التغيير (3) الأخلاق - العدل

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ الأخلاق ضرورية لإحداث التغيير 2/ العدل أعظم مقومات ازدهار الأمم 3/ الظلم خراب لكل مجتمع 4/ تعليق على حديث مهاجرة الحبشة 5/ وجوب تحري العدل في المعاملات كافة.

اقتباس

ينبغي أيها الإخوة أن يراجع كل واحد منا حاله في بيته مع زوجته وأولاده وحاله مع من يتعامل معهم من أقارب أو أصدقاء أو عمال أو موظفين كيف هو من العدل؟ هل يبخس؟ هل يجور؟ هل يحيف؟ هل يظلم زوجته بأيّ أنواع الظلم أو لا يعدل بين أولاده؟ هل يؤخر رواتب العمال وهو قادر على الوفاء وعندهم من عندهم من أهاليهم هناك ينتظرون أقل المال؟ هل يسيء إليهم بكيد أو شتم أو ما شابه ذلك؟ هل يُسكنهم في صناديق أو أماكن لا تصلح حتى للحيوانات، وقس على ذلك بحسب موقع هذا الإنسان ومدى مساحة مسئولياته.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد --صلى الله عليه وسلم--، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

وقفنا في الأسبوع الماضي ونحن نتحدث عن التغيير في سياق إعمالنا وتفعلينا لمفهوم قوله تعالى في سورة الرعد: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، وقفنا عند "الأخلاق" حتى يغيّر الله حالنا للأفضل فلنغير من أخلاقنا؛ لأن ما نراه من حال الأمة الضعيف هو أثر من آثار إهمالها وتقصيرها في جوانب من الأخلاق ضرورية لإحداث ذلك التغيير.

 

وقد علمنا أن الأمم بكمال أخلاقها تبقى وتزدهر وتُبارك، وبسوء أخلاقها تصغر وتتلاشى وتندثر ولو بعد حين، وقد قيل:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 

ولذلك ربط النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الغاية من بعثته للثقلين وبين الأخلاق بقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق"، وفي لفظ "حَسَن الأخلاق"، وفي لفظ آخر "مكارم الأخلاق".

 

فبعثته -صلى الله عليه وسلم- أحدثت تصحيحاً كبيراً في أخلاق العرب، وبتلك الأخلاق الربانية حكَّموا العالم وزودوه بالعلم وأفعموه بكل خير.

 

أيها المسلمون: ما الذي ينقصنا من الأخلاق؟ الكرم؟ موجود، بر الوالدين؟ موجود، بالرغم من التقصير إلا أننا من أحسن المجتمعات الإحسان بالوالدين.

 

فالأفضل إذًا أن نركز على ما نحن في أمس الحاجة إليه من أخلاق، ونبدأ بخُلق العدل، العدل بلا منازع من أعظم مقومات ازدهار الأمم، وخلاف ذلك الظلم والجور وبخس الحقوق، فالظلم خراب لكل مجتمع، ولذلك قال عنه ابن خلدون في مقدمته: "الظلم مؤذن بخراب العمران".

 

في الفصل الثالث والأربعين من المقدمة قال: "والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه ووبالاه عائد على الدول ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عِوَض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعمّ من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد أو غصَبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حق لم يفرضه عليه الشرع فقد ظلمه".

 

جاء في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتقاضاه دينًا كان عليه"، النبي مديون -عليه الصلاة والسلام-، وهذا الأعرابي هو الدائن، "فاشتد –أي الأعرابي- فقال: أحرّج عليك إلا قضيتني"، فانتهره أصحابه وقالوا: "ويحك تدري مَن تكلم؟" قال: إني أطلب حقي!

 

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هلَّا مع صاحب الحق كنتم"، ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضيني حتى يأتينا تمرنا فنقضيك، قالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله، قال فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه، أي: زاد الإطعام فوق القضاء.

 

وهذا من حُسن القضاء الذي اعتاده -صلى الله عليه وسلم-، فقال الأعرابي: أوفيت أوفى الله لك، عندها قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أولئك خيار الناس"، أي: الذين يوفون بوعودهم، ويعيدون الحقوق إلى أهلها، أولئك خيار الناس، "إنه لا قُدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".

 

هنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يبيّن للصحابة أمرين مهمين؛ الأول هو أن هذا المشهد الفردي بين أعرابي بدوي يطلب وفاء دينه من آخر، وكان هذا الآخر هو أعظم وأزكى رجل على وجه الأرض، فعلى هذا الآخر أن يستجيب له دون أي اعتبار لمكانته أو واجهته أو سلطانه، فالحق لا تقوم في وجهه مقامات ولا حواجز لا سمعة ولا وجاهة ولا سلطان ولا أيّ شيء يحجز الحق، هذا أولاً.

 

الثاني: أن موقف الصحابة من هذا المشهد جانَبه الصواب، فهم لم ينصروا صاحب الحق بل العكس وبَّخوه ولاموه لمقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في قلوبهم، ومقام النبي بعد الله تعالى أعلى مقام، ولكن ليس في مقابل الحق، ولا أن مقامه يمنع الحق -عليه الصلاة والسلام-، ولذلك قال لهم -صلى الله عليه وسلم- بصيغة السؤال الاستنكاري التعجبي وبكل تجرد ووضوح: "هلَّا مع صاحب الحق كنتم؟"، أي: أليس أجدر بكم أن تكونوا معه هو لا معي أنا، ولو كنت من كنت لماذا؟ لأنه صاحب حق، ولأن موقفكم هذا إذا شاع وانتشر فسدت الأمة بكاملها، ونزعت البركة منها، وأصابها القحط والذل وسلط الله عليها أعداءها، ولا يقدسها الله تعالى ولا يبارك فيها ولا يطهّرها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "إنه لا قُدِّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".

 

جاء بزيادة وصف آخر لذلك الضعيف يعني لم يقل عليه الصلاة والسلام لا يأخذ الضعيف فيها حقه ووقف، لا جاء بزيادة وصف لذلك الضعيف أثناء أخذه لحقه بأنه يأخذ حقه غير متعتع، أي: من غير إكراه ولا تعتعة في كلام من رهبة أو خوف، ولا قلق من تبعة أخذه للحق، بمعنى أن  أفراد الأمة وصلوا إلى درجة عالية من الأمن على النفس بحيث لا يخافون بخسًا ولا هضمًا من أيّ غاشم أو ظلم أو متسلط عندها تُقدس الأمة وتزدهر ويبارك فيها.

 

فالأمة إذا عمت فيها المظالم وتجبر فيها المتجبرون، وانتشرت فيها الطبقيات، فهؤلاء يأخذون وأولئك لا يأخذون، ولم يوجد فيها من يأخذ للمظلوم الضعيف حقه وينصره بالقول والفعل؛ فهي إلى هلاك وفناء وزوال، ولا ينقذ الأمة بعد ذلك المصير المشؤوم سوى العدل.

 

ولذلك صحَّ في صحيح مسلم ما نقله عمرو بن العاص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعليقًا على بقاء الروم وكونهم أكثر الناس يوم القيامة فكان من أسباب ذلك أنهم "خير الناس لمسكين ويتيم وضعيف وأمنعهم من التظالم فيما بينهم، وأبقاهم الله –عز وجل- إلى يوم القيامة وكانوا أكثر الناس بالعدل فيما بينهم.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

أما بعد.. وهناك حديث آخر مشابه لحديث أبي سعيد يؤكد هذه السنة الجارية ففي سنن ابن ماجه من حديث جابر قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلا تُحَدِّثُونِي بِأَعْجَبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟". قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ مَرَّتْ عَلَيْنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهْبَانِيَّتِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، سَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ. قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَدَقَتْ، ثُمَّ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْمًا لا يُؤْخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ؟!"

 

ما الذي أعجبكم بالحبشة؟ ما الذي لفت انتباهكم؟ يسألهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال أولئك الفتية: إن الأمر الذي لفت نظرهم وأعجبهم هو أنهم رأوا عجوزًا تحمل قربة على ظهرها، فجاءهم شاب مراهق طائش فاسق فدفعها من الخلف فسقطت العجوز الضعيفة الواهنة، وسقطت قربتها فلما قامت نظرت إلى ذلك الشاب، وقالت له: "سوف تعلم يا غادر"، لأنه باغتها من الخلف وفاجئها بتلك الدفعة، "سوف تعلم يا غُدَر إذا نزل الله تعالى يوم القيامة لبسط القضاء وأحصى لكل إنسان ما له وما عليه، ووُفِّيت كل نفس ما كسبت كيف يكون جزاؤك على ما فعلت بي.

 

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صدقتْ صدقت، كيف يقدِّس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من قويهم"؟!

 

إذًا المشهد الذي لفت نظرهم مشهد من مشاهد الاعتداء على كرامة الإنسان، والتجبر والاعتداء على امرأة عجوز ضعيفة من جهة، ومن جهة أخرى العجب من مقالة تلك العجوز، فإنها مقالة صحيحة بأن الله تعالى سوف يبعث الأولين والآخرين، وسوف ينزل يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، وسوف ينتقم للمظلوم من ظالمه.

 

فأُعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- بمقالتها وأكد على صحتها بقوله صدقتْ صدقت.

ولما لم يكن لهذه العجوز من يأخذ لها بحقها من ذلك المعتدي كان ذلك الموقف أعظم وكان أشنع إذ لو كان في المجتمع عدلاً لما اجترأ السفيه على فعلته، وعقَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك المشهد بنفس المفهوم الذي عقَّب به على موقف الصحابة من ذلك الأعرابي الذي جاءه يطالبه بدينه، وقال: "كيف يقدِّس الله أمة لا يؤخذ من لضعيفهم من شديدهم".

 

كيف يبارك فيها؟! كيف ينصرها؟! كيف يثبت أركانها؟! إن العدل إذا انعدم أو ضعف فسوف يحل بالأمة الويل ولو بعد حين.

 

ولذلك ينبغي أيها الإخوة أن يراجع كل واحد منا حاله في بيته مع زوجته وأولاده وحاله مع من يتعامل معهم من أقارب أو أصدقاء أو عمال أو موظفين كيف هو من العدل؟ هل يبخس؟ هل يجور؟ هل يحيف؟ هل يظلم زوجته بأيّ أنواع الظلم أو لا يعدل بين أولاده؟ هل يؤخر رواتب العمال وهو قادر على الوفاء وعندهم من عندهم من أهاليهم هناك ينتظرون أقل المال؟ هل يسيء إليهم بكيد أو شتم أو ما شابه ذلك؟ هل يُسكنهم في صناديق أو أماكن لا تصلح حتى للحيوانات، وقس على ذلك بحسب موقع هذا الإنسان ومدى مساحة مسئولياته.

 

الحاصل أن التغيير لا يجري في الأمة إلا إذا غيَّرت من نفسها، ونواصل الحديث في مقام آتٍ إن شاء الله تعالى.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين..

 

 

المرفقات

(3) الأخلاق - العدل

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات