عناصر الخطبة
1/من مظاهر قلة الحياء 2/صور مشرقة من حياء السلف 3/فوائد الحياء وثمراتهاقتباس
أيها المسلمون: ما حصل في الأفراد والمجتمعات من المحن وانتشرت فيها الإحن وتوالت عليها الفتن؛ إلا لما ضاع الحياء؛ لأن بفقد الحياء تُنتهك المحرمات، وتنتشر الفواحش والمنهيات؛ عندها تذهب الفضيلة، وتحل الرذيلة، فهل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل الحياء خلق الأنبياء وفي الرجال كمالٌ وبهاء. وأشهد أن لا إله إلا الله زيَّن بالحياء النساء. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أشد حياءً من العذراء صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أكمل الناس حياءً، وأعظمهم وفاء.
أما بعد: فالتقوى زينة الحياة، والمتقون هم أعلى الناس حياء، وأجملهم بهاء، وأسعدهم هناء.
عباد الله: معنا في هذه الجمعة تكملة حلقتنا الماضية الحياء خلق العظماء، مضى معنا فضله وجماله، وزينته وكماله؛ فنُكمل ما تبقى ونذكر ما تيسر من الحياء من مظاهره السيئة -أيها المسلمون-: النفوس الأبية، والنفوس الراقية تنأى عن الأخلاق الذميمة، والصفات اللئيمة.
وإِنِّي لَتَنْهَـانِـي خَـلائِقُ أَرْبَـعٌ *** عن الفُحْشِ فِيها للكَـرِيمِ رَوادِعُ
حَياءٌ وإِسْـلامٌ وشَـيْبٌ وعِــفَّةٌ *** وما المَرْءُ إلاّ ما حَبَتْهُ الطَّبـائِعُ
أيها المسلمون: ما حصل في الأفراد والمجتمعات من المحن وانتشرت فيها الإحن، وتوالت عليها الفتن إلا لما ضاع الحياء؛ لأن بفقد الحياء تُنتهك المحرمات، وتنتشر الفواحش والمنهيات عندها تذهب الفضيلة وتحل الرذيلة، فهل ضُيِّعت الصلوات وقِلة المحافظة عليها في الأوقات إلا لما قَل الحياء من الله ومن الناس، فيؤذِّن ويُصلي المصلون وهو واقفٌ لا يُبالي وفي سيارته أو متجره يتجول بالجوال ولا يُداري.
وهل شُرِب الدخان في الأسواق والمجتمعات وبين الأهل والأولاد والبيوتات على مرأى ومسمع، بل لا يحترم المدخن الجليس ولا يوقر الكبير، ولا يرحم الصغير، ولا يؤلمه الدخان بين أولاده وأهله، وربما في مكانٍ واحدٍ كغرفته وسيارته ويرمي في بقايا سجائره أمام الناس ومركوباتهم.
وآخر ينفث دخانه من فمه في وجوه إخوانه وجلسائه، فأين حياؤه؟ وأين دينه ومروءته يؤذي نفسه وأهله ومجتمعه؟
وهل ظهر الاختلاط بين الرجال والنساء وانتشرت المعاكسات وعمَّ الفساد بين العباد إلا لما كسرت المرأة حجاب الحياء، فخرجت وتبرجَّت وتسكعت وولجت في زينتها وجمالها، وطِيبها ونقابها، بل ربما نزعت حجابها، فتجوب الأسواق وتُخالط الرجال، وتُمازح الشبان مباشرةً ذلك أو عبر الاتصال ورسائل الجوال، فعندها خضعت بالقول، وتغنجت بالكلام، وأظهرت زينتها وكأنها سلعةٌ للبيع والشراء؟
ومثله ممازحة السائقين والباعة السافلين من المعاكسين والمفسدين، كل ذلك لما ضعف الحياء، وضاع هذا الخُلق عند الرجال والنساء، فبوابة الحشمة الحياء، وبوابة الفساد نزع الحياء.
أين الحياء ممن شُغلوا بالأغاني الماجنة، ومزامير الشياطين المفسدة، فرفعوا أصواتها وأزعجوا الناس في طرقاتها، وتجده يرفع صوت الغناء وأمامه وبجانبيه في مركوباتهم ينتظرون فتح الإشارة لهم وكأنه في الساحة وحده أو الطريق ليس إلا له؟
وأين الحياء -أيها الأوفياء- من الموظف الذي يخون في وظيفته، فيخرج قبل تمام وقته، ويدخل بعد فوات بدايته، ويتساهل بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، ويهمل عمله، ويستهين بمراجعيه، ويتعامل معهم بسوء خلقه وشراسته وصلف طبعه؟
وأين الحياء من تاجرٍ يأكل أموال الناس بالباطل، ويغش ويكذب، ويُدلِّس ويجحد يُخادع في المعاملة، ويغش في السلعة يأكل الربا يؤخِّر الرواتب، ويظلم عماله، ويؤذي جيرانه، الحلال عنده ما حل في جيبه ونزل في رصيده؟
وَإِذا أُصـيـبَ الـقَومُ في أَخلاقِهِم *** فَـأَقِـم عَـلَـيـهِم مَأتَماً وَعَويلا
أين الحياء ممن أهمل أولاده، وأضاع بناته وتركهم يُخالطون ويجالسون، ويرافقون ويُصادقون من شاؤوا دون مراعاةٍ وتعليم، وتوجيهٍ وتذكير، وتنبيهٍ ونصيحة، فربما خالطوا جلساء السوء والمدخنين والفارغين والمعاكسين أو المبتدعة والمكفرين، وأيضًا أصحاب الأفكار المنحرفة والآراء المنجرفة، أو في الجوالات والتواصلات الاجتماعية والسنابات والمتابعين دون روية؟
فاعلموا أنكم مسؤولون، وعن رعيتكم محاسبون، وهل وقع في المعاصي من وقع ومارسها وجاهر بها ورتع إلا من قِلة الحياء وضعفه فاستهان بنظر الخالق إليه؟
فالحياء أعظم سياج، وأقوى علاج في حفظ البلاد والعباد، وصيانة الأزواج والأهل والأولاد.
هذا، ومن الناس من يتلذذ بذكر فسوقه وجُرمه ومعصيته وسوء عمله، بل يتبجح بذلك بين زملائه وجلسائه، ومن ذلك يفتح لهم أو يرسل لهم عبر الواتس وغيره مقاطع خليعة، وأغاني موسيقى، وذنوبًا آثمة، فيبيت يستره الله فيفضح نفسه بسوء وقبح عمله وفي الحديث: "كُلُّ أَمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرينَ".
ذو الحياء لا يغش أخاه ولا يؤذيه، لا يغتابه ولا ينم عليه، ذو الحياء لا يقدم على الزنا ومقدماته، ولا على القتل، ذو الحياء لا يتعاطى الدخان والمخدرات، والمسكرات والمفترات.
ومن مظاهر قِلة الحياء: عدم الخوف من الله، والخوف من عقوبته وسخطه، والتساهل بأوامره ونواهيه.
ومن مظاهر قِلة الحياء: لبس النساء الكاسيات العاريات الملابس التي تصف الأجسام الضيقة والشفافة، والمفتوحة والقصيرة، والسفر بدون محرم، والخلوة بالرجل الأجنبي.
ومن مظاهر قِلة الحياء: التلفظ والتفوه بالألفاظ البذيئة؛ كاللعان، والشتم، وجرح مشاعر الناس والاستهزاء بهم.
ومنها: كشف العورات وعدم سترها.
ومنها: ما يلبسه بعض الشباب من السراويل القصيرة إلى أنصاف الفخذين، وظهور المنكبين مع قصاتٍ ولباس جينزٍ وبناطيل ضيقة في الصلوات والمجالس الخاصة، والطرقات العامة، وهذا -والله- قِلة الحياء وضعف الإيمان.
ومن المظاهر: الخصومات والجدال، والهجر والبغض والشحناء بين الإخوة والأقارب على أمورٍ ثانوية، ودنيًا تافهة أو مواريث فانية.
ذو الحياء لا ينقل الكلام بقصد الإفساد، ذو الحياء لا يعق والديه، ذو الحياء لا يقطع أرحامه، ذو الحياء لا يؤذي جيرانه، صاحب الحياء يبتعد عن أكل الحرام، ولا ينظر إلى الصور الماجنة، والنساء الأجنبية، ويستمع إلى الأغاني والمجون السافلة.
إن الذنوب والمعاصي بألوانها وأشكالها وفعلها والمجاهرة بها من قِلة الحياء وضعفه، وفي زمننا بدون حياءٍ من الله.
ومن الناس بعض الناس لا شابٌ ينزجر، ولا شيخٌ يرعوي، ولا رجلٌ تُدركه الغيرة، ولا امرأةٌ يغلب عليها الحياء والسِّتر، وهذا مؤذنٌ بعقوبة؛ لأن الأمم تحيا حياةً طيبة بالتمسك بالفضائل؛ وتعيش عيشةً سعيدةً باجتناب الرذائل، فإذا انتُهِكت المُحرمات وغلبت الشهوات، وضعف الحياء والإيمان فماذا يُرتجى؟
فاتقوا الله -أيها المسلمون- واحرصوا على خُلق الحياء سلوكًا ومنهجًا، تربيةً وواقعًا، فالخير كله في الحياء، والحياء برٌّ كله.
هذا وأسأل الله أن يوفقني وإياكم لمكارم الأخلاق ومحاسنها.
وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا حمدًا، والشكر لله شكرًا شكرًا.
وبعد: عباد الله...
فالسلف الصالح ضربوا أروع الكلام، وأصدق المقام صورٌ مشرقة، ومواقف مضيئة في هذا الخُلق العظيم وهو الحياء من العلي العظيم، فاسمعوا لها -يا رعاكم الله-، وتحلوا بها أحبتي في الله، قال أبو بكرٍ -رضي الله عنه- في خطبته: "يا معشر المسلمين استحيوا من الله، فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب الغائط في الفضاء متقنِّعًا بثوبي استحياءً مِن ربِّي".
وقال عمر -رضي الله عنه-: "من قَل حياؤه قَل ورعه، ومن قَل ورعه مات قلبه".
وقال ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله".
إِذَا لَمْ تَصُنْ عِرْضًا وَلَمْ تَخْشَ خَالِقًا *** وَتَسْتَحِي مَخْلُوقًا فَمَا شِئْتَ فَاصْنَعْ
وقال الفضيل بن عياض: "خمسٌ من علامات الشقاوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقِلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل".
وقال ابن عطاءٍ: "العلم الأكبر: الهيبة والحياء؛ فإذا ذهبت الهيبة والحياء لم يبق فيه خير".
ولما سمع ابن جعفر ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- يقرأ: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)[هود: 5] قال: سألتهم عنها، فقال: أُناسٌ كانوا يستحيون أن يتخلوا، أي: يقضوا حاجاتهم في الخلاء وهم عُراة، فيفضوا إلى السماء، أو يُجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل فيهم ذلك.
وقال عليٌّ -رضي الله عنه-: "كنت رجلًا مذاءً، فاستحييت أن أسأل رسول الله –صلى الله عليه وسلم-".
وقال إياس بن قرة: "كنت عند عمر بن عبد العزيز -عليهما رحمة الله-، فذُكِر عنده الحياء، فقالوا: الحياء الدين، فقال عمر: بل هو الدين كله".
وقال وهب بن منبِّه: "الإيمان عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله العفة."
وقال مجاهدٌ: "لو أن المسلم لم يُصب من أخيه إلا أن حياؤه يمنعه من المعاصي"، والمعنى أن المسلم حين يستحي من أخيه يمتنع من ارتكاب المعاصي مدة مُكثه معه.
وقال معبد الجهني في قوله: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى)[الأعراف: 26] قال: "لباس التقوى: الحياء".
وذكر ابن عبد البر عن سليمان -عليه السلام- أنه قال: "الحياء نظام الإيمان، فإذا انحل النظام ذهب ما فيه".
وقال الأصمعي: "سمعت أعرابيًّا يقول: من كساه الحياء ثوبه لم يرَ الناس عيبه".
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "رأس مكارم الأخلاق الحياء".
وفي الحياء قيل:
يُغْضِي حَياءً وَيُغضَى من مَهابَتِه *** فَلا يُكَلَّمُ إلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ
وقال ابن الأعرابي عن بعض العرب:
إِنِّي كَأَنِّي أَرَى مَنْ لا حَيَاءَ لَهُ *** وَلا أَمَانَةَ وَسْطَ الْقَوْمِ عُرْيَانَا
وقال ربيط بني إسرائيل: "زين المرأة الحياء، وزين الحكيم الصمت".
وللحياء فوائد وثمار، فهو من خصال الإيمان وشُعبِه، ومنها: ترك المعصية وهجرها خجلًا من الله، واستحياءً منه.
ومنها: الإقبال على الطاعة محبةً وخوفًا ورجاءً.
ومنها: أنه أصل شُعب الإيمان، بل غالب غيره متفرعٌ عنه.
ومنها: أنه يكسو المرء هيبةً ووقارًا، وكرامةً وعزًّا، وصاحب الحياء محبوبًا عند الله وعند الناس.
ويمنع الحياء الفواحش، وفعل خوارم المروءة بين الناس، ويدفع المرء إلى التحلي بمكارم الأخلاق، وترك قبائح الأخلاق.
قال ذو النون المصري: "الحياء وجود الهيبة في القلب".
وقيل لبعض الحكماء: "ما أنفع الحياء؟ قال: أن تستحي أن تسأله ما تُحب، وتأتي ما يكره".
وقال سليمان بن عبد الملك: "إذا أراد الله بعبدٍ هلاكًا نزع منه الحياء، وإذا ضعف الحياء هانت الذنوب والمعاصي".
فعليك -أيها المؤمن- ما يُقوي حياءك، وحذاري حذاري مما يهون ويُضعِف حياءك، فهو سببٌ لهلاكك وبُعدك.
هذا وللحديث حلقةٌ ثالثةٌ في صور الحياء ومواقفه من سيرة خير البشر وأصحابه وأتباعه -بإذن الله-.
هذا، وصلوا وسلموا على من أُمِرتم بالصلاة والسلام عليه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
يا من هُديتم بالنبيّ محمدٍ *** سيروا بهدي نَبِيّكُم تَعظِيما
وإذا سمِعتُم ذِكْرَه في مجلسٍ *** صلوا عليه وسلموا تسليمـا
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم