عناصر الخطبة
1/ نعمة بلوغ شهر رمضان 2/ فائدة الصوم في ضبط الغرائز 3/ كيف يكون استقبال رمضان 4/ الحكمة من فرض الصيام 5/ ما أعدته وسائل الإعلام في رمضان 6/ محنة القنوات الفضائية 7/ أثر القنوات في التربية والتوجيه 8/ أساليب القنوات في تغيير القناعات 9/ تحطيمها للقيم وخدشها للحياء 10/ وسائل تجديد الحياة في رمضاناقتباس
فما أشبه حال المنجذبين نحو هذه القنوات، والقابعين باستمرار لمتابعة الأطباق الفضائية، ما أشبه حال هؤلاء بحال الفَراش الذي يتساقط في النار لجهله واعتقاده النفع في النار المهلكة، لكن: هل الناس اليوم في غفلة عما يعرض في هذه القنوات؟! وهل يجهلون ما يبث لهم ليلاً ونهارًا عبر البث المباشر؟! ألم يشاهدوا الآثار التي طفحت على المجتمعات، وانعكست على شبابنا وفتياتنا؟!
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: كم تُطوى الليالي والأيام، وتنصرم الشهور والأعوام، فمن الناس من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وإذا بلغ الكتاب أجله فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
ومن يعش منكم فإنه يرى حلوًا ومرًّا، فلا الحلو دائم، ولا المرّ جاثم، وسيرى أفراحًا وأحزانًا، وسيسمع ما يؤنسه وسيسمع ما يزعجه، وهذه سنة الحياة، والليل والنهار متعاقبان، والآلام تكون من بعد زوالها أحاديث وذكرى، ولا يبقى للإنسان إلا ما حمله زادًا للحياة الأخرى، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
أيها المسلمون: لقد أظلكم شهر عظيم مبارك، كنتم قد وَعدتم أنفسكم قبله أعوامًا ومواسم، ولعل بعضكم قد سوّف وقصّر، فها هو قد مُدّ له في أجله، وأنسئ له في عمره، فماذا عساه فاعلاً؟!
إن بلوغ رمضان نعمةٌ كبرى يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون، وإن واجب الأحياء استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، إنها إن فاتت كانت حسرةً ما بعدها حسرة، أي خسارة أعظم من أن يَدخل المرء فيمن عناهم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بحديثه على منبره في مساءلةٍ بينه وبين جبريل الأمين: "من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين: فقلت آمين".
إن بلوغ الشهر أمنية كان يتمناها نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويسألها ربه، حتى كان يقول: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان".
في استقبال شهر الصوم تجديد لطيف الذكريات، وعهود الطهر والصفاء والعفة والنقاء، إنه شهر الطاعات بأنواعها، صيام وقيام، جود وقرآن، صلوات وإحسان، تهجد وتراويح، أذكار وتسابيح، له في نفوس الصالحين بهجة، وفي قلوب المتعبدين فرحة، وحسبكم في فضائله أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، ورُب ساعة قبول أدركت عبدًا فبلغ بها درجات الرضا والرضوان.
في الصيام تنجلي عند الصائمين القوى الإيمانية، والعزائم التعبدية، يَدَعُون ما يشتهون ويصبرون على ما يشتهون، في الصيام يتجلى في نفوس أهل الإيمان الانقياد لأوامر الله، وهجر الرغائب والمشتهيات، يَدَعُون رغائب حاضرة، لموعد غيب لم يروه، إنه قياد للشهوات وليس انقيادًا لها.
في نفوسنا -يا عباد الله- شهوةٌ وهوى، وفي صدورنا دوافع غضبٍ وانتقام، وفي الحياة تقلب في السراء والضراء وفي دروب العمر خطوب ومشاق، ولا يُدَافع ذلك كله، إلا بالصبر والمصابرة، ولا يُتَحمّل العناء، إلاّ بصدق المنهج وحسن المراقبة.
وما الصوم إلا ترويض للغرائز، وضبط للنوازع، والناجحون عند العقلاء هم الذين يتجاوزن الصعاب، ويتحملون التكاليف ويصبرون في الشدائد.
تعظم النفوس ويعلو أصحابها حين تترك كثيرًا من اللذائذ، وتنفطم عن كثير من الرغائب، والراحة لا تنال بالراحة، ولا يكون الوصول إلى المعالي إلا على جسور التعب والنصب، ومن طلب عظيمًا، خاطر بعظيمته، وسلعة الله غالية، وركوب الصعاب هو السبيل إلى المجد العالي، والنفوس الكبار تتعب في مرادها الأجسام.
فيا أهل الصيام والقيام: اتقوا الله تعالى وأكرموا هذا الوافد العظيم، جاهدوا النفوس بالطاعات، ابذلوا الفضل من أموالكم في البر والصلات، استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله، جددوا العهد مع ربكم وشدّوا العزم على الاستقامة، فكم من مؤمل بلوغه أصبح رهين القبور، قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
ها هو رمضان قد أقبل بنوره وعطره، وجاء بخيره وطهره، جاء ليربي في الناس قوة الإرادة ورباطة الجأش، ويربي فيهم ملكة الصبر، ويعودهم على احتمال الشدائد، والجلد أمام العقبات ومصاعب الحياة.
فرمضان مدرسة تربوية يتدرب بها المسلم المؤمن على تقوية الإرادة في الوقوف عند حدود ربه في كل شيء، والتسليم لحكمه في كل شيء، وتنفيذ أوامره وشريعته في كل شيء، وترك ما يضره في دينه أو دنياه أو بدنه من كل شيء، ليضبط جوارحه وأحاسيسه جميعًا عن كل ما لا ينبغي بتدربه الكامل في هذا الشهر المبارك، ليحصل على تقوى الله في كل وقت وحين، وفي أي حال ومكان، وذلك إذا اجتهد على التحفظ في هذه المدرسة الرحمانية بمواصلة الليل مع النهار على ترك كل إثم وقبيح، وضبط جوارحه كلها عما لا يجوز فعله؛ لينجح في هذه المدرسة حقًّا، ويخرج ظافرًا من جهاده لنفسه، موفرًا مواهبه الإنسانية وطاقاته المادية والمعنوية لجهاد أعدائه.
فحري بهذا الشهر أن يكون فرصة ذهبية، للوقوف مع النفس ومحاسبتها لتصحيح ما فات، واستدراك ما هو آت، قبل أن تحل الزفرات، وتبدأ الآهات، وتشتد السكرات.
أيها المسلمون: تمر أمتنا حاليًا بفترة هي من أشد وأحرج الفترات التي مرت عليها على مدى تاريخها، وكل الأمة مسؤولة عن هذا الواقع، وعليها أن تسارع وتبذل الجهود للتغيير ولإعادة الأمة إلى عزها ووضعها الطبيعي الذي يفترض أن تعيشه بين الأمم، أمة قائدة لا تابعة، عزيزة لا ذليلة، تحمي أبناءها وتحفظهم بإذن الله من كيد الأعداء وتنكيلهم.
وإن أهم جانب تقوم به الأمة لتُصلِح أوضاعها هو انطلاقتها القوية في العودة الصادقة إلى الله وتوبتها من أي ذنب وأي أمر لا يرضاه، وبذلها الجهود للواجب الكبير، واجب الدعوة أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر وتبصيرًا وهدايةً للغير ممن غفل عن الحق والهدى، وهذا هو الطريق الذي سيوصل الأمة إلى العزة والقوة والجهاد والنصر فيه بإذن الله، قال الله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد: 7]، وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
وهنا يأتي دوري ودورك -أخي المسلم- في أن نبدأ هذا المسير ونبدأ هذه الانطلاقة.
وشهر رمضان العظيم وفريضة الصيام، الركن الثاني من الدين، حكمتها الأساس تحقيق التوبة والتقوى، والابتعاد عما لا يرضي الله، والمسارعة إلى ما يحبه ويأمر به كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
أخي المسلـم: إن نياح الثكالى، وبكاء اليتامى، وآلام الجرحى، وصرخات المعذبين، وحسرات المشردين، ومعاناة المأسورين، كلها تدعوك لهذا التغيير وهذه الانطلاقة.
جراحُ المسلمينَ أسىً كئيبُ *** فما لكَ لا تُحسُّ ولا تُنيبُ!
وما لكَ لا تبالي بالمخازي *** تجلِّلهم فما هذا الغروبُ؟!
لياليهم مآس ٍ في مآسي *** فلا فجرٌ بعيدٌ أو قريبُ
وقد أضحى ثراهم دونَ حامٍ *** وبينَ بيوتهمْ شبَّ اللهيبُ
تلفُّهمُ الهمومُ بكلِّ حدبٍ *** ولولا الصبرُ ما كانت تطيبُ
كأنَّ مصائب الدنيا جبالٌ *** رستْ فوقَ القلوب ِفلا تغيبُ
يكادُ الصخرُ منْ حَزَن ٍعليهمْ *** يذوبُ وأنتَ قلبكَ لا يذوبُ
أتغفو ما خُلقتَ لمثل ِهذا *** وقلبكَ لم يؤججهُ الوجيبُ
أأنتَ وريثُ منْ أحيوا بعلمٍ *** عقولَ الناس ِفكرًا لو تجيبُ
فليتكَ والهمومُ مخيماتٌ *** إلى الإيمان والتقوى تؤوبُ
ولو لمْ تكنْ منّا لهانتْ *** مصيبتنا بمثلكَ يا حبيبُ
فإن لمْ تستجبْ منْ بعدِ هذا *** فلستُ إخالُ أنكَ تستجيبُ
أيها المسلمون: وفي وسط هذه الأزمات، ومع شدة البلاء بالأمة، ومع بداية موسم الخيرات، لا تزال وسائل الإعلام -مع كل أسف- تزيد الجرح إيغارًا، والمعاناة أسىً، لا يراعون حرمة الشهر، ولا يستحون من الخالق، يزيد نشرهم للفاحشة بين الذين آمنوا في شهر رمضان.
فاحذروا -يا عباد الله- ما أعدّه لكم أهلُ الانحلال، ودعاة الفساد والضلال، من برامج مضلة، ومشاهد مخِلّة، قومٌ مستولِغون لا يبالون ذَمًّا، ولا يخافون لومًا، وآمنون لا يعاقَبون يومًا، ومجرمون لا يراعون فطرًا ولا صومًا، عدوانًا وظلمًا، جرَّعوا الشباب مسموم الشراب، وما زادهم غير تتبيب، فتهييجٍ وتشبيب، وتدمير وتخريب.
إن أمتنا -إلا من عصم الله- تعيش اليوم مع القنوات الفضائية في محنةٍ لم تُكْره عليها، بل رغبت فيها، واستشرفت لها، وفتحت ذراعيها وتشبثت بأذيالها؛ لأن بعض المسلمين في حالة رغبة فيما يفسد دينهم ويخرب دنياهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
فما أشبه حال المنجذبين نحو هذه القنوات، والقابعين باستمرار لمتابعة الأطباق الفضائية، ما أشبه حال هؤلاء بحال الفَراش الذي يتساقط في النار لجهله واعتقاده النفع في النار المهلكة، لكن: هل الناس اليوم في غفلة عما يعرض في هذه القنوات؟! وهل يجهلون ما يبث لهم ليلاً ونهارًا عبر البث المباشر؟! ألم يشاهدوا الآثار التي طفحت على المجتمعات، وانعكست على شبابنا وفتياتنا؟!
كلا إنهم على علم، وربما سمعوا القصص المخجلة، وذاقوا هم بأنفسهم الآثار المدمرة لهذه القنوات ولوسائل الإعلام، لكنهم مبهورون، أسكرتهم الرغبة، وأعمتهم الشهوة، فلم يحركوا ساكنًا!
لقد استولت هذه القنوات على زمام التربية والتوجيه حسبما خطط لها وما يبث فيها، وهجم على الناس ليهدد الثروات، ويقتل الساعات، ويعرض المحرمات، وأطلت فتنة البث المباشر لتضييع أوقاتنا، وتعبيدنا لغير ربنا، واستذلالنا لننضم إلى القطيع الهائم الذي تردى في هاوية الرذيلة، وغرق في مستنقع الشهوات.
لقد صدرت عشرات الدراسات العلمية الجادة التي تكشف مخاطر التلفاز وآثار البث المباشر الخطيرة، وقليلة هي الدراسات التي تتناول المشكلة من منظور شرعي، على أساس الحلال والحرام، والولاء والبراء، والصلاح والفساد.
أيها المسلمون: إن أثر القنوات الفضائية يكاد يكون من أخطر أنواع التلوث الأخلاقي، وأعمقها في نفوس البشر، خصوصًا الشباب والأطفال.
إن الإسلام دين الستر، ندبنا إلى ستر العورات الحسية والمعنوية على المستوى الفردي والجماعي، وحرم الإسلام إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور: 19].
وأحاط الخلوة بين الزوجين بالسرية والاحتشام والستر، فجاء هاتك الأسرار ليمزق الحجب ويقتحم الأعين البريئة فيغتال براءتها، ويفسد فطرتها، فيتولى الإلحاح في عرض صور النساء في أبهى زينة وأكمل فتنة.
وبينما يحرم الإسلام هتك أسرار الزوجية المغيَّبة، إذا بهاتك الأستار يحول الغيب شهادة، والخبر معاينة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أشر الناس عند الله منـزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها".
إن من أسوأ آثار الفضائيات وأضرارها خدش الحياء وتحطيم القيم، ونشر الرذيلة، وقتل الغيرة على حرمات الله التي هي مادة حياة القلب، ولا ريب أن توالي هذه المشاهد المسموعة وتكرارها يجعلها مع الوقت شيئًا عاديًّا، فيروِّض المشاهِد على غض الطرف عن الفضائل وقبول الخيانة الزوجية، إلى غير ذلك من الأحوال، وهكذا تتعود القلوب رؤية مناظر احتساء الخمور والتدخين، وإتيان الفواحش، والتبرج والاختلاط، وتألف النفوس هذه الأحوال ويكون التطبيع مع المعاصي والكبائر والدياثة؟!
فيا أولياء أمور البنين والبنات: لا أظن أن خطر القنوات الفضائية لم يعد واضحًا لكل عاقل، فإني أخاطب الإيمان الذي في قلوبكم، وأخاطب الإسلام الذي تعتنقون، ونحن في شهر رمضان، وأنتم أعلم مني بأن ما يعرض في بيوتكم عبر هذه الدشوش يخالف إسلامكم الذي تعتنقون، ويضاد إيمانكم الذي تحملون، أما وصلت بك الجرأة -أيها الأب- أن تصارح أهل بيتك بأن هذا الذي أدخلناه كان خطأً ولا عيب أن يخطئ الرجل ثم يصحح ويتراجع، أم أنك ضعيف إلى هذا الحد أمام أهل بيتك ولا تستطيع المواجهة وأنت رجل؟!
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، نصيحة مشفقٍ عليكم أقولها لكم، انجوا بأنفسكم من النار، انجوا بأنفسكم من النار، ولعل شهر رمضان فرصة للتوبة والرجوع إلى الله وتصحيح الماضي.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد أطل علينا هذا الشهر بظلاله ونواله، وجماله وجلاله، زائرٌ زاهر، وشهر عاطر، فضله ظاهر، بالخيرات زاخر، أرفع من أن يُحدَّ حسنُ ذاته، وأبدع من أن تُعدَّ نفحاتُه، وتحصى خيراته، وتستقصى ثمراته، فلا ترى إلا عابدًا يركع، وقارئًا يرتّل ويخشع، يرقُّ قلبه ويدمع، بآيات تجلو الصدى، وتذهب الظما، فاحمدوا الله أن بلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إليه ومكَّنكم، فكم من طامع بلوغَ هذا الشهر فما بلغه، كم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه، فاجأه الموت فأهلكه.
أيها المسلمون: بلغناه وكم حبيب لنا فقدناه، أدركناه وكم قريب لنا واريناه، صُمناه وكم عزيز علينا دفناه، رحيلُ من رحل عنا نذيرٌ لنا، وهذا الموت منا قد دنا، والرحيل قرب ولا زاد عندنا، فالتوبة التوبة قبل أن لا توبة تُنال، ولا عثرة تُقال، ولا يُفدى أحد بمال، فحُثوا حزم جزمكم، وأروا الله خيرًا من أنفسكم، فبالجد فاز من فاز، وبالعزم جاز من جاز، واعلموا أن من دام كسله خاب أمله، وتحقَّق فشله، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره". أخرجه مسلم.
يا عبد الله: هذا أوان الجد إن كنت مجدًّا، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعدًّا، هذا نسيم القبول هبّ، هذا سيل الخير صبّ، هذا الشيطان كبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين". متفق عليه.
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله–صلى الله عليه وسلم-: "إذا كانت أول ليلة من رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير: أقبل، ويا باغي الشر: أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة". أخرجه ابن ماجه.
يا عبد الله: هذا زمان الإياب، هذا مغتسلٌ بارد وشراب، رحمة من الكريم الوهاب، فأسرعوا بالمتاب، فقد قرب الاغتراب، في دار الأجداث والتراب.
يا من ألِف الذنوب وأجرمَ *** يا من غدا على زلاته متندمًا
تُب فدونك المنى والمغنمَ *** والله يحب أن يجود ويرحمَ
وينيل التائبين فضلَه تكرمًا
فطوبى لمن غسل في هذا الشهر درن الذنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوْت الأوبة.
يا أسير المعاصي، يا سجين المخازي: هذا شهرٌ يُفَكّ فيه العاني، ويعتق فيه الجاني، ويتجاوَز عن العاصي، فبادر الفرصة، وحاذر الفوتة، ولا تكن ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينل فيه الغفران والمنى.
أيها الصائمون: إن أولى ما قُضِيت فيه الأوقات وصُرفت فيه الساعات مدارسة الآيات وتدبّر البينات والعظات، وقد "كان جبريل -عليه السلام- يلقى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن". متفق عليه.
هذا شهر الإنفاق، والبذل والإشفاق، تذكروا الأكباد الجائعة، أهلَ الخصاصة الذين أصابتهم البوائق والقوارع، ممن يعانون عُدمًا، ويعالجون سقمًا، أعينوهم وأغنوهم: (وَأَطْعِمُواْ الْقَـانِعَ وَلْمُعْتَرَّ) [الحج: 36]، وأغيثوا الجائع والمضطر، وأنفقوا ولا تحصوا فيحصي الله عليكم.
أيها المسلمون: إن رمضان نفحة إلهية، وعطية ربانية، يستطيع المرء أن يجدد حياته ويبعث فيها الأمل، ومن الوسائل التي تجدد الحياة في رمضان:
أولاً: وقت السحر، وهو الوقت المبارك الذي يضيعه أغلب الناس في أغلب العام، فيأتي رمضان لينبههم عليه، فيوقظهم ليتقووا من خلال الطعام، ولكن كثيرًا من الناس يقضون هذا الوقت في الطعام وينسون الحديث الشريف: "إن الله ينـزل في الثلث الأخير من كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا هل من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! حتى يطلع الفجر".
ثانيًا: صلاة الفجر في المسجد، وهي كذلك يضيعها الناس في سائر أوقات السنة، فيأتي رمضان ليوقظ في أنفسهم أن هناك صلاة مشهودة في المسجد قال الله عنها: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الإسراء: 78].
ثالثًا: الدعاء والإكثار منه، ولاسيما في هذا الشهر المبارك؛ حيث إن دعاء الصائم مستجاب كما ورد في الحديث الشريف: "ثلاثة لا ترد دعوتهم -وذكر منهم- الصائم حتى يفطر"، وفي رواية: "والصائم حين يفطر".
فاستكثروا من الدعوات الطيبات في شهر النفحات، لكم ولأنفسكم ولأهليكم وذويكم، وارفعوا أكفَّ الضراعة، وتوسَّلوا إلى الله بألوان الطاعة، أن ينصر إخوانكم المستضعفين والمشرَّدين والمنكوبين والمأسورين والمضطهدين في كل مكان، فالأمة تمرّ بأقسى ظروفها، وأقسى أزمانها، المؤامرات تُحاك، والمكائد تدبَّر، ولا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، ولا نتوكل إلا عليه، وهو المستعان على كل فادحة، والمستغاث عند كل فاجعة، فألحّوا على الله بالدعاء، وارفعوا إليه الشكوى والنداء، واحذروا الموانع، وابتعدوا عن القواطع، وتسلَّحوا بسلاح الإيمان واليقين، واعلموا أن ذلك ابتلاء من الله وامتحان، لتنهض الأمة من سباتها وتفيق، وتعرف العدو من الصديق، وترجع إلى دينها بالتحقيق والتطبيق.
رابعًا: قراءة القرآن والتفكر والتدبر؛ فهذا الشهر هو شهر القرآن: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185]، ويستحب للمسلم أن يختم المصحف ولو مرة واحدة مع مراعاة التفكر والتدبر.
اللهم تقبل صيامنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم