عناصر الخطبة
1/ الموقف التربوي للنبي مع أشجِّ عبد القيس 2/ الحلمُ: تعريفه، فضلُه، ثماره، التخلُّق به 3/ حلم النبي الكريم 4/ تحَلِّي العارفين بالحلماقتباس
فالواجب على العاقل إذا غضب واحتدّ أن يذكر كثرة حلم اللّه عنه مع تواتر انتهاكه محارمه وتعدّيه حرماته، ثمّ يحلم، ولا يُخرجه غيظه إلى الدّخول في أسباب المعاصي؛ ولذلك قال محمّد بن السّعديّ لابنه عروة لمّا ولي اليمن: إذا غضبت فانظر إلى السّماءِ فوقك، وإلى الأرض تحتك، ثمّ عظّم خالقهما.
الخطبة الأولى:
روى أهل السير: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ -رضي الله عنهم-، إِذْ قَالَ لَهُمْ: "سَيَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ رَكْبٌ هُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ".
فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- فَتَوَجَّهَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَلَقِيَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَاكِبًا فَرَحَّبَ وَقَرَّبَ، وَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: نَفَرٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكُمْ هَذِهِ الْبِلادَ؟ التِّجَارَةُ؟ أَتَبِيعُونَ سُيُوفَكُمْ هَذِهِ؟ قَالُوا: لا.
قَالَ: فَلَعَلَّكُمْ إِنَّمَا قَدِمْتُمْ فِي طَلَبِ هَذَا الرَّجُلِ، فَمَشَى مَعَهُمْ يُحَدِّثُهُمْ، حَتَّى إِذَا نَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمُ الَّذِي تَطْلُبُونَ، فَرَمَى الْقَوْمُ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ رِحَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُهَرْوِلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَشَى، حَتَّى أَتَوا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وسلموا، وَقَعَدُوا إِلَيْهِ، حَتَّى بَقِيَ الأَشَجُّ، وَهُوَ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَأَنَاخَ الإِبِلَ وَعَقَلَهَا، وَجَمَعَ مَتَاعَ الْقَوْمِ.
وفي رواية عند أحمد: ثُمَّ نَزَلَ الأَشَجُّ فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ، وَأَخْرَجَ عَيْبَتَهُ -وعاء الملابس- فَفَتَحَهَا وَأَخْرَجَ ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ مِنْ ثِيَابِهِ فَلَبِسَهُمَا، ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي عَلَى تُؤَدَةٍ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فسلَّمَ.
وفي رواية: فأجلسه النبيُّ إلى جانبه، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ -تَعَالَى- وَرَسُولُهُ". قَالَ: فَمَا هُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الأَنَاةُ وَالتُّؤَدَةُ". قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَجَبَلٌ جُبِلْتُ عَلَيْهِ أَمْ تَخُلُّقًا مِنِّي؟ قَالَ: "لا، بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِ". قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى مَا يُحِبُّ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولُهُ -صلى الله عليه وسلم-.
وفي مسلم: عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لِلأَشَجِّ، أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ، "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ".
أيها الأحبة: كم في هذا الموقف التربوي من الدروس والعبر، وأهمها قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لِلأَشَجِّ: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ".
قال الرّاغب: "الحلم ضبط النّفس والطّبع عند هيجان الغضب". ويكفى الحلم عزة ورفعة وعلو شأن أنه من أسماء الله وصفاته، فهو الحليم، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "الحليم: الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا".
قال -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة:235]، وقال: (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران:155]، (وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [النساء:12].
ووصف الله -تعالى- بالحلم خيرته من خلقه وهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فالخليل -عليه السلام- يصفه ربه بالحلم فيقول: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة:114]، وقال: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) [هود:74-75]، وبشره ربه كذلك بابن حليم، وهو إسماعيل -عليه السلام-، فقال: (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) [الصافات:99-101].
أيها الإخوة: والحلم خلق عظيم يحبه الله ورسوله كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأَشَجِّ عبدِ القيس: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ" رواه مسلم.
وبالحلم تخلَّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضرب أروع الأمثلة، من ذلك أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ، أي: شدد في المطالبة وأثقل بالقول، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ -رضي الله عنهم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا". ثُمَّ قَالَ: "أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نجدُ إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ. فَقَالَ: "أَعْطُوهُ؛ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً".
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. أي: الموت. فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ! فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ"، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟! قَالَ: "قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ". والمعنى: وعليكم ما تستحقون من اللعنة والعذاب والموت. روى هذه الأحاديث البخاري.
أحبتي: قديما قيل: الحلم سيد الأخلاق. وقال ابن حبّان -رحمه اللّه تعالى-: "الحلم منه ما يكون سجيّة وطبعا، ومنه ما يكون تجربة وتكلّفا، ومنه ما يكون مركّبا منهما معا، وأوّل الحلم: المعرفة، ثمّ التّثبّت، ثمّ العزم، ثمّ التّصبّر، ثمّ الصّبر، ثمّ الرّضا، ثمّ الصّمت والإغضاء، وما الفضل إلّا للمحسن لمن أساء، فأمّا من أحسن إلى المحسن، وحلم عمّن لم يؤذه، فليس ذلك بحلم ولا إحسان.
والنّاس بالنّسبة للمرء ضروب ثلاثة: رجل أعزّ منك، ورجل أنت أعزّ منه، ورجل ساواك في العزّ، فالتّجاهل على من أنت أعزّ منه لؤم، وعلى من هو أعزّ منك جنَف، وعلى من هو مثلك هِرَاشٌ كهراش الكلبين، ونِقَارٌ كنقار الدّيكين.
فالواجب على العاقل إذا غضب واحتدّ أن يذكر كثرة حلم اللّه عنه مع تواتر انتهاكه محارمه، وتعدّيه حرماته، ثمّ يحلم، ولا يُخرجه غيظه إلى الدّخول في أسباب المعاصي؛ ولذلك قال محمّد بن السّعديّ لابنه عروة لمّا ولي اليمن: إذا غضبت فانظر إلى السّماءِ فوقك، وإلى الأرض تحتك، ثمّ عظّم خالقهما".
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئَها إلا أنت.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد...
الخطبة الثانية:
أيها الأحبة: ما فتئ العارفون يتمثلون الحلم في حياتهم، والأناة في تصرفاتهم، ويهدون بها غيرهم، قال علي -رضي الله عنه- : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكنّ الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن لا تباهي النّاس بعبادة اللّه، وإذا أحسنت حمدت اللّه -تعالى-، وإذا أسأت استغفرت اللّه -تعالى-.
وقال -رضي الله عنه-: إنّ أوّل ما عُوّض الحليمُ من حلمِه أنّ النّاس كلَّهم أعوانُه على الجاهل. وقال معاوية -رضي الله عنه-: لا يبلغ العبد مبلغ الرّأي حتّى يغلبَ حلمُه جهلَه، وصبرُه شهوتَه، ولا يبلغ ذلك إلّا بقوّة العلم.
وأسمع رجل معاويةَ كلاما شديدا، فقيل له: لو عاقبته! فقال: إنّي أستحيي أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيّتي.
وقسم مرّة نِطْعا، والنطعُ: بِسَاطٌ من جلد، فبعث منها إلى شيخ من أهل دمشق فلم يعجبه، فجعل عليه يمينا أن يضرب رأس معاوية، فأتى معاوية فأخبره، فقال له معاوية: أوف بنذرك، وأرفق بالشّيخ.
وقال أيضا: عليكم بالحلم والاحتمال حتّى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصّفح والإفضال.
وقال عبد اللّه بن عبّاس -رضي الله عنهما- لرجل سبّه: يا عكرمة، هل للرّجل حاجة فنقضيها؟ فنكّس الرّجل رأسه واستحيا ممّا رأى من حلمه عليه.
قال الشّافعيّ -رحمه اللّه-:
يُخاطبني السّفيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ *** فَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبَا
يزيدُ سفاهةً فأزيدُ حِلْمَاً *** كَعُودٍ زادَهُ الإحراقُ طِيبَا
وقال:
إِذا نطَقَ السّفيهُ فلا تجبْهُ *** فَخَيْرٌ مِنْ إِجَابَتِهِ السُّكُوتُ
فإنْ كلَّمْتَهُ فرَّجْتَ عَنْهُ *** وإنْ خلّيتَهُ كمَدَاً يموت
وقال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: ولهذا فإن الإنسان إذا عامل الناس بالرفق يجد لذة وانشراحا، وإذا عاملهم بالشدة والعنف ندم؛ ثم قال: ليتني لم أفعل! لكن بعد أن يفوت الأوان، أما إذا عاملهم بالرفق واللين والأناة انشرح صدره، ولم يندم على شيء فعَلَه.
والحلم أفضل من كظم الغيظ، لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلُّم، أي تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه، ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا، فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلن يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعي.
وعلى المرء أن يدرب نفسه على الحلم بالتحلم، كما حكاه الغزالي -يرحمه الله-.
أيها الإخوة: وإذا كانت الحاجة تدعو للحلم والأناة في كل حال في هذه الحياة، فهي في زمن الشدائد والفتن أحرى وأولى، ففيها تطيش العقول، وتضطرب القلوب، وتختل المواقف، ولا يسعفُ المرء إلا التثبت والأناة والحلم والرفق، ويحتاجُ إلى صبر ومصابرة، وتغليبٍ لحظوظِ الآخرة على الدنيا.
ويضرب ابنُ عمرَ -رضي الله عنهما- أروع الأمثلة في هدوئه وأناتة ورفقه وحلمه في الفتنة، فقد قام معاوية -رضي الله عنه- خطيباً وقال: "مَن كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فلْيطلع لنا قرنه، فنحن أحق به من أبيه"، قال حبيب بن مسلم لابن عمر: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عنى غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. فقال حبيب: حفظت وعصمت.
اللهم احفظنا بحفظك...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم