عناصر الخطبة
1/ التحذير من الغفلة 2/ احتفالات الأغاني من المجاهرة بالمعاصي 3/ أقوال أهل العلم في الغناء 4/ مفاسد الغناء وأضراره.اقتباس
من المجاهرة بالمعصية إقامة الاحتفالات الغنائية, وهو نذير شؤم ومفتاح عظيم من مفاتيح العقوبات وتسلط الأعداء, ومؤذنٌ بانهزام المسلمين أمام أعدائهم؛ فالنصر على العدو لا يكون باحتفالات الأغاني والطرب واللهو, إنما يكون بكثرة الطاعات ومنع المحرَّمات, والأخذ بيد الحزم والقوة على من يريد إقامة هذه الاحتفالات الغنائية المحرمة, التي تؤخر ولا تقدم, وتتعس ولا تسعد, وتفقر ولا تغني, وتسخط الله ولا ترضيه...
الخطبة الأولى:
الحمدلله الذي أمدَّنا بالنعم, وجعلنا خير أمة أخرجت للناس, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما, أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون- وأطيعوا ربكم, فإنكم بطاعته تسعدون وبمعصيته تشقون.
أيها المؤمنون: إنَّ الغفلة عن ذكر الله -تعالى- والخلود إلى الملهيات والصدود عن أوامر الله -جل وعلا- أمر خطير وجرم كبير, فالغفلة متابعة النفس على ما تشتهيه, وإضاعة الوقت بالبطالة, قال -تعالى- آمرا عباده بذكره وناهيا لهم عن الغفلة: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف: 205], قال معاذ -رضي الله عنه-: "ليس تحسر أهل الجنة إلا عن ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها", وقال ابن القيم -رحمه الله-: "من كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه, فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه, فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقاً ولا ينكر باطلاً وهذا أعظم عقوبات القلب".
أيها المسلمون: إنَّ من الغفلة عن ذكر الله مبارزة الله بالمعاصي, وأعظمها إثماً معصيةٌ يجاهرُ صاحبُها بها فلا يلقى يداً آخذة عليه, وآطرة له ليسلك طريق الحق, وإنَّ إقامة احتفالات الأغاني لهي من المجاهرة بالمعاصي التي يخشى أن تعمَّ عقوبتها الآمر والداعي لها والفاعل والساكت, قال -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [لقمان: 6], قال الماوردي -رحمه الله-: "فيه سبعة تأويلات: أحدها: شراء المغنيات لرواية القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغنِيَاتِ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ فِيهِنَّ وَلاَ أَثْمَانُهُنَّ وَفِيهِنَّ أنزَلَ اللَّهُ -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ), الثاني: الغناء, قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وابن جبير وقتادة. الثالث: أنه الطبل والمزمار. الرابع: أنه الباطل. الخامس: أنه الشرك بالله, قاله الضحاك وابن زيد. السادس: أنَّه ما ألهى عن الله -سبحانه-, قاله الحسن. السابع: أنه الجدال في الدين والخوض في الباطل قاله سهل بن عبد الله".
وقال السعدي -رحمه الله- عن لهو الحديث أنه "الأحاديث الملهية للقلوب، الصادَّة لها عن أجلِّ مطلوب, فدخل في هذا كل كلام محرم، وكل لغو، وباطل، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر، والفسوق، والعصيان، ومن أقوال الرادين على الحق، المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، ومن غيبة، ونميمة، وكذب، وشتم، وسب، ومن غناء ومزامير شيطان، ومن الأمور الملهية، التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا, فهذا الصنف من الناس، يشتري لهو الحديث، عن هدي الحديث (لِيُضِلَّ) الناس (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: بعدما ضل بفعله، أضل غيره، لأن الإضلال، ناشئٌ عن الضلال, وإضلاله في هذا الحديث; صده عن الحديث النافع، والعمل النافع، والحق المبين، والصراط المستقيم".
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "الأغاني من المنكرات، ومن أسباب مرض القلوب وقسوتها، والضلال عن الحق", وقال أيضا -رحمه الله-: "ذهب أكثر علماء الإسلام وجمهور أئمة الهدى إلى تحريم الأغاني وجميع المعازف، وهي آلات اللهو كلها، وأوجبوا كسر آلات المعازف وقالوا: لا ضمان على متلفها، وقالوا: إن الغناء إذا انضم إليه آلات المعازف، كالطبل والمزمار والعود وأشباه ذلك، حرم بالإجماع".
أيها المسلمون: إنَّ الاستماع إلى الأغاني تفسد القلب وتلهي عن ذكر الله -تعالى- وتدعو إلى اقتراف معاص أخرى, وقد سأل سائل اللجنة الدائمة للإفتاء بقوله: هل يجوز لي سماعُ بعض الأغاني؟ فأجابت بأنه: "لا يجوز لك أن تستمع الأغاني، بل عليك أن تتجنبها، فإنها مفسدة للقلب، وذريعة إلى الشر، وملهاة عن الخير، وكذا الموسيقى، وسائر أنواع اللهو".
عباد الله: إن نهي الإسلام عن استماع الأغاني إنما هو من كمال الإسلام, حيث إنَّه نهى عن كل إثم يضرُّ الواقع فيه فردا كان أو جماعة من الناس, ولما فيها من المفاسد والعواقب الوخيمة التي تُخلِّف زيغاً وضلالا عن سبيل المؤمنين, وتعجِّلُ عقوبة الله ومقته وسخطه, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ -يَعْنِي الفَقِيرَ- لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ" (أخرجه البخاري).
أيها المسلمون: في الحديث قرن المعازف التي هي آلات اللهو والطرب والداعية إلى الغفلة, واقتراف الإثم قرنها بالخمر والزنا ولبس الحرير المحرم على الذكور؛ لارتباط بعضها ببعض ارتباطا وثيقاً فكل هذه المحرمات تتجانس مع بعضها, وصلةُ الأغاني وثيقة بالزنا حيث إنها مزمار الشيطان وبريد الزنا, قال ابن القيم -رحمه الله-: "قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الْقُبْلَةَ بَرِيدُ الْجِمَاعِ، وَالْغِنَاءُ بَرِيدُ الزِّنَا، وَالنَّظَرُ بَرِيدُ الْعِشْقِ، وَالْمَرَضُ بَرِيدُ الْمَوْتِ" انتهى ما قاله رحمه الله.
وقال الله -تعالى- للشيطان: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [الإسراء: 64], قال السمعاني -رحمه الله- في تفسير قوله (بصوتك): "قَالَ مُجَاهِد: هو الْغناء وَاللَّهْو، وَقَالَ الْحسن: الدُّف والمزمار، وَقيل: كل صَوت يَدْعُو إِلَى غير طَاعَة الله، وَقيل: كل كَلَام يتَكَلَّم بِهِ فِي غير ذَات الله" انتهى ما قاله -رحمه الله-.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: "ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف، واستماع الأغاني، واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء", وقال ابن القيم -رحمه الله-: "من المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية، ولهذا فُسِّرَ صوتُ الشيطان به", وقال الضحاك: "الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب", وقال يَزِيد بْن الوليد: "يا بني أمية: إياكم والغناء؛ فإنه يَزِيد الشهوة, ويهدم المروءة, وأنه لينوب عَنِ الخمر ويفعل مَا يفعل السكر, فَإِن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء؛ فَإِن الغناء داعية الزنا".
أيها المسلمون: قال -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" (متفق عليه).
وإنَّ من المجاهرة بالمعصية إقامة الاحتفالات الغنائية, وهو نذير شؤم ومفتاح عظيم من مفاتيح العقوبات وتسلط الأعداء, ومؤذنٌ بانهزام المسلمين أمام أعدائهم؛ فالنصر على العدو لا يكون باحتفالات الأغاني والطرب واللهو, إنما يكون بكثرة الطاعات ومنع المحرَّمات, والأخذ بيد الحزم والقوة على من يريد إقامة هذه الاحتفالات الغنائية المحرمة, التي تؤخر ولا تقدم, وتتعس ولا تسعد, وتفقر ولا تغني, وتسخط الله ولا ترضيه, وتَستجلب النقم وتُزيل النعم.
وأنتم ترون -يا عباد الله- كيف تسلط أعداؤنا علينا؟ وكيف تكالبوا علينا؟ وما ذلك إلا لكثرة المعاصي والبعد عن الله, واللهو والغفلة عن ذكر الله وطاعته, فالواجب على ولاة أمور المسلمين في العالم الإسلامي منعُ الاحتفالات الغنائية وعدمُ التمكين لأهلها؛ لئلا يفسدوا بها البلاد والعباد, والواجب على عموم المسلمين أن ينكروا هذا المنكر كل حسب استطاعته, قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" (مسلم), قال النووي -رحمه الله-: "وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ أَعْنِي بَابَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ قَدْ ضُيِّعَ أَكْثَرُهُ مِنْ أَزْمَانٍ مُتَطَاوِلَةٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ إِلَّا رُسُومٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ بِهِ قِوَامُ الأمر وملاكه واذا كثر الخبث عَمَّ الْعِقَابُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ وَإِذَا لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِ الظَّالِمِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ -تعالى- بِعِقَابِهِ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]".
فاحرصوا يا عباد الله على إنكار المنكر ولا تتهاونوا في ذلك اعتمادا على غيركم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم