عناصر الخطبة
1/ عناية الإسلام بأتباعه 2/ حث الإسلام على أداء الحقوق وتحذيره من التفريط فيها 3/ المقصود بالحقوق 4/ بعض الحقوق ومراتبها 5/ خطر العبث بالحقوق ووجوب أدائهااقتباس
اعتنى الإسلام بالحقوق عناية كبيرة؛ فأمر بالمحافظة عليها وتسليمها لأهلها، وإعطاء كل ذي حق حقه، وحذر وهدد من التهاون بها، وتوعد من يسلب الحقوق من أهلها، أو ينقص منها بطريقة أو بأخرى، توعده أن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله يحق الحق بكلماته، ويقطع دابر الكافرين، ويبطل الباطل ولو كره المشركون، أحمده سيحانه وأشكره على سوابغ فضله كريم مننه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأرشد الأمة ونصحها، وحذرها ووعدها خيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار، والتابعين الأخيار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، وملازمة شريعته، والتمسك بهدي رسوله وسنته: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].
أيها المسلمون: من عناية الإسلام بأتباعه المسلمين: أن أوصاهم بوصايا، وأمرهم بأمور يقومون بها، وبها تستقيم حياتهم، وتصلح أمورهم، ويسعدون في دنياهم ويفوزون -بإذن الله- في أخراهم، ومن ذلك: ما وصاهم به الله، وأكد عليه رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- فيما يخص الحقوق عامة، يوفونها ويبلغونها أهلها، ولا ينقصون منها شيئاً، صغيرة كانت أم كبيرة، وسواء كانت حقوقاً لله -تعالى- أو كانت حقوقاً للناس بعضهم على بعض.
اعتنى الإسلام بالحقوق عناية كبيرة؛ فأمر بالمحافظة عليها وتسليمها لأهلها، وإعطاء كل ذي حق حقه، وحذر وهدد من التهاون بها، وتوعد من يسلب الحقوق من أهلها، أو ينقص منها بطريقة أو بأخرى، توعده أن يقتص منه يوم القيامة، يقول تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58]، ويقول رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه" (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح").
أيها المسلمون: المقصود بالحقوق هي التي كرم الله بها الإنسان، والتي يمكنه أن يعيش في هذه الدنيا، والتي بدونها لا يمكن العيش إلا في الضيق والعسر والضنك، وهي حقوق كفلها الإسلام، وهي تضمن حياة كريمة له، وتحفظ من الإهانة، وتضمن له البقاء في الدنيا إلى ما شاء الله -تعالى-، وبها يمكنه إعمار الأرض وإصلاحها، ويمكنه البناء والتعمير والتشييد.
فالحقوق كثيرة تشمل حق الحياة، والكرامة، والحرية، والتعليم، والتملك، والتصرف، والعمل، والراحة، والضمان، وغير ذلك.
ولا يحق لأحد أن يسلبها منه، ولا أن يحول بينه وبينها.
أيها المسلمون: إذا ذكرت الحقوق فحق الله -تعالى- على عبيده من باب أولى أن يذكر ويقدم، ويعتنى ويهتم به، وخاصة في هذه الأزمان التي غلبت الدنيا على كثير من الإنس والجن، واستولت عليها فأنستهم ذكر الله -تعالى- وعبادته، فليس بغريب اليوم غزو الناس أن من لا يقم لعبادة الله وزناً، ولا لدينه، وليس بمستغرب أن يوجد في الناس من فرح بالحياة الدنيا وتفرغ لها.
إن حق الله -أيها المسلمون- أن يعبد وحده لا شريك له، وأن يوحد فلا يشرك به، وأن يشكر على النعم، وما دفع من النقم، وأن يتفكر العباد في مخلوقاته، وعظيم قدرته، وتصرفه في هذا الكون، فيزدادوا إيماناً، يقول رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: "أتدري ما حق الله على العباد؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" (رواه البخاري ومسلم).
وما أحوج العباد لإقامة حق الله -تعالى- اليوم، وقد امتلأت الأرض من الظلمة والمفسدين، ونزلت الفتن والظلمات، فما أحوجهم لأمنه سبحانه، ولدفع الشرور وأهلها، والظلم والظلمة والمفسدين والمخربين والمبتدعة والمخرفين: (فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 64].
ثم يأتي حق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو أن تقدر الأمة فضل الله عليها به صلى الله عليه وسلم فهو النعمة المهداة، والمنّة المسداة، فقد أنقذ الله به من النار: (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) [آل عمران: 103]، وأخرج به من الظلمات إلى النور، فأشرقت القلوب والبصائر بالإيمان به بعد الإيمان بالله رب العالمين، وهدى الله به فتبين الحق من الباطل، واستبان به سبيل المؤمنين، وعرف به طريق الضلال والمجرمين: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران: 164]، (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].
فحقه عليه الصلاة والسلام: أن يتابع متابعة حقيقية قولاً وعملاً واعتقاداً، وأن يقدم قوله وحديثه وهديه وسنته على قول كل أحد إلا الله، وأن تجل سنته، ويعظم هديه، وأن يصلى عليه كلما ذكر، وأن يسأل المؤمنون له الوسيلة، وأن تهجر المناهج والسبل إلا منهجه، وأن يتبرأ من كل ما يخالف هديه من إفرازات العقول، وخرافات الأحزاب والفرق والجماعات، يقول صلى الله عليه وسلم: "لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك" (صححه الألباني)، ويقول: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، هي ما أنا عليه وأصحابي".
فما أحوج الأمة إلى الوقوف على حقه صلى الله عليه وسلم لتقوم به خاصة، وإنها قد أبعدت النجعة، وجهلت حقه حتى وصلت إلى السخرية من سنته وهديه، وخاضت فيمن زكاهم وأخبر عن نجاتهم وفوزهم.
ثم يأتي حق الوالدين؛ ببرهما، والإحسان والاشفاق عليهما، ورحمتهما، والقيام بوصية الله ورسوله فيهما: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23].
ثم يأتي حق الأرحام: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) [الإسراء: 26]، ويقول رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينُسأ له في أجله، فليصل رحمه"، و "الرحم معلقة بعرش الرحمن تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله".
ثم حق ولاة الأمر بطاعتهم في المعروف، والدعاء لهم بالتوفيق والصلاح والإعانة والهداية، وعدم الخروج عليهم، وهذا من قواعد أهل السنة (السلف الكرام) يقول الفضيل بن عياض: "لو كانت لي دعوة مستجابة ما صيّرتها إلا في الإمام" (يعني ولي الأمر)، وهذه القضية وقع فيها المبتدعة والخوارج والضّلال وأهل الثورات، ومن تبعهم إلى يومنا هذا، مع وضوح الأمر الرباني والنبوي فيه، ولكن الله يهدي من يشاء.
وهناك حق الزوج على زوجته تقوم له بما أوجب الله عليها، يقول رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "لو كنت آمراً أحداً ليسجد لأحد لأمرت المرأة لتسجد لزوجها" (رواه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني)، وقال: "ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها" (رواه البخاري ومسلم).
ثم يأتي حق الزوجة على زوجها في نفسها والنفقة عليها وإيوائها واحترامها، ورعاية حق الله فيها، ومراعاة ضعفها، يقول رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهله"، وقال: "استوصوا بالنساء خيراً".
أيها المسلمون: الحقوق كثيرة متعددة، وعلى كل أحد أن يعطى كل ذي حق حقه، فالموظفون يعطون رؤسائهم حقهم، ويراعونهم في الاحترام، وتحمل المسؤولية وعلى مرؤوسيهم أن يتقوا الله فيهم في التقييم والتقارير، وتوزيع العمل، وترك المحاباة، فإن رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- دعا فقال: "اللهم من ولي من أمر أمتي فرفق بهم فارفق به، اللهم من ولي أمراً من أمور أمتي فشق عليهم فاشقق عليه" (رواه مسلم).
وأكبر خطر يقع فيه البعض هو حق العمال والأجراء والمخدومين والضعفاء من تحميلهم فوق طاقتهم وتأخير رواتبهم، أو اهمالها وانتقاصها، يقول رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، وقال: "إنما تنتصرون وترزقون بضعفائكم"، ورأى رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- أبا مسعود البدري يضرب غلاماً خادماً عنده فحذره وهدده، يقول له: "اعلم أبا مسعود إن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام"، فقال: هو حرٌ لوجه الله، فقال له: "أما لو لم تفعل للفحتك النار" (رواه مسلم).
أيها المسلمون: يعبث البعض بالحقوق (أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ) [البلد: 7]، والله -تعالى- لا تغيب عنه مثقال ذرة.
نصح رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- من عبث في حقوق الناس وتصرف فيها بطريقة أو بأخرى بنقص أو قطع أو بأخذ أو بأي تصرف نصحهم رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- أن يعيدوا الحقوق إلى أهلها قبل الموت حتى لا تعرقله يوم القيامة، وتعترض طريقه، يقول صلى الله عليه وسلم: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" (رواه البخاري)، وقال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله -صَلى الله عليه وسلم-؟ فقال: "وإن قضيباً من أراك" (رواه مسلم).
وسمى رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- أكل حقوق الناس الواقع فيهم سماه: مفلساً، فيأتي يوم القيامة مفلساً خاسراً، فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" (رواه مسلم).
فاتقوا الله -عباد الله- في حقوق العباد، فكم من الحقوق معلقة مضيعة مهملة؟ وكم من حقوق الضعفاء والعمال مضيعة وحقوق غفل عنها أهلها؟
إن المؤمن الحق لا يمد يديه إلى حقوق الناس ولكن يمد يديه إلى حقوق الغير من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه.
لقد قست بعض القلوب، وتعدى بعض الأزواج حدود الله من الرجال والنساء، وضيعوا وفرطوا وأهملوا، فاشتكى أزواج زوجاتهم، واشتكت زوجات أزواجهن، وتسببوا في تضييع أمانات الله في أنفسهم وأبنائهم وبيوتهم، والله -تعالى- سائل كل راع عما استرعاه: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92 - 93].
صححوا -عباد الله- ما اعوج من أموركم، واتقوا الله، وأعيدوا ما أخذ من حقوق إلى أصحابها قبل الممات: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 16]، (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) [النساء: 59]، وراقبوا ربكم فإنكم إليه تحشرون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم