عناصر الخطبة
1/المنة ببعثة نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- 2/ مطابقة أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأفعاله 3/ غرس النبي -صلى الله عليه وسلم- لمبدأ القدوة في الناس 4/ حث الدعاة على دعوة الناس بالأفعالاقتباس
إن مما ميز دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعلها تسري في الآفاق، وتنتشر في الدنيا، وتستقر في القلوب، وتزكوا بها الأرواح، وتقتنع بها العقول: أنها دعوة تتعانق فيها الأقوال والأفعال، فإننا لا نجد في سيرته وفي مسيرته، ولا في حياته صلى الله عليه وسلم قولًا يخالف الفعل، ولا سلوكًا يخالف المبادئ التي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نستغفره ونستعينه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، أحمده وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأستغفره، اللهم لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد أن جعلتنا من أتباع المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، اللهم لك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله؛ أوله وآخره علانيته وسره، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
الله أكرم من رجوت نواله *** والله أكرم من ينيل نوالا
ملك تواضعت الملوك لعزه *** وجلاله سبحانه وتعالى
الحمد لله ستر القبيح، وأظهر الحسن، ما تنقضي عنا له منن حتى يجدد مثلها.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، وخيرته من خلقه، الرسول المرتضى، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من سلك سبيلهم، أو سار أو استنار بهدي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد:
معاشر المسلمين: بعث الله -جل وعلا- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
بعث الله -جل وعلا- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لينقذ العباد من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
بعث الله -جل وعلا- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالعدل والقسط.
بعث الله -جل وعلا- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لتزكية الأرواح، وتطيبها وتطهيرها مما حل بها من شرك الله -جل وعلا-.
بعث الله -جل وعلا- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حتى تطمئن القلوب، ببعثته، وتسعد الأرواح برسالته -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام-.
فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فما أتاه اليقين حتى أتم البلاغ المبين -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام-.
كانت دعوته صلى الله عليه وسلم رحمة بالعالمين، كان عليه الصلاة والسلام وهو الذي نعته الله -جل وعلا- في القرآن بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].
وإن مما يميز دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعلها تسري في الآفاق، وتنتشر في الدنيا، وتستقر في القلوب، وتزكوا بها الأرواح، وتقتنع بها العقول: أنها دعوة تتعانق فيها الأقوال والأفعال، فإننا لا نجد في سيرته وفي مسيرته، ولا في حياته صلى الله عليه وسلم قولًا يخالف الفعل، ولا سلوكًا يخالف المبادئ التي يدعو إليها صلى الله عليه وسلم.
لقد أتت الفلاسفة بقوانين، فأتى أفلاطون بجمهورية، وأتى الفارابي مدينته الفاضلة، لكنها مبادئ ليس لها تطبيق على أرض الواقع، بينما مسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمات تزلزل بها المنابر، وتسري في الآفاق، وتدخل إلى القلوب، وتستقر في الأذهان، فإذا بها أعمال توازي تلك الأقوال.
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما كان يدعو الآخرين بأقواله، كان صلى الله عليه وسلم يحثهم على الإسلام، والتقيد بمبادئه، والسير على منهجه، بأفعاله الكريمة صلى الله عليه وسلم.
ولهذا لا نستغرب إذا رأينا أن أحد المشركين يقف أمام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ناصبه العداء والكراهية، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورأى أفعاله وقاسها بأقواله، قال: والله إن هذا الوجه ليس بوجه كاذب.
لقد سرت تلك الأقوال في جوارحه وفي أركانه صلى الله عليه وسلم، حتى أصبح كما قالت أمنا -رضي الله عنها- عائشة بنت أبي بكر الصديق، حينما سئلت عن أخلاقه قالت: "كان خلقه القرآن" أرأيتم القرآن الذي تتلونه والآيات التي ترددونها هذه هي أخلاق محمد -صلى الله عليه وسلم-.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على تثبيت مبدأ القدوة في الناس، فهو النبي الذي يقف أمام صاحبته، وأمام قومه، ليقول لهم: "لا فضل لأسود على أبيض، ولا لعربي على أعجمي".
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
كم نقرأ هذه الآية؟ كم نرددها؟ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)؟ كم نعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف في خطبة عرفة وفي حجة الوداع، ليقول للناس بعد أن بعثه الله -جل وعلا-، ويرى الناس من كل حدب وصوب: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) لا فضل لأسود على أبيض ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى؟
هذا هو المعيار، وهذا هو الميزان.
لكنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ابن سيد من سادت قومه، وهو من بني هاشم، تلك القبيلة العظيمة التي أنجبت الأبطال، وأنجبت القادة، والتي كان لها الأثر العظيم في جزيرة العرب.
يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجل أن يكسر أمرًا من أمور الجاهلية التي استقرت في الأذهان، والتي -للأسف- لا يزال فئام من المسلمين يدينون بها، وهي أن المجتمعات تنقسم إلى: سادة، وإلى عبيد، سادة لهم ما لهم، والعبيد هم في الدرجة الثانية!
هذا الأمر حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال لصحابته: أربعة من أمور الجاهلية لا تتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت" أمور يحذر منها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكسر هذه الجاهلية، وأن يغير الأذهان، فهو الذي أتى بالقرآن، لكنه أراد أن يكسر هذا الأمر بفعله صلى الله عليه وسلم، فيأتي إلى أحد الصحابة الكرام، إلى زيد بن حارثة الرجل الوحيد الصحابي الوحيد من صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي ورد اسمه في القرآن، زيد بن حارثة حب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأقرب الناس إلى قلبه، زيد بن حارثة الذي أثبت الولاء الحقيقي لهذا الدين ولمحمد -صلى الله عليه وسلم- يخرج مع والدته، وهو غلام، فتغير عليهم جماعة، فيأخذونه ويذهبون به إلى سوق عكاظ، فيباع هناك كما يباع العبيد، ثم يشتريه حكيم بن حزام، ويهديه لعمته خديجة بنت خويلد، فلما حدث ذلكم الزواج الميمون بنبينا -صلى الله عليه وسلم- أهدت خديجة زيدًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
لم ينقطع أهل زيد عن ابنهم، فهم يحملون في قلوبهم الشفقة والرحمة، كما يحملها غيرهم، الفطرة التي فطر الله الناس عليها، محبة الوالد لولده، وشفقته عليه، بحث عنه فلم يجد له طريقًا، وإذا به يردد تلك الأبيات:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل *** أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري وإني لسائل *** أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل
ويا ليت شعري هل لك الدهر أوبة *** فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها *** وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
فأخبر أن زيدًا رؤي في مكة، فذهب أبوه حارثة ومعه إخوانه وقبيلته، حتى وصلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: يا محمد، يا نسل بني هاشم، أيها الكريم، وابن الكرماء، لقد أتى إليك ابننا وبحثنا عنه، فخذ من الأموال ما تشاء، وأطلق سراحه، فقد بكاه أباه وبكته أمه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أو أدلكم على ما هو خير من ذلك؟" قالوا: بلى، قال: "خيروه إن اختاركم يرحل معكم بدون مقابل، وإن اختارني فوالله ما أنا بمفرط في رجل قد اختارني"، قالوا: أنصفت أجدت وأحسنت، لم يكن يخطر في بالهم أن ابنهم سيختار أن يكون مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويترك أهله وعشيرته، قالوا: يا زيد إن أمك في انتظارك تبكيك، وتتألم لفراقك، وإن محمدا يخيرك بين البقاء معه وبين الرحيل معنا.
لم يفكر، لم يتردد، لم يتوانَ، وإنما قال سريعًا: "والله ما كنت لأختار أحدًا دون محمد -صلى الله عليه وسلم-".
أليس هذا هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وأهله وولده والناس أجمعين".
فاز زيد بمحبته لرسول الله، وفاز زيد بمحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفاز زيد أن خلد الله اسمه في القرآن، وسطر مواقفه في كتاب يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذا الرجل العظيم زيد بن حارثة الذي ينظر إليه الناس على أنه عبد، أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحطم هذا الصنم في رؤوس الناس، فإذا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقرر أن يزوجه ابن عمته زينب بنت جحش، إنها ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب.
الناس يرون أنه زواج غير متكافئ، أيزوج محمد ابن عمته وهي من بني هاشم إلى هذا العبد؟!
ذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى زينب، وقال لها: إني أريد أن أزوجكِ من زيد؟ قالت: يا رسول الله أتزوج زيدًا وأنا خير منه، فقالت: لا والله لأتزوجه، فأنزل الله -عز وجل-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36] فقالت: يا رسول الله أقبل به، فتزوجها زيد بن حارثة، الذي ينظر إليه على أنه من الرقيق، تزوج بسيدة من سادات قومها، ولم يمنعها ذلك، ولم يكن في هذا غظاظة، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يثبت لدى الناس جميعًا: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
تمر الأيام، فيحدث بين زيد وبين زوجته زينب ما يحدث بين الأزواج، فيقرر فراقها، فيأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي أخبره الله -جل وعلا- في عليائه: أن الله -عز وجل- سيزوجه من هذه المرأة، ولكن كيف يتزوجها وهي ابنة رجل يقول الناس عنه: إنه زيد ابن محمد!
فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستشاره في فراقها، فقال عليه الصلاة والسلام: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ)، قال الله -عز وجل-: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) [الأحزاب: 37] تخفي في نفسك الأمر الذي أخبرك الله به، وهو أنك تتزوج من هذه المرأة.
كل ذلك خشية من الناس، حتى لا يقولوا: إن محمدًا قد تزوج امرأة كانت لأحد أبنائه، قال الله: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا) [الأحزاب: 37] فلما طلقها زيد، واعتدت، تزوج بها النبي الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه-، استجابة لأمر الله وأمر رسوله، فعوضها الله -جل وعلا- بأن زوجها من خير الخلق أجمعين؛ إنه محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الزواج، وبهذه القدوة، وبهذا العمل عادتين جاهليتين، أما العادة الأولى، فهي: التبني، فقد كان زيد يقال عنه: زيد ابن محمد، فقال الله -عز وجل-: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) [الأحزاب: 5].
وقال جل وعلا: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب: 40].
وأبطل بها أيضًا: أن هذا الابن من التبني لا ينسب إلى أبيه، ولا ينسب إلى من انتسب إليه، وليس له أحكامه، وأبطل بها النبي -صلى الله عليه وسلم- عادة الجاهلية، وهي الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، ورسخ في قلوب الصحابة جميعًا: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
أيها المسلمون: يا أتباع محمد، يا حملة رسالته، يا حراس ملته، يا من تقومون بشريعته: إن تطبيق الإسلام للآخرين هو أعظم دعوة من قولنا، وأعظم رسالة نقدمها للأمة جميعًا، فسيروا على منهج رسول الله، قدموا الإسلام بالقدوة الحسنة، قدموا الإسلام كما قدمه النبي -صلى الله عليه وسلم-، تأملوا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتتبعوا وسائل التربية التي كان يقوم عليها صلى الله عليه وسلم، ويعمل بها بين الناس جميعًا، فإن منهاجه خير منهاج، وتربيته أزكى تربية، وتزكيته للنفوس أعظم تزكية -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام-.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا وهدى، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم طهر من قلوبنا أمور الجاهلية، وطهر من قلوبنا ما يبغضه الله ورسوله، وأحيي فيها القرآن والسنة، يا ذا الجلال والإكرام.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم