عناصر الخطبة
1/ قصة الغامدية 2/ قصة يوسف عليه السلام 3/ أهمية الخشية 4/ صور من خشية النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من الله تعالىاقتباس
امرأة ضعيفة.. عصفت بها لحظة من لحظات الضعف فوقعت في الفاحشة.. ولما كشف عنها غطاء الغفلة، انتفض الإيمان في قلبها، فجادت بنفسها، وأبت إلا أن تكون هي الفداء، لتسبق الأحياء، وتضع رحلها في جنة عرضها الأرض والسماء.. ها هي تقبل على رسول الله بخطىً ثابتة ..
أما بعد: انظروا إليها.. تقطع مراحل الزمن.. وتطوي صفحات التاريخ.. لتسجل للأجيال موقفاً نادراً، يقف له التاريخ هيبة وإجلالاً.
امرأة ضعيفة.. عصفت بها لحظة من لحظات الضعف فوقعت في الفاحشة.. ولما كشف عنها غطاء الغفلة، انتفض الإيمان في قلبها، فجادت بنفسها، وأبت إلا أن تكون هي الفداء، لتسبق الأحياء، وتضع رحلها في جنة عرضها الأرض والسماء.
ها هي تقبل على رسول الله بخطىً ثابتة, وفؤادٍ يرجف وجلاً وخشية, رمت بكل مقاييس البشر وموازينهم, تناست العار والفضيحة, لم تخش الناس, أو عيون الناس, وماذا يقول الناس؟.. أقبلت تطلب الموت, نعم تطلب الموت, فالموت يهون إن كان معه المغفرة والصفح, يهون إن كان بعده الرضا والقبول, يهون إن كان فيه إطفاء لحرقة الألم, ولسع المعصية, وتأنيب الضمير.. "يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني".. فيُشيح النبي عنها بوجهه, فتقبل عليه وتقول: يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني.. فيقول الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم: ويحك، ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه.. فتقول: تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ والله إني حبلى من الزنا, فيقول: "اذهبي حتى تضعيه".. فولت والفرح يملأ قلبها, والسرور يخالط نفسها.. أن نجت من موت محقق؟ وردها رسول الله؟ كلا, بل لم يزل هم الذنب يعترك في فؤادها، وسياط الخوف تسيطر على تفكيرها.
ويمر الشهر والشهر, والآلام تلد الآلام, فتأتي بوليدها تحمله.. ها أنا ذا وضعته فطهرني يا رسول الله, فيقول الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم: "اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه".
وتعود بابنها الرضيع.. فلو رأيتها، ووليدُها بين يديها, والناس يرقبونها عَجَبًا وإكبارًا.. ترضع وليدها حولين كاملين.. كلما ألقمته ثديها, أو ضمته إلى صدرها زاد تعلقها به وتعلقه بها, وحبها له, كيف لا وهي أمه.. ولا تسل عن حنان الأم وعطفها.
وتمضي السنتان.. فتأتي بوليدها وفي يده خبزة يأكلها.. يا رسول الله قد فطمته فطهرني!!.
عجبًا لها ولحالها! أي إيمانٍ تحمله؟.. وأي إصرار وعزم تتمثله؟.. قرابة الثلاث سنين، والأيام تتعاقب, والشهور تتوالى, وفي كل لحظة لها مع الألم قصة, وفي عالم المواجع رواية.. ومع هذا فلا تزال ثابتةً على موقفها، خائفةً من ذنبها، منيبةً إلى ربها.
ثم كان أمر الله.. فيدفع النبي الصبي إلى رجل من المسلمين, ويؤمر بها فترجم.. ورجم الزاني المحصن هو شرع الله، والله أحكم الحاكمين، ويجب على العاقل أن لا ينظر إلى هذه العقوبة الشديدة دون أن ينظر إلى خطورة جريمة الزنا.. الجريمة التي تعصف بالدين والعرض والنَّسْل والنَّفْس.
وإن من التناقض الذي يقع فيه دعاة ما يسمى بحقوق الإنسان؛ رأفتَهم بالجاني القاتل والسارق والزاني، ونسيانَهم قسوةَ الجريمة، وما يصيب المَجْنِيَّ عَلَيْه وأهلَه، وما يصيب الأسرة والمجتمع.
الرجم رَدْعٌ وزجْرٌ عن انتشار الزنا في المجتمع، ثم هو تطهيرٌ لِمَنْ أقيم عليه، فلا يحتاج بعده إلى تطهير في النار، ولعذاب الآخرة أشد ومن عذاب الدنيا.
رجمت المرأة.. وبينما كانت ترجم، يطيش بعض دمها على خالد بن الوليد, فيسبها على مسمع من النبي، فيقول عليه الصلاة والسلام: "والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه"، ثم يأمر بها فيصلى عليها ثم تدفن. والحديث رواه مسلم.
وفي رواية أخرى أن عمر رضي الله عنه قال: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى؟!!"
الله أكبر.. إنه الخوف من الله, إنها خشية الله، ترتقي بالنفوس فلا ترى لها قراراً إلا بجوار الرحمن في جنة الرضوان.
نعم، لقد أذنبت المرأة حين وقعت في حبائل الشيطان, واستجابت له في لحظة ضعف، لكنها قامت من ذنبها بقلبٍ يملأه الإيمان, ونفسٍ تلهبها حرارة المعصية, ولسان حالها: كيف أعصيه وهو المنعم الخالق! كيف أعصيه وهو الواهب الرازق؟ كيف أعصيه وقد نهاني؟ كيف أعصيه وقد كساني وآواني؟! فلم تقنع إلا بالتطهير وإن كان طريقه إزهاق النفس وذهاب الحياة.. مع أنها لو استغفرت وتابت إلى ربها توبة نصوحاً لتاب الله عليها، لكنها أخذت بالحزم والتطهير المضمون الذي لا رجوع بعده للذنب.
أيها المؤمنون.. ذلكم هو موقف تلك المرأة.. وفي موقف تاريخي آخر، حضره الشيطان, وقلت فيه خشية الرحمن، أجمع إخوة يوسف عليه السلام على رميه في غياهب البئر, وكان ما كان من أمر السيارة, وبيع يوسف وهو الحر الأبي, وراودته امرأة العزيز، حتى تجملت وقالت هيت لك, قد ملكتْ جمالاً تغريه به, ومنصبًا وجاهًا يحفظه من العقوبة, وكان الطلب منها بعد أن غلقت الأبواب، وهو شاب غريب، بعيد عن أهله، تضطرم الشهوة في نفسه.
فتصور كل هذا, والمكان يعلوه السكون, لا يُسمع فيه إلا نداء الإثم والفجور, هيت لك, هيت لك.
فيبدد يوسف هذا السكون، ويضج المكان بنداء الخشية والإيمان، قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، ويفرّ يوسف إلى الله، ويهرب إلى الباب لما رأى برهان رب الأرباب.
وتمضي الأيام، وتهدده امرأة العزيز، (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ).. قال رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه.. نعم.. السجن أحب إلى المؤمن الذي يخشى الله من الفاحشة والرذيلة.
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وذكر منهم: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله".
عباد الله.. الخوف والخشية عبادة عظيمة، غابت أو ضعفت في حياة كثير من الناس إلا من رحم الله, غابت في تعاملنا مع ربنا, في تعاملنا مع أنفسنا, في تعاملنا مع الناس، في بيعنا وشرائنا, في تربيتنا لأبنائنا, في أدائنا لوظائفنا, في تعاملنا مع الأجراء والخدم.. والموفق من وفقه الله لخشيته وتقواه.
إن الخشية الحقة, والخوف المحمود هو الذي يحمل على العمل, فلا يزال يدفع بصاحبه إلى الطاعة, وينفره من المعصية.
الخشية الحقة هي التي تربي القلب حتى لا ينظر إلى صغر المعصية، ولكن ينظرُ إلى عَظَمة من عصى.
قال الحسن: "إن الرجل ليذنب الذنب فما ينساه, وما يزال متخوفًا منه حتى يدخل الجنة" رواه البخاري ومسلم.
وقال ابن عون: لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا.
عباد الله: وخشية الله تعالى إنما تظهر في أوقات الخلوات وساعات الوِحدة والعزلة عن الخلق.. كثير أولئك الذين يتصدقون أمام الناس ولكنهم في السر قليل, كثير الذين يتورعون عن ظلم الناس أمام الناس وهم في السر أظلم الخلق, كثيرٌ هم أولئك الذين يقومون بالطاعات ويهجرون المعاصي في حضرة الخلق, وإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير.
أقول ما تسمعون، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لخشيته في السر والعلن، وأن يجعلنا ممن يخافونه بالغيب، إنه سميع مجيب.
الخطبة الثانية
الحمد لله.. أمر أن لا تعبدوا إلا إياه.. والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه.. محمد بن عبد الله.. وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون.. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).. فقد كان من أخشى الناس لربه، وأكثرهم تعظيماً وإجلالاً له سبحانه.
روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله ليلة من الفراش, فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد -أي في السجود- وهما منصوبتان وهو يقول: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك, وبمعافاتك من عقوبتك, وأعوذ بك منك, لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".
وهكذا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان في خوفهم من الله وخشيتهم له.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحدًا لخفت أن أكون أنا هو".
وقرأ عمر بالطور فلما بلغ (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ) بكى واشتد بكاؤه حتى مرض أياماً في بيته.. وصلى زرارة ابن أبي أوفى بالناس الفجر، فلما قرأ (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) خر مغشياً عليه فمات رحمه الله.. وقام الحسن بن صالح ليلة بـ (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) فغشي عليه فلم يختمها إلى الفجر.. وقرأ عمر بن عبد العزيز قوله تعالى (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي.. وقرأ تميم الداري (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فجعل يرددها ويبكي.
وقيل للإمام أحمد: ما أكثر الداعين لك. فتغرغرت عينه بالدموع وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً.
هكذا كانت أحوالهم فليت شعري أين نحن منهم، والواحد منا يقيم على الذنب تلو الذنب ولا يتحرك قلبه ولا تدمع عينه خوفاً من الله.
وقد روى الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني عن أنس رضي الله عنه أن النبي دخل على شاب وهو في الموت فقال: "كيف تجدك؟" قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي, فقال رسول الله: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو, وأمنه مما يخاف".
وروى الترمذي ـ وقال: حسن صحيح ـ والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع, ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم".
عباد الله: عظموا الله في نفوسكم.. واخشوه واتقوه كما أمركم.. (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ). وليكن سيركم إلى ربكم بين الخوف والرجاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخشية أبداً متضمنة للرجاء، ولولا ذلك لكانت قنوطاً، كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، فأهل الخوف لله والرجاء لله هم أهل العلم الذين مدحهم الله. اهـ (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ).
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم