عناصر الخطبة
1/ الاستبشار بالأمطار 2/ تفكُّرٌ في خَلْقها 3/ مشابهة إحيائها الأرض بالبعث وإحياء العلم القلوب 4/ استحالتها لنقمة 5/ أقوال وأفعال ينبغي تعاهدها عند نزول الأمطار 6/ شكر نعمة المطر 7/ تأمل واعتبار في البروق والرعوداقتباس
ترى الفرح في وجوه الناس عند نزول المطر, ترى البشر يعلو محياهم, ومن ذا الذي لا يفرح بالمطر, حين ينزل من الله ولا يعقبه عذاب ولا غرق؟ الغيث الذي لو شاء الله لأصبح عذاباً, والمطر الذي لو شاء الله لجعله غرقاً, الكثير من الناس لا يتأمل في المطر ونزوله, ويغفل عن التأمل في قدرة الله وملكوته, والمؤمن كل شيء يذكره بعظمة الجليل -سبحانه-.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الخبير البصير الوليّ الحميد؛ خلق كل شيء بقدر، ورزق عباده بقدر: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرض وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى:27]، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو -سبحانه- مبتدئ النعم ومتمّمها، وهو الذي يباركها ويحفظها.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: [بماء الغيث تحيا الأرض وتزدان، ويفرح الناس به والأنعام، فهو أثر لرحمة الرحمن الرحيم في عباده؛ به يزيل الله -تعالى- يأسهم، ويُذهِب رِجزهم، ويُجلي همّهم، ويكشف كربهم، ويرفع الضرّ عنهم: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ) [الأنفال:11].
مِن غيثه المبارك يشربون، ومن نتاجه يأكلون، وبه يتطهرون: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:10]. من خطبة الحقيل.
فحق للناس أن يتحرّوه وينتظروه، وحق لهم أن يتناقلوا أخباره، وحق لهم إذا سقوا أن يفرحوا، ومن لا يفرح بأثر رحمة الله -تعالى- في عباده؟! (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا) [الروم:48]؟.
شهد الجميع امتنان الله بالمطر فاستبشروا, ولا غرو؛ فهو زينة للأرض، وغوث للعباد، وسقيا للبهائم والأشجار, وذلك من فضل الله علينا: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى:28].
فوالله! لولا الله ما سقينا، ولا تنعّمنا بما أوتينا, لولا لطف الله ورحمته لما أغثنا, لولا عفو الله لأجدبنا! (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ) [الملك:30]، (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) [الواقعة:68-70].
ترى الفرح في وجوه الناس عند نزول المطر, ترى البشر يعلو محياهم, ومن ذا الذي لا يفرح بالمطر, حين ينزل من الله ولا يعقبه عذاب ولا غرق؟ الغيث الذي لو شاء الله لأصبح عذاباً, والمطر الذي لو شاء الله لجعله غرقاً, الكثير من الناس لا يتأمل في المطر ونزوله, ويغفل عن التأمل في قدرة الله وملكوته, والمؤمن كل شيء يذكره بعظمة الجليل -سبحانه-.
قال ابن القيم: ومن آياته السحاب المسخر بين السماء والأرض، كيف ينشئه -سبحانه- بالرياح فتثيره كسيفاً, ثم يؤلف بينه, ويضم بعضه إلى بعض, ثم تلقِّحُه الريح -وهي التي سماها -سبحانه- لواقح-، ثم يسوقه على متونها إلى الأرض المحتاجة إليه, فإذا علاها واستوى عليها, أهراق ماءه عليها فيرسل -سبحانه- الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه؛ لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته, حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه أقلع عنها وفارقها, فهي روايا الأرض محمولة على ظهور الرياح.
وبالجملة، فإذا تأملت السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جوٍّ صافٍ لا كدورة فيه, وكيف يخلقه الله متى شاء, وإذا شاء, وهو -أي: السحاب- مع لِينه ورخاوته حاملٌ للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى أن يأذن له ربه وخالقه في إرسال ما معه من الماء فيرسله وينزله منه مقطعاً بالقطرات, كل قطرة بقدْر مخصوصٍ اقتضته حكمته ورحمته, فيرش السحابُ الماء على الأرض رشاً, ويرسله قطرات مفصلة, لا تختلط قطرة منها بأخرى, ولا يتقدم متأخرها, ولا يتأخر متقدمها, ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمزج بها, بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رُسِم لها, لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرةً قطرةً, قد عُيِّنَتْ كلُ قطرةٍ منها لِجزءٍ من الأرض لا تتعداه إلى غيره, فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا منها قطرةً واحدة, أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه, فتأمل: كيف يسوقه -سبحانه- رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل؟ يسوقه رزقا للحيوان الفلاني, في الأرض الفلانية, بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدّة من الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا.
وقال -رحمه الله-: ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة، حتى إذا أخذت الأرض حاجتها منه, وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها أقلع عنها، وأعقبه بالصحو, فهما -أعني الصحو والغيم- يعتقبان على العالم لما فيه صلاحه, ولو دام أحدهما كان فيه فساده, فلو توالت الأمطار لأهلكت ما على الأرض, ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوب والثمار، وعفّنت الزروع والخضروات، وأرخت الأبدان، وحشرت الهواء، فحدثت ضروب من الأمراض، وفسد أكثر المآكل، وتقطعت المسالك والسبل؛ ولو دام الصحو لجفت الأبدان، وغيض الماء، وانقطع معين العيون والآبار والأنهار والأودية، وعظم الضرر, فاقتضت حكمة اللطيف الخبير أن عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم، فاعتدل الأمر، وصح الهواء واستقام أمر العالم وصلح, فلله الحمد على ما قضى وقدّر. اهـ.
عباد الله: ومن عجيب أمر المطر أنك ترى الأرض تحيا به بعدما كانت ميتة, وتُزهِر بعد أن كانت جدبة, وذاك مثل ضربه الله ليبين للعبد قدرته على إحياء الخلق بعد موتهم, وعودتهم بعد رحيلهم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ? إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ? إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39].
وحين ترى المطر ينزل بأرضٍ فتتنوع أحوالها, فاذكر أن الناس كذلك يتنوعون حين يأتيهم الوحي والعلم, فمن منتفع, ومِن مقفر, وفي الصحيح، عن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به". قال ابن القيم: فشبه -صلى الله عليه وسلم- العلم الذي جاء به بالغيث؛ لأن كلا منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان، والعلم سبب حياة القلوب".
عباد الله: وإذا كان المطر في الأصل رحمة فإنه قد يكون عذاباً, والقلوب الحية حين ترى الرياح وتخيل السماء فقد توجل قلوبهم, ورسول الله -وهو رسول الله- كان إذا تخيلت السماء تغير لونه ودخل وخرج حتى إذا أمطرت سري عنه.
المطر الذي يبعثه الله رحمة ويحيي به الأرض بعد موتها, قد جعله ربنا على قوم آخرين عذاباً: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً) [الفرقان:37]، وقال: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) [الحاقة:11]، وقال: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر:11-12].
المطر قطرات من ماءٍ، إذا زادت أغرقت وجرفت, وفتكت ودمرت, وهذا صنع الله وقدرته في الماء الذي هو أيسر الأشياء؛ فما الظن بما هو أعظم منه؟! كم رأى الناس من فيضانات مدمرة، وأعاصير مهلكة, وأمطار مغرقة, تقف أمامها القوى عاجزة, ولا يملك الناس وهم يرون سيلها وسيرها, وعظمها وأثرها، إلا أن يذعنوا لله، وينسبوا له القدرة.
معشر الكرام: وعند نزول المطر أقوال وأفعال ينبغي تعاهدها شكراً للنعمة, فقول: "مطرنا بفضل الله ورحمته", سنة ينبغي قولها عند المطر, مع استشعار القلب أن المطر هو من الله وحده, وقول المرء: "اللهم صيباً نافعاً", و"صيباً هنيئاً"، سنّة ينبغي قولها حين تهطل الأمطار, لأن المطر إن لم يكن نافعاً, فربما كان عذاباً.
وأما عند صوت الرعد، فنقل عن ابن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته! إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض".
وحين تنزل الأمطار كان المصطفى المختار يحسر ثوبه ليناله المطر, وقال: "إنه حديث عهد بربه", وروى عن ابن عباس أن السماء أمطرت، فقال لغلامه: "أخرج فراشي ورحلي, أخرج كذا وأخرج كذا يصيبه المطر"، فقال أبو الجوزاء لابن عباس: لم تفعل هذا، يرحمك الله؟! فقال: أما تقرأ كتاب الله: (ونزلنا من السماء ماء مباركا)؟ فأحب أن تصيب البركة فراشي ورحلي"، وروى ابن حرملة أنه رأى ابن المسيب في المسجد ومطرت السماء وهو في السقاية، فخرج إلى رحبة المسجد ثم كشف عن ظهره للمطر حتى أصابه ثم رجع إلى مجلسه, وكانَ علي -رضي الله عنه- إذا مطرت السماء خرج، فإذا أصاب صلعته الماء مسح رأسه ووجهه وجسده، وقال: "بركة نزلت من السماء، لم تمسها يد ولا سقاء".
فاللهم ارزقنا بركتك, وزدنا من غيثك وفضلك, واجعل ذلك قوة وبلاغاً لنا إلى طاعتك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مالك الخزائن والخيرات, ومجزل النعم والبركات, ورب الأرض والسماوات, نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، فَالْخَيْرُ بِيَدَيْهِ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ.
معشر الكرام: نِعمٌ تستحق من ربنا الشكر, تنام آمناً, وتصحو على أصوات الرعود المفزعة والأمطار الهاطلة, ما طُلِب منك مقابل, وما انهدم لك بيت, وما تلف لك مال, فاحمد ربك على كل حال.
رأى الناس في المطر قرب غِيَرِ الله, ويُسر فرجه, وسرعة حلول بركاته, فما هو إلا يسير حتى رأيت الأرض ازينت وأخذت زخرفها.
تُرِيك الرعودُ القوية, والأصواتُ الرهيبة أثراً من آثار قوته, وهو صوت رحمة, فكيف بصوت العذاب؟ وقد كان عمر بن عبد العزيز واقفاً مع سليمان بن عبد الملك أيام خلافته فسمع صوت رعدٍ ففزع سليمان منه ووضع صدره على مقدم رحله, فقال له عمر: "هذا صوت رحمته، فكيف صوت عذابه؟".
تذكرك الرعود المفزعة بإخوة لنا في حلب وغيرها ينامون ويصحون على صوت المتفجرات, من أثر الحروب؛ فاللهم الطف بهم، وانصرهم، واكبت عدوهم.
تريك البروق الخاطفة قدرة ربنا على تغيير الليل البهيم إذا أراد إلى صبح مضيء, وهو على كل شيء قدير.
وبعد: عباد الله، فالمطر نعمة, وموطن فرح واستبشار, وأوان تعبد واعتبار؛ فكونوا للمولى شاكرين, وبإفضاله لاهجين, ولأوامره مؤدين, وعن معاصيه مباعدين, فلله الحمد على ما أنزل.
اللهم اجعل الغيث الذي سقيتنا سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم