عناصر الخطبة
1/ يسر الإسلام وحثه وترغيبه في ذلك 2/ بعض مظاهر يسر الإسلام وتيسيره 3/ التخلق بخلق الرحمةاقتباس
دين يدعو إلى التيسير وينهى عن التعسير، يدعو إلى الرفق وينهى عن العنف، شريعته مبنية على جلب المنافع والمصالح للعباد، ودرء المفاسد والمضار عنهم. إن النبي -صلى الله عليه وسلَم- كان يحبّ التيسير في كل شيء، وكان يكره التشديد في كل...
الخطبة الأولى:
من مظاهر الرحمة في دين الإسلام: أنه دين يدعو إلى التيسير وينهى عن التعسير، يدعو إلى الرفق وينهى عن العنف، شريعته مبنية على جلب المنافع والمصالح للعباد، ودرء المفاسد والمضار عنهم.
إن النبي -صلى الله عليه وسلَم- كان يحبّ التيسير في كل شيء، وكان يكره التشديد في كل شيء؛ في الصحيحين عَنْ أَبِي بُرْدَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم- أَبَا مُوسَى، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى اليَمَنِ، ثُمَّ قَالَ: "يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا"، فديننا دين يسر ولين، دين رحمة ومحبة، ولذلك دخل إلى القلوب، وعشِقته الأرواح، وافتدته المهج والنفوس.
فمن مظاهر الرحمة وصورها المشرقة في هذا الدين العظيم: الرحمة بالناس في حياتهم ومعاشهم، في معاملتهم ومعاشرتهم، ومن ذلك دعوته إلى الرحمة بالخدم والعمال.
فمن أحوج الناس إلى رحمتك من قلدك الله أمره من العمال والمستخدمين، فلا تحقرنّ منهم أحدا ولا تؤذينّ منهم أحدا، بل أحسن إليهم، ويسّر عليهم، واجبُر خواطرهم طلبًا لرحمة الله رب العالمين، في الصحيحين عَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلَم-: "يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ".
وعن عَائِشَةَ -رَضي الله عنها- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم- يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ" (أخرجه الإمام أحمد ومسلم وابن حبان والبيهقي).
فمن أراد أن تصيبه دعوة النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فيكون مرحومًا من الله -جل وعلا-، فليوسّع على من قلده الله أمره، فمِن رحمة هؤلاء أن يوسّع الإنسان صدره لمن يُسيء منهم ولمن يقصّر منهم، فالعفو والصفح عن الزلات، وستر الخطيئات، شأن أهل المكرمات والرحمات؛ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلَم- عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ" (أخرجه الترمذي، والحديث في الصحيحين بلفظ قريب من هذا).
ومن الرحمة بهم: الوفاء لهم، وتشجيعهم وإعطاؤهم ما يستحقونه من أجور من دون مماطلة أو تأخير؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم-: " أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ" (أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني).
دين يدعو إلى الرفق والرحمة حتى بمن أذنب وأخطأ، فارحم أخاك ولو كان مذنبا، ارحمه بسَتره، بإرشاده، بتعليمه، بنصحه، بمنعه من الذنب؛ ففي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم-: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: "تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ".
روى البخاري في صحيحه عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه-: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم-: "دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ".
وفي رواية مسلم في صحيحه عن أَنَس بْن مَالِكٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم- إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم-: مَهْ مَهْ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم-: "لاَ تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ". فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ -عز وجل- وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ" -أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم- قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.
سامحْ أخاك الدَّهر مهما بدَتْ *** منه ذنوبٌ وقعُها يعظُمُ
وارحم لتلقى رحمة في غدٍ *** فربُّنا يرحمُ من يرحمُ
دين يدعو إلى التيسير على الناس في أمور دينهم؛ ففي أمر الصلاة عاتب النبي -صلى الله عليه وسلَم- صاحبَه معاذ بن جبل عندما أطال صلاة العشاء، رحمة بذاك المزارع الذي خشي على زراعته؛ فانسحب من الصلاة خلف معاذ، بعد أن ابتدأها معه، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلَم- يشكو إليه، روى البخاري في صحيحه عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيّ، قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ، فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي، فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ، فَقَرَأَ بِسُورَةِ البَقَرَةِ -أَوِ النِّسَاءِ- فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ، وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلَم-، فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلَم-: "يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟" -أَوْ "أَفَاتِنٌ"- ثَلاَثَ مِرَارٍ: "فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الحَاجَةِ؟".
وكان النبي -صلى الله عليه وسلَم- يغضب ممن يشق على الناس في صلاتهم. ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلاَنٌ فِيهَا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم-، مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالكَبِيرَ وَذَا الحَاجَةِ".
وفي قيام الليل نهى النبي -صلى الله عليه وسلَم- أن يُحَمِّل المرء نفسه أكثر من طاقته. ففي الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلَم- فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: "مَا هَذَا الحَبْلُ؟" قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلَم-: "لاَ، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقعُدْ".
بل لقد بلغ من رحمته صلى الله عليه وسلَم: أنه كان يترك العمل وهو يحبه مخافة أن يفرض على أمته؛ ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ -رَضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم- صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي المَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ القَابِلَةِ، فَكَثرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم-، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: "قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ. وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ".
وفي الصيام نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلَم- عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً للمسلمين، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ! قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ؛ إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي" (البخاري ومسلم).
وفي الحج يسر أفعال الحج رحمة بأمته؛ فقد روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم- وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: "اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ"، فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: "ارْمِ وَلاَ حَرَجَ"، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ".
وأذن النبي -صلى الله عليه وسلَم- لمن لا يقوى على المشي أن يركب ولا يشق على نفسه؛ ففي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ -رَضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلَم- رَأى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟"، قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ (أي إلى الكعبة)، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ"، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ.
الخطبة الثانية:
من مظاهر الرحمة في هذا الدين: أنه دين حرم أذية الآخرين؛ في دينهم أو في أبدانهم أو في أموالهم أو في أعراضهم أو في مصالحهم. فالْمُسلم الرَّحيم -حقيقةً- هو مَن يكفُّ شرَّه، ولا يؤذي غيره، فمن أراد أن يكون خير الناس فليرحم الناس، وليحسن إليهم، وليكف أذاه عنهم؛ فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن حبان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم- وَقَفَ عَلَى نَاسٍ جُلُوسٍ، فَقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ؟" قَالَ: فَسَكَتُوا، فَقَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِخَيْرِنَا مِنْ شَرِّنَا، قَالَ: "خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ".
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ، وَيَدِهِ".
فأين الرحمة ممن يحمل في قلبه حقدا وحسدا وبغضا لإخوانه؟ أين الرحمة ممن يؤذي الناس في بيعهم وشرائهم؟ أين الرحمة ممن يحقر الناس ويزدريهم ويسخر منهم؟ أين الرحمة ممن يؤذي المسلمين في أموالهم بالسلب والنهب والغش والخديعة؟ أين الرحمة ممن يؤذي المسلمين في دمائهم وأنفسهم بالاعتداء والقتل وسفك الدماء؟ أين الرحمة ممن يؤذي الناس في أعراضهم بانتهاكها والخوض فيها بالباطل؟ أمور حرمها الإسلام واعتبرها من المنكرات والموبقات.
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلَم- "لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا"، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ " بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلَم- قَالَ: "... أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟" قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: "أَلَيْسَ ذَا الحَجَّةِ؟" قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: "أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟" قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: "أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟" قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: "فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟" قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: "أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟" قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ- عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ" -فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: صَدَقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلَم- ثُمَّ قَالَ: " أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ".
عباد الله: من أراد أن يتخلق بخلق الرحمة فليقرأ سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلَم- وليتدبر في معالمها، فهو القدوة والأسوة والرحمة الهداة -صلى الله عليه وسلَم-.
عليكم بمجالسة الرحماء ومخالطتهم، والابتعاد عن ذوي الغِلظة والفضاضة. فالمرء يكتسب من جلسائه طِباعهم وأخلاقهم.
احرصوا على تربية أبنائكم وبناتكم على هذا الخلق العظيم، اغرسوا في قلوبهم الرحمة والتراحم، فإنه متى نشأ الناشئ على الرحمة ثبتت في قلبه وأصبحت سجية له.
تراحموا -يا عباد الله- ف "الرّاحمون يرحمهم الرّحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السّماء".
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا منْ عباده الرحماء، وأن يكسُونا ثوب الرحمة، وأن يغرس في قلوبنا شجرة الرحمة لتثمر الصدق واليقين والمحبة والإِخاء.
هذا وصلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم