عناصر الخطبة
1/الابتلاء يكون بالخير والشر 2/مفهوم الدَّين لغة واصطلاحا 3/تشديد الشرع في أمر الدين 4/مفاسد الدَّين على الفرد والمجتمع 5/بعض أحكام الدَّين.اقتباس
وإنما كان شينا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال، والهم اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه، وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنّ الحمدَ لله، نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا الله حق التقوى؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
فيا أيها الناس: اتقوا الله -جل وعلا- وراقبوه، واعلموا أنكم ملاقوه، فأعدوا لهذا اللقاء عدته، فما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان.
عباد الله: إن الله يبتلي عباده بالخير والشر، وبالسراء والضراء، كما قال -سبحانه-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء: 35]، فمن العباد من تفتح عليه الدنيا بغير تعب ولا كد، ومنهم من تضيق عليه معيشته فيكدُّها كدا، والله هو الحكيم العليم، يعطي كل خلق ما يناسبه، كما قال -سبحانه-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)[الشورى: 27].
أيها المؤمنون: يعمد بعض الناس -هداهم الله- إلى طلب القرض من الآخرين لأي سبب يمر به، وقد يخفى عليهم تحذير الشرع من الدَّين وبيان خطره، ويعرف الفقهاء الدَّين بأنه: "لزوم حق في الذمة"، كما في الموسوعة الفقهية (21/102)، ومعاني الدَّينِ اللغوية تدور حول الانقياد والذل، وبين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي رابط ظاهر؛ فإن المدِين أَسيرٌ كما أخرج أبو داود في سننه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ".
وقد جاءت الشريعة الإسلامية بالتشديد في أمر الدين، والتحذير منه، والترغيب في احتراز المسلم منه، ما أمكنه ذلك، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في الصلاة: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ"، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟! فَقَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ -أي: استدان- حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ"، وروى النسائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟"، فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ".
ومن الترهيب في الدين ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم، إن قُتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب، مقبِل غير مدبر"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كيف قلت؟"، قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفَّر عني خطاياي؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدَّين؛ فإن جبريل -عليه السلام- قال لي ذلك".
وفي مسند الإمام أحمد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك الصلاة على من مات وعليه ديناران، حتى تكفل بسدادهما أبو قتادة -رضي الله عنه-، فلما رآه من الغد وقال له قد قضيتها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ"، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في (فتح الباري): "وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة" انته.
وأخرج الترمذي في سننه من حديث ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ: الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ"، وأخرج الترمذي في سننه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ"، قال المباركفوري في (تحفة الأحوذي): "قوله: "نفس المؤمن معلقة" قال السيوطي: أي: محبوسة عن مقامها الكريم، وقال العراقي: أي: أمرها موقوف لا حكم لها بنجاة ولا هلاك؛ حتى ينظر: هل يُقضى ما عليها من الدين أم لا؟" انتهى.
وقد جاء عن كثير من السلف التحذير من الدين أيضا، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "إيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ".
اللهم إنا نعوذ بك من المأثم والمغرم، أقولُ ما سمِعْتُم، وأَستغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولَكُم ولِسائر المسلمين مِن كُلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاسْتغفِرُوه وتُوبوا إليْهِ؛ إنَّه هو الغفور الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها الناس: سمعنا ما ورد في السنة من التشديد في أمر الدين، وأخذ أموال الناس، ولم يأت كل هذا التشديد في أمر الدين إلا لما فيه من المفاسد على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع.
أما على مستوى الفرد فيقول القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن): "قال علماؤنا: وإنما كان شينا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال، والهم اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه، وربما يعد من نفسه القضاء فيخلف، أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف له فيحنث، إلى غير ذلك، وأيضا فربما قد مات ولم يقض الدين فيرتهن به".
وأما على مستوى المجتمع فإن كثرة الاستدانة من الناس وعدم السداد من الكثير، تغلق باب القرض الحسن، وتورث العداوة والقطيعة بين الناس، وتفتح باب الانهماك في الكماليات ومالا حاجة فيه.
عباد الله: يجوز للعبد أن يقترض عن الحاجة، وقد حث الشرع الأغنياء على القرض الحسن، وجعله خير من الصدقة، ولكن له شروط أربعة:
الأول: أن يكون المستدين عازما على الوفاء.
ثانياً: أن يعلم أو يغلب على ظنه قدرته على الوفاء.
ثالثاً: أن يكون في أمر مشروع مباح.
رابعاً: أن يستدين من الكريم الباذل الذي يغلب على ظنه أنه لا يرده.
وإن الذي يقترض وهو عازم على السداد يعينه الله، كما أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا؛ أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا؛ أَتْلَفَهُ اللَّهُ".
أيها الناس: من كان عليه دين فليعجل بسداده ولا يماطل؛ فإنه أبرأ لذمته، وأسعد لمن أقرضه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم