوْجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: "يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست -يعني: أطلت قليلاً- فقال: "إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئِنَّة -أي: علامة- من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحرًا".
وكان سلفُنا الصالح تنبهوا لهذه المسألة، لذا نراهم يتواصون بضرورة التوسُّط بين التقْصير والتطويل في الخطبة والوعظ والتدريس عمومًا، وهو من فقههم -رضي الله عنهم-.
ومِن الآثار في ذلك: تعيين الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه- يزيد بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أميرًا على جيش عظيم، فوجَّهه إلى الشام، وشيعه ماشيًا وأوصاه، فكان مما أوصاه به: "وإذا وعظتَهم فأوجز، فإن كثيرَ الكلام يُنسي بعضه بعضًا".
وروى البغَوي في "السُّنَّة": أنَّ عائشة -رضي الله عنها- قالتْ لعبيد بن عمير: "ألم أحدث أنك تجلس ويُجلس إليك؟".
قال: "بلى يا أم المؤمنين".
قالت: "فإياك وإملالَ الناس وتقنيطهم".
وروى البغوي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "حدِّث القوم ما حدجوك بأبصارهم، وأقبلتْ عليك قلوبُهم، فإذا انصرفتْ عنك قلوبُهم فلا تُحَدِّثهم".
قيل: "وما علامة ذلك؟".
قال: "إذا التفت بعضُهم إلى بعض، ورأيتهم يتثاءبون فلا تُحدثهم".
وروى الدارمي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن للقلوب لنشاطًا وإقبالاً، وإن لها تولية وإدبارًا، فحدِّثوا الناس ما أقبلوا عليكم".
وروى الدارمي عن الحسن البصري أنه قال: "حدث القوم ما أقبلوا عليك بوجُوههم، فإذا التفتوا فاعلم أنَّ لهم حاجات".
وروى الخطيب البغدادي عن أبي العالية قوله: "حدِّث القوم ما نشطوا".
هذا هو فَهْم السلَف الصالح وعلْمهم، لذا كانتْ خطبهم فيها كلام قليل، لكنه كلام مُبارك، فأثمر أثره في المجتمع، بينما اليوم الكلام كثير والبركة عُملة نادرة، والأثر محدود.
وقد بينتْ بعضُ الدِّراسات التربويَّة والاتِّصالية أنَّ الرِّسالة الاتِّصاليَّة، إذا ما تجاوزتْ حدًّا مُعينًا من الوقت فقدتْ مفعولها، خصوصًا إذا أُضيفتْ لها العوامل الكثيرة جدًّا الأخرى المتعلِّقة بحال المستقبِل وأهمية المحتوى، ومهارات اتصال المرسل، فقد كشفتْ إحدى الدراسات أن المتلقِّي الواعي في الظروف الطبيعية المثالية لا يُمكنه أن ينصت لرسالة اتِّصالية دون شرود لأكثر من ثماني عشْرةَ دقيقة، فما بالك لو كانت الظروف غير مثالية بالمرة، كحالة الخطبة الماراثونية التي ذكرتها آنفًا؟!
أما علماء الاتِّصال الفرنسيون، فيُرَكِّزون في نجاح العملية الاتصالية على حجم المعلومات التي تتضمنها الرسالة الاتِّصالية، وتوصلتْ أبحاثُهم إلى ما توصل إليه سلفُنا بأن الرسالة المثالية هي الرسالة المتوسطة بين الإفراط والتفريط، بين النقْص في المعلومات الضرورية sous information ، والتخمة في المعلومات sur information.
أليس إذًا من الواجب على الكثيرين ممن يتعاطون الخطابة والوعظ أن يُعيدوا قراءة التُّراث الإسلامي، كما عليهم الاطِّلاع على بعض نظريات الاتِّصال، قبل أن ينسبوا للسلَف الصالح ما لَم يقولوا به أو يفعلوه؟!
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم