عناصر الخطبة
1/ أهمية الحسبة 2/ السلف الصالح والاحتساب3/ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكراقتباس
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبنا جميعاً - وكل بحسبه، إن في بلده، أو قريته، أو أسرته، أو أهله، فإن عجز عن ذلك كله، أو أعيوه ولم يستجيبوا له، فعليه أمر نفسه بالمعروف، ونهيها عن المنكر... ومن الخطأ الاعتقاد بأنه لا يأمر ولا ينهى إلا الكامل في نفسه ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين وتابعيهم لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:71].
عباد الله: ثبت من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة متممة لسبعين أمة قبلها... وهي خيرها: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل".
ولكن هذه الخيرية بشروط ومواصفات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مقدمتها، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه) [آل عمران: 110].
وفي موطن آخر من كتاب الله، قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عمود الإسلام الصلاة، وأعظم ركن بعد الشهادتين، وعلى الزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام، فقال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71]، فما السر؟ ما المعنى يا ترى في تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة على الإيمان، وتارة على الصلاة والزكاة ونحوها؟
قال سماحة الشيخ ابن باز يحفظه الله: "لا شك أنه قدم لعظم الحاجة إليه، وشدة الضرورة إلى القيام به، ولأن بتحقيقه تصلح الأمة ويكثر فيها الخير، وتظهر فيها الفضائل، وتختفي فيها الرذائل... وبإضاعته والقضاء عليه تكون الكوارث العظيمة، والشرور الكثيرة، وتفترق الأمة، وتقسو القلوب أو تموت... ويهضم الحق، ويظهر صوت الباطل".
أيها المسلمون: ولا غرو بتقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ هما شاملان للدعوة لكل خير، والتحذير من كل شر، وذلك أساس دعوة الرسل، ولأجله أنزلت الكتب. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله".
وجاء النص عليه في وصف رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث) [الأعراف: 157].
إنه الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين، وتظهر أعلام الشريعة، وتغشو أحكام الإسلام، وبارتفاع سهمه يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور، يورث القوة والعزة في المؤمنين، ويذل أهل المعاصي والأهواء، وترغم أنوف المنافقين.
قال سفيان رحمه الله: "إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق".
يا عباد الله: وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتميز أهل الإيمان عن المنافقين، فمن سيما المؤمنين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة: 71]
ومن علامات المنافقين والمنافقات: أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [التوبة: 67].
إياك يا أخا الإيمان أن تخرج عن دائرة المؤمنين بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذا يقول الغزالي: "فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين".
وإياك أن تظن أن ترك الأمر والنهي من الكياسة والبعد عن الفضول، فتلك من عدوى مخالطة أهل النفاق لأهل الإيمان، وفي هذا يقول الإمام أحمد يرحمه الله: "إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرت عدواه ثمرتها صار المؤمن بين الناس معزولاً، لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله، فيصفه الناس بالكياسة والبعد عن الفضول، ويسمون المؤمن فضولياً".
أيها المسلمون: وتتعاظم مسؤولية المسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلما تعاظم الفساد وكثر المفسدون، وكلما قل عدد المنكرين، أو ضعف أثرهم، أو كان حجم الشر والفساد فوق طاقتهم، أو تعجز عن الإحاطة به إمكاناتهم.
وإذا كان العلماء قد قرروا وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه -كما نقل الجصاص وغيره. فقد قرروا كذلك أنه فرض على الكفاية- إذا قام به من يكفي، سقط الإثم عن الباقين.
وهنا يرد السؤال: وما الحكم إذا لم يقم بواجب الأمر والنهي من يكفي؟ لقد قرر أهل العلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتحول إلى الوجوب العيني على كل فرد، ويأثم كل قادر عليه ولم يقم بواجبه، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: "فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه، أثم كل قادر بحسب قدرته، إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته"... ويقول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز يحفظه الله: "وقد يكون هذا الواجب فرض عين على بعض الناس إذا رأى المنكر وليس عنده من يزيله غيره... وإذا لم يكن في البلد أو القبيلة إلا عالم واحد وجب عليه عيناً أن يعلم الناس ويدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حسب طاقته ..."
يا أخا الإسلام: ولست أغير من الله على شرعه ومحارمه... ولكنك ممتحن في غيرتك لشرع الله ودينه حين ترى منكراً يسيري بين الناس وأنت قادر على إزالته، أو ترى أصحاب منكر يتطاولون بمنكراتهم، ويفتنون الناس بباطلهم وأنت قادر على الإخبار عنهم إن لم تستطع نهيهم، هنا ينكشف إيمانك، وتمتحن غيرتك لدين الله وشرعه، فهل تنضم إلى قافلة المؤمنين الذين علمت أن من صفاتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم تلوذ بالمعاذير، وتبحث لنفسك عن المبررات، ثم ترضى لنفسك أن تكون في عداد موتى الأحياء، وقد قيل لابن مسعود رضي الله عنه: من ميت الأحياء؟ فقال: "الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً". ثم يعلق ابن تيمية على قول ابن مسعود بقوله: "وهذا هو المفتون الموصوف بأن قلبه كالكوز مجخياً، كما في حديث حذيفة في الصحيحين".
أيها المسلمون: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبنا جميعاً - وكل بحسبه، إن في بلده، أو قريته، أو أسرته، أو أهله، فإن عجز عن ذلك كله، أو أعيوه ولم يستجيبوا له، فعليه أمر نفسه بالمعروف، ونهيها عن المنكر... ومن الخطأ الاعتقاد بأنه لا يأمر ولا ينهى إلا الكامل في نفسه، فقد قرر أهل العلم أنه لا يشترط في منكر المنكر أن يكون كامل الحال ممتثلاً لكل أمرن مجتنباً لكل نهي،بل عليه أن يسعى في إكمال حاله، مع أمره ونيه لغيره، واستدلوا على ذلك بقله تعالى في بني إسرائيل: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) [المائدة: 79]، مما يدل على اشتراكهم في المنكر، ومع ذلك حصل عليهم اللوم علي ترك التناهي فيه. وفي الحديث المتفق على صحته: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
يا أخا الإيمان: انج بنفسك من غضب الله وعقوبته بالأمر بالمعروف، وقول كلمة الحق، وفي الحديث الحسن قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث منجيات" وذكر منها: "وكلمة الحق في الغضب والرضا".
وساهم في نجاة سفينة المجتمع من الغرق والعطب، وأنت خبير بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ودلالته، في مثل القائم بحدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها.
وكن من أهل رحمة الله وأولئك هم الآمرون الناهون الذين قيل عنهم: (أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) [التوبة: 71]، وما أسعدك وأطيب عيشك إن كنت من أهل الفلاح الذين قال الله عنهم: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].
اللهم انفعنا بهدي القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المؤمنون: توبوا إلى الله جميعاً لعلكم تفلحون، وحاسبوا أنفسكم ومن تحت أيديكم من قبل أن تحاسبوا، ومروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، قبل أن يضرب الله قلوب بعضكم ببعض، ويرد عليكم دعاءكم، وتطلبون النصر فلا يستجاب لكم.
قال صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم، وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم".
وفي لفظ آخر من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعونه فلا يستجيب لكم". رواه الإمام أحمد.
أيها العقلاء... أيها النبلاء: وكما أن مسؤولية الدعوة للخير، والتحذير من الشر، مسؤولية وشرف لنا جميعاً، فكذلك تحقيق الأمن ونزول البركات مسؤوليتنا جميعاً، وبالإيمان يتحقق الأمن، وبالإيمان والتقى تفتح بركات السماء، ذلك وعد غير مكذوب.
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [لأعراف:96].
ومؤلم أن يتطاول المجرمون بنشر فسادهم، أو السخرية بمن يأمرهم وينهاهم، أو بنوع من الأذية لمن يحاول كشف أوكار فسادهم، وهنا لا بد من تكاتف الجهود، والشجاعة - دون تهور - في الأمر والنهي. والرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، والصبر مطلب رئيس في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وقبل ذلك وبعده فلا بد من العلم بما يؤمر به وما ينهى عنه... والحلم على من يؤمر وينهى، وعدم الانتصار للنفس أو الغضب للذات، بل غيرة لدين الله وحرماته، وحرصاً على هادية الآخرين واستقامتهم، وعدم تجاوز منكرهم إلى غيرهم.
ولا بد كذلك من وازع سلطان وقوة حاكم يذل لسطوته المجرمون وينتصر للمظلومين، وقد ثبت عن عثمان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله، ويجب على ولي الأمر -وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها- أن يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر.." إلى آخر كلامه يرحمه الله.
عباد الله: أما وازع القرآن فيملكه كل مسلم ومسلمة قادر على أن يأمر بالمعروف الذي جاء في القرآن، وينهى عن المنكر الذي نهى عنه، وإياكم أخوة الإسلام أن تخذلوا أنفسكم وتخذلوا رجال الحسبة، وذلك بزهدكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية كل مسلم ومسلمة -وكل بحسبه- والآثار المترتبة على ترك الأمر والنهي أو ضعفهما تلحق بنا جميعاً، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة للخيرن والتحذير من الشر وظيفة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وهي باقية في عقبهم وأتباعهم إلى يوم الدين، هي من واجبات العلماء، والقضاة، والدعاة، وطلبة العلم، وهي من مسؤوليات رجالات الفكر والإعلام، وهي جزء من رسالة المدرس في مدرسته والموظف في وظيفته، والتاجر في متجره، وهي من الأمانة التي استرعى الله المسلم والمسلمة في بيوتهم وبين أبنائهم وبناتهم، وذوي رحمهم وجيرانهم... إنها استجابة لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وهي علامة الإيمان ومؤشر للانضمام في حزب المؤمنين الذين قال الله في وصفهم: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر) [التوبة: 71].
إخوة الإيمان: وحين يكتمل وازع القرآن ووازع السلطان ينتشر الخير ويتوارى الشر، ويبلس المجرمون، وهاكم نموذجاً يتحقق فيه صدق الوازعين، وجرت أحداثه أيام الخليفة العباسي المعتضد، والقصة طويلة كما رواها ابن كثير، وخلاصتها: "أن أميراً تركياً من أعالي الدولة سطا على امرأة حسناء وتعلق بها ليدخلها في منزله وهي تصيح بأعلى صوتها: يا مسلمون أنا امرأة ذات زوج، وهذا رجل يريدني على نفسي، وقد حلف زوجي بالطلاق ألا أبيت إلا في منزله، فغلبها الأمير فأدخلها، فتحركت الغيرة عند رجل خياط، وكان إماماً لأحد المساجد، فقام فأنكر على الجاني، فضربه الأمير التركي بدبوس شج رأسه به، فذهب الإمام وغسل الدم وصلى بجماعته العشاء، فأخبرهم الخبر، وطلب الذهاب إليه مرة أخرى، فخرجوا معه، فأخرج إليهم الأمير جماعة من غلمانه فأخذوا يضربون الناس بعصيهم ودبابيسهم، وقصد الجاني الإمام من بينهم فضربه ضرباً شديداً حتى أدماه - مرة أخرى - فرجعوا وهم في غاية الإهانة.
يقول الإمام الخياط: "فلما رجعت إلى منزلي وأنا منهك من كثرة الدماء وشدة الوجع، لم تغتمض عيني بنوم، وجعلت أفكر في وسيلة ثالثة استنقذ بها المرأة من ظالمها، فاهتديت إلى أن أذن لصلاة الفجر في منتصف الليل، حتى يظن الأمير أن الفجر قد طلع فيخشى الفضيحة ويخرج المرأة قبل الفجر، فبينا أنا كذلك، وإذا برجالات وشرطة المعتضد يحيطون بي، ويأخذوني إلى الخليفة، فلما وقفت بين يدي المعتضد -وأنا أرتعد من شدة الخوف- قال: أنت الذي أذنت في هذه الساعة؟ قلت: نعم، قال: فما حملك على هذا وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه، فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم، فقال: تؤمنني يا أمير المؤمنين؟ قال: أنت آمن، فأخبره الخبر، فغضب الخليفة غضباً شديداً، وطلب إحضار الأمير والمرأة من ساعته، فبعث بالمرأة إلى زوجها، ثم أقبل على الأمير يسأله عن رزقه، وعدد جواريه وزوجاته، فذكر له شيئاً كثيراً، ثم قال له: ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله، وتجرأت على السلطان، ثم عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر، فضربته وأهننته وأدميته، فلم يحر الأمير جواباً، ثم أمر الخليفة به، فجعل في رجلة قيد وفي عنقه غل، وأدخل في جوالق، ثم أمر به فضرب بالدبابيس ضرباً شديداً حتى خفت، ثم أمر فألقي في دجلة، فكان ذلك آخر العهد به، ثم التفت الخليفة للرجل المحتسب وقال له: كلما رأيت منكراً صغيراً كان أو كبيراً - ولو على هذا -وأشار إلى صاحب الشرطة- فأعلمني، وإلا فالعلامة بيني وبينك بالأذان إن لم تجدني، فكان هذا الخياط بعد يرهب الأمراء بالتهديد بالأذان إن لم يسمعوا لأمره ونهيه".
أيها الناس: وإذا كان في هذه الحادثة درس في قوة وازع السلطان وأثره، ففيها درس وتسلية للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
ألا وإن من فضل الله علينا في هذه البلاد وجود جهاز للهيئات، وهي سمة تخص بلاد الحرمين دون سواها، وأملنا ورجاؤنا أن تبقى السمة باسمها ومسماها، يدعم رجالها، وتستحدث أجهزتها، وتوسع صلاحيتها، فرجالها مع رجال الأمن عيون ساهرة، دعمهم دعم لنا جميعاً، وضعف أدائهم تحيق آثاره المرة بنا جميعاً. اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم