عناصر الخطبة
1/ الرحلة التاريخية 2/ فضل الحج 3/ التحذير من تأخير الحج 4/ الترغيب في الإكثار من الحجاقتباس
فربما رأيت الرجل قد بلغ العشرين والثلاثين ولم يؤدِّ فرضه، بل ولربما بلغ بعضهم الأربعين وما بعد ذلك، وإذا قيل له في ذلك تعلّل بأعذار واهية، وبأنه عازم على الحج في المستقبل! وهذا -يا عباد الله- أمر خطير، وبلاء مستطير، عمّ كثيرًا من الناس، فآلاف الشباب هم من أولئك المتساهلين بذلك، نعوذ بالله من هذا البلاء؛ ولذلك فإني أنبه الجميع بأن هذا عينُ الخطأ والحيدة عن الصواب...
أما بعد: هيا بنا -أيها المسلمون-، فلنرحل بقلوبنا، ولنسرْ بأرواحنا في رحلة كريمة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، لنرحل إلى هناك إلى المدينة النبوية حيث رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام يستعدون للرحلة المباركة إلى بيت الله الحرام، ما أعظمه من ركب! وما أكرمه من موكب! فلهو والله موكب الإيمان، وحملة الإحسان، وركب البر والتقوى، إمام ذلك الركب خير البشر، وأعضاؤه سادة الأمّة، يقدمهم أبو بكر ومن بعده عمر ثم عثمان ثم علي، وبصحبتهم أمهاتنا الكريمات أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن وأرضاهن-، ويتبع أولئك خلق لا يحصون كثرة من صحابة النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم-.
ففي السنة العاشرة من الهجرة، وإذ لم يبق من عمره –صلى الله عليه وسلم- إلا القليل، عزم النبي –صلى الله عليه وسلم- على الحج، فعلم الناس بعزمه، فاجتمع إلى المدينة النبوية خلق كثير كلهم يرجو صحبته ليتشرف برؤيته ومرافقته واتباع سنته.
فخرج النبي –صلى الله عليه وسلم- في أواخر ذي القعدة، قال جابر –رضي الله عنه-: "فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، ثم إنه –صلى الله عليه وسلم- صلى في المسجد ثم ركب ناقته القصواء حتى إذا استوت به على البيداء أهلّ بالتوحيد". أخرجه مسلم في حديث طويل.
ثم إن المسلمين أهلّوا معه فارتفعت الأصوات بالتلبية، فلو رأيت حالهم لرأيت عجبًا، فيا لشدة الشوق إليهم! ويا لعظيم الأسف على فوات صحبتهم! فيا ربّ: عوّض عبادك الذين امتلأت قلوبهم شوقًا لصحبة نبيك الكريم برؤيته ومرافقته في جنات النعيم.
وقد أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أمته بأن الحج واجب مرة في العمر، قال أبو هريرة –صلى الله عليه وسلم-: خطَبَنا رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا"، فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟! فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لو قلت: نعم، لوجبتْ، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". أخرجه مسلم.
ومع أن الحج واجب وحتم إلا أن الله -سبحانه وتعالى- بفضله ومنه وكرمه وهو ذو الجود والكرم والفضل والإحسان، قد رتَّب على الحج من الثواب ما لا يحصى، بل إنه سبحانه لم يرض للحجاج بثواب دون الجنة، وأيّ مطلوب بعد الجنة؟! ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
ثم بيَّن –صلى الله عليه وسلم- أن الحج من أعظم أسباب محو الذنوب وتكفير الآثام، فشبَّه الحاج بعد حجه المبرور بالوليد الصغير الذي خرج للتوِّ من بطن أمه، أترون أن عليه ذنبًا أو خطيئة؟! لا والله، وكذلك الحاج يرجع من حجه نقيًا من الذنوب والخطايا كيوم ولدته أمه كما في الحديث المتفق عليه: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".
وأخرج الإمام مسلم عن ابن شماسةَ المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص –صلى الله عليه وسلم- وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه: أما بشرك رسول الله بكذا؟! أما بشرك رسول الله بكذا؟! قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نُعدُّ شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ثم أخبرهم –رضي الله عنه- بشيء من سيرته، ثم قال: فلمّا جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي –صلى الله عليه وسلم- فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط –صلى الله عليه وسلم- يمينه، قال عمرو: فقبضت يدي، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "ما لك يا عمرو؟!"، قلت: أريد أن أشترط، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "تشترط ماذا؟!"، فقال عمرو: أن يُغفر لي، فعند ذلك أخبره –صلى الله عليه وسلم- بمكفرات الذنوب فقال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!".
فسبحانه، ما أجزل معروفه وأعظم فضله! يذهب الحجاج وهم بالذنوب مثقلون، ويرجعون من حجهم مطهرين مغسولين مرحومين، قد غفر الله ذنوبهم، وتجاوز عن سيئاتهم، فكأنهم ما عصوا ربهم قط، وكأنهم ما تعدوا حدوده، وكأنهم ما فرطوا في طاعته وفرائضه.
أيها المسلمون: إنه لمن الظاهر الشاهر المنتشر بين الناس أن للإنسان أن يؤخر الحج سنة أو سنتين أو سنين ما دام عازمًا على أدائه في المستقبل، فربما رأيت الرجل قد بلغ العشرين والثلاثين ولم يؤدِّ فرضه، بل ولربما بلغ بعضهم الأربعين وما بعد ذلك، وإذا قيل له في ذلك تعلّل بأعذار واهية، وبأنه عازم على الحج في المستقبل! وهذا -يا عباد الله- أمر خطير، وبلاء مستطير، عمّ كثيرًا من الناس، فآلاف الشباب هم من أولئك المتساهلين بذلك، نعوذ بالله من هذا البلاء؛ ولذلك فإني أنبه الجميع بأن هذا عينُ الخطأ والحيدة عن الصواب، فالحج واجب على المسلم منذ أن يكلّف، فلا يجوز له تأخيره بعد ذلك أبدًا، وعلى الآباء أن يسعوا في تيسير ذلك لأبنائهم وبناتهم؛ فإنهم الرعاة المسؤولون، (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97].
بارك الله الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها المسلمون: إنه ومع علم الناس بوجوب الحج على الفور، فإنّ طائفة من أهل الكسل والخمول لا يزالون في غيهم وضلالهم، فتارة يعتذرون بالأعمال وتارة بالدراسة وتارة بالزحام، في أعذار واهية حاكها الشيطان وألقاها إلى هؤلاء.
ولهذا المعتذر وأمثاله أقول: يا هذا: أفق من رقدتك، وحج قبل أن تموت، ما ظنك لو متَّ وأنت لم تحج فسألك الله: ألم أنعم عليك بالمال؟! ألم أتفضل عليك بالصحة؟! ألم أعطك المركب وأؤمنْ لك السبيل؟! فيا ترى كيف تجيب على هذه الأسئلة يوم القيامة؟!
ثم أنت يا من اكتفى بحجة واحدة: ألا ترغب في عظيم الأجور؟! ألا تحبّ أن يغفر الله لك الذنوب؟! فإن كنت مصرًّا على الكسل فلا أقلّ من أن تحجّ بين الحين والحين؛ عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يقول: إن عبدًا صححتُ له بدنه وأوسعتُ عليه في الرزق، لم يفدْ إليّ في كل خمسة أعوام لمحروم". صححه ابن حبان وصححه الألباني من المعاصرين.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا من المرحومين، وأن يقينا سبيل المحرومين، وأن يعيننا على طاعته، وأن يتقبل منا أجمعين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم