د. محمد منير الجنباز
قال أهل التأريخ: اختبأ سعيدُ بن جبير من الحجَّاج مدة بمكَّة، فأرسله والي مكةَ خالدُ بن عبدالله القسريُّ مكبَّلاً إلى الحجَّاج في الكوفة، ولما قدِم على الحَجَّاج قال له: ما اسمُك؟ قال: سعيدٌ، قال: ابنُ من؟ قال: ابنُ جُبَير، قال الحجَّاج: بل أنت شقيُّ بنُ كُسَير، قال سعيد: أمِّي أعلمُ باسمي واسم أبي، قال الحجاجُ: شقِيتَ وشقيَتْ أمُّك، قال سعيد: الغيب يعلمه الله، قال الحجاج: لأوردنَّك حِياض الموت، قال سعيد: أصابت إذًا أمِّي اسمي، قال الحجاجُ: لأبدلنك بالدنيا نارًا تلظى، قال سعيد: لو أعلمُ أن ذلك بيدِك، لاتخذتُك إلهًا، قال الحجاج: فما قولك في محمد؟ قال سعيد: نبيُّ الرحمة وإمام الهدى، قال الحجاج: فما قولُك في الخلفاء؟ قال سعيد: لستُ عليهم بوكيل، كل امرئٍ بما كسَب رهين، قال الحجاج: أشتمُهم أم أمدَحُهم؟ قال سعيد: لا أقول ما لا أعلم، قال الحجاج: أيهم أعجبُ إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي، قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: عِلْم ذلك عند الذي يعلَمُ سرهم ونجواهم، قال الحجاج: صِفْ لي قولهم في علي، أفي الجنةِ هو أم في النار؟ قال سعيد: لو دخلتُ الجنة فرأيتُ أهلها علمتُ، ولو رأيت مَن في النار علمتُ، فما سؤالُك عن غيبٍ قد حُفِظ بالحجاب؟!
قال الحجاج: فأيُّ رجل أنا يوم القيامة؟ قال سعيد: أنا أهونُ على الله من أن يُطلِعَني على الغيب، قال الحجاج: أبَيْتَ أن تصدُقَني، قال سعيد: بل لم أُرِدْ أن أكذِبَك، قال الحجاج: دَعْ عنك هذا كله وأخبِرني، ما لك لم تضحك قط؟ قال: لم أرَ شيئًا يضحكني، وكيف يضحك مخلوقٌ من طين، والطين تأكُلُه النار، ومنقلبه إلى الجزاء؟! قال الحجاج: فأنا أضحك، قال سعيد: كذلك خلَقنا الله أطوارًا، قال الحجاج: هل رأيت شيئًا من اللهو؟ قال: لا أعلم، فدعا الحجاجُ بالعود والناي، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي، بكى سعيد، قال الحجاج: ما يبكيك؟ قال: هو الحزن، ذكرتني أمرًا عظيمًا، أما هذه النفخة فذكرتَني يوم النفخ في الصور، وأما العود فشجرةٌ قُطِعت في غير حق، وأما الأوتار فمن الشاء، تبعثُ معها يوم القيامة، فقال الحجاج: أنا أحبُّ إلى الله منك، أنا مع إمام الجماعة، وأنت مع إمام الفُرقة، قال سعيد: ما أنا بخارجٍ على الجماعة، ولا أنا براضٍ عن الفتنة، ولكن قضاء الرب نافذٌ لا مردَّ له، قال الحجاج: كيف ترى ما نجمع لأمير المؤمنين؟ قال سعيد: لم أرَه، فدعا الحجاج بالذهب والفضة والكسوة والجوهر، فوضع بين يديه، قال سعيد: هذا حَسَن إن قمتَ بشَرْطه، قال الحجاج: وما شرطُه؟ قال: أن تشتريَ له بما تجمع الأمنَ من الفزع الأكبر يوم القيامة، قال الحجاج: أتحبُّ أن تنال منه شيئًا؟ قال: لا أحب ما لا يحب الله، قال الحجاج: ويلك! قال سعيدٌ: الويل لمن زُحِزح عن الجنةِ فأُدخِلَ النار، قال الحجاج: اذهبوا به فاقتُلوه، فلما أدبَر ضحك، قال: ما يضحكك يا سعيد؟ قال: عجبتُ من جرأتِك على الله، وحِلْم الله عليك، قال الحجاج: اضربوا عُنقه، قال سعيد: دعني أصلِّي ركعتين، فاستقبَل القبلة وهو يقول: إني وجهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، قال الحجاج: اصرفوه عن القِبلة، قال سعيد: فأينما تولوا فثمَّ وجهُ الله، إن اللهَ واسع عليم، قال الحجاج: لم نوكَلْ بالسرائر، وإنما وكلنا بالظواهر، قال سعيد: اللهم لا تُسلِّطْه على أحد يقتله بعدي، ثم ضُرِبت عنقه.
ويروى أن دمَه فار حتى ملأ الغرفة وامتد إلى ما تحت كرسي الحجاج، فخاف الحجاجُ وبدأ يهذي فقال: القيد، القيود، فظن الحراسُ أنه يريد القيد الذي في أرجلِ سعيدٍ، فقطعوا ساقيه بالسيوف واستخرجوا القيود، وحُمَّ الحجاجُ بعدها، ولم يعِشْ أكثر من أربعين يومًا، وكان قبل موته يقول: ما لي ولابن جبير؟!.. متندمًا على ما فعل.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم